معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَقَلَّتۡ سَحَابٗا ثِقَالٗا سُقۡنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَآءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ كَذَٰلِكَ نُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (57)

قوله تعالى : { وهو الذي يرسل الرياح بشرًا } قرأ بالباء وضمها ، وسكون الشين هاهنا وفي الفرقان ، وسورة النمل ، ويعني : أنها تبشر بالمطر بدليل قوله تعالى : { الرياح مبشرات } [ الروم :46 ] وقرأ حمزة والكسائي ( نشرًا ) بالنون وفتحها ، وهي الريح الطيبة اللينة ، قال الله تعالى : { والناشرات نشرًا } [ المرسلات :3 ] وقرأ ابن عامر بضم النون وسكون الشين ، وقرأ الآخرون بضم النون والشين ، جمع نشور ، مثل صبور وصبر ، ورسول ورسل ، أي متفرقة وهي الرياح التي تهب من كل ناحية .

قوله تعالى : { بين يدي رحمته } أي : قدام المطر .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا الثقة عن الزهري ، عن ثابت بن قيس عن أبي هريرة قال : أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج ، فاشتدت ، فقال عمر رضي الله عنه لمن حوله : ما بلغكم في الريح ؟ فلم يرجعوا إليه شيئًا ، فبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح ، فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر رضي الله عنه وكنت في مؤخر الناس ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أخبرت أنك سألت عن الريح ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها ، وسلوا الله من خيرها ، وتعوذوا به من شرها ) . ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بإسناده .

قوله تعالى : { حتى إذا أقلت } حملت الرياح .

قوله تعالى : { سحابًا ثقالاً } بالمطر .

قوله تعالى : { سقناه } ورد الكناية إلى السحاب .

قوله تعالى : { لبلد ميت } أي : إلى بلد ميت محتاج إلى الماء ، وقيل : معناه لإحياء بلد ميت لا نبات فيه .

قوله تعالى : { فأنزلنا به } أي : بالسحاب . وقيل : بذلك البلد .

قوله تعالى : { الماء } يعني من المطر .

قوله تعالى : { فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى } ، واستدل بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى .

قوله تعالى : { لعلكم تذكرون } قال أبو هريرة وابن عباس : إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله عليهم مطرًا كمني الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان ، فينبتون في قبورهم نبات الزرع ، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ، ثم يلقي عليهم النوم فينامون في قبورهم ، ثم يحشرون في بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم ، فعند ذلك يقولون : { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } [ يس :52 ] .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَقَلَّتۡ سَحَابٗا ثِقَالٗا سُقۡنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَآءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ كَذَٰلِكَ نُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (57)

54

ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار ؛ ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة ؛ لا تسمع نطقها ، ولا تستشعر إيقاعها . . إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة ؛ نموذجاً لرحمة الله في صورة الماء الهاطل ، والزرع النامي ، والحياة النابضة بعد الموت والخمود :

( وهو الذي يرسل الرياح ، بشراً بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ، فأخرجنا به من كل الثمرات . . كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ) . .

إنها آثار الربوبية في الكون . آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير . وكلها من صنع الله ؛ الذي لا ينبغي أن يكون للناس رب سواه . وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد .

وفي كل لحظة تهب ريح . وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً . وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء .

ولكن ربط هذا كله بفعل الله - كما هو في الحقيقة - هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة ، كأن العين تراه .

إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته . والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون - فما كان الكون لينشىء نفسه ، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه ! - ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون - ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله - إنما يقع ويتحقق - وفق الناموس - بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع . وأن الأمر القديم بجريان السنة ، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة . فإرسال الرياح - وفق النواميس الإلهية في الكون - حدث من الأحداث ، يقع بمفرده وفق قدر خاص .

وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضاً . ولكنه يقع بقدر خاص . ثم يسوق الله السحاب - بقدر خاص منه - إلى ( بلد ميت ) . . صحراء أو جدباء . . فينزل منه الماء - بقدر كذلك خاص - فيخرج من كل الثمرات - بقدر منه خاص - يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة .

إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون . ابتداء من نشأته وبروزه ، إلى كل حركة فيه وكل تغيير وكل تعديل . كما ينفي الجبرية الآلية ، التي تتصور الكون كأنه آلة ، فرغ صانعها منها ، وأودعها القوانين التي تتحرك بها ، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء !

إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر . ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية . ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة . القدر الذي ينشىء الحركة ويحقق السنة ، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة .

إنه تصور حي . ينفي عن القلب البلادة . بلادة الآلية والجبرية . ويدعها أبداً في يقظة وفي رقابة . . كلما حدث حدثٌ وفق سنة الله . وكلما تمت حركة وفق ناموس الله . انتفض هذا القلب ، يرى قدر الله المنفذ ، ويرى يد الله الفاعلة ، ويسبح لله ويذكره ويراقبه ، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه !

هذا تصور يستحيي القلوب ، ويستجيش العقول ، ويعلقها جميعاً بفاعلية الخالق المتجددة ؛ وبتسبيح البارىء الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل حدث آناء الليل وأطراف النهار .

كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض ، وبين النشأة الآخرة ، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره ؛ على المنهج الذي يراه الأحياء في نشأة هذه الحياة :

( كذلك نخرج الموتى ، لعلكم تذكرون ) . .

إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة ، من وراء أشكالها وصورها وملابساتها . . هذا ما يوحي به هذا التعقيب . . وكما يخرج الله الحياة من الموات في هذه الأرض ، فكذلك يخرج الحياة من الموتى في نهاية المطاف . . إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة وأشكالها في هذه الأرض ، هي المشيئة التي ترد الحياة في الأموات . وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا ، لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتى مرة أخرى . .

( لعلكم تذكرون ) . .

فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة ؛ ويغرقون في الضلالات والأوهام !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَقَلَّتۡ سَحَابٗا ثِقَالٗا سُقۡنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَآءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ كَذَٰلِكَ نُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (57)

جملة : { وهو الذي يرسل الرياح } عطف على جملة : { يغشي الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] وقد حصلت المناسبة بين آخر الجمل المعترضة وبين الجملة المعترض بينها وبين ما عُطفت عليه بأنّه لما ذكر قرب رحمته من المحسنين ذكَر بعضاً من رحمته العامة وهو المطر . فذِكر إرسال الرّياح هو المقصود الأهم لأنّه دليل على عظم القدرة والتّدبير ، ولذلك جعلناه معطوفاً على جملة : { يغشي الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] أو على جملة : { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] . وذِكْر بعض الأحوال المقارنة لإرسال الرّياح يحصل منه إدماجُ الامتنان في الاستدلال وذلك لا يقتضي أنّ الرّياح لا ترسل إلاّ للتبشير بالمطر ، ولا أنّ المطر لا ينزل إلاّ عَقب إرسال الرّياح ، إذ ليس المقصود تعليم حوادث الجَو ، وإذ ليس في الكلام ما يقتضي انحصار الملازمة وفيه تعريض ببشارة المؤمنين بإغداق الغيث عليهم ونذارةِ المشركين بالقحط والجوع كقوله { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً } [ الجن : 16 ] وقوله { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } [ الدخان : 10 ] .

وأطلق الإرسال على الانتقال على وجه الاستعارة ، فإرسال الرّياح هبوبها من المكان الذي تهب فيه ووصولها ، وحَسَّن هذه الاستعارةَ أنّ الرّيح مسخّرة إلى المكان الذي يريد الله هبوبها فيه فشُبهت بالعاقل المرسَل إلى جهة مَّا ، ومن بدائع هذه الاستعارة أنّ الرّيح لا تفارق كُرَة الهواء كما تقدّم عند قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } الآية في سورة [ البقرة : 164 ] . فتصريفُ الرّياح من جهة إلى جهة أشبَهُ بالإرسالِ مِنْه بالإيجاد . والرّياح : جمع ريح ، وقد تقدّم في سورة البقرة .

وقرأ الجمهور : الرّياح } بصيغة الجمع وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وخَلف : الرّيحَ بصيغة المفرد باعتبار الجنس ، فهو مساو لقراءة الجمع ، قال ابن عطيّة : من قرأ بصيغة الجمع فقراءته أسعد ، لأنّ الرّياح حيثما وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرّحمة ، كقوله : { وأرسلنا الرياح لواقح } [ الحجر : 22 ] وأكثر ذكر الرّيح المفردة أن تكون مقترنة بالعذاب كقوله { ريح فيها عذاب أليم } [ الأحقاف : 24 ] ونحو ذلك . ومن قرأ بالإفراد فتقييدها بالنّشر يزيل الاشتراك أي الإيهام . والتّحقيق أنّ التّعبير بصيغة الجمع قد يراد به تعدّد المهابّ أو حصول الفترات في الهُبوب ، وأنّ الإفراد قد يراد به أنّها مدفوعة دفعة واحدة قويَّة لا فترة بين هبَاتها .

وقوله : { نشراً } قرأه نافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وأبو جعفر : نُشُراً بضمّ النّون والشّين على أنّه جمع نَشُور بفتح النّون كرَسُول ورُسُل ، وهو فعول بمعنى فاعل ، والنَّشور الرّياح الحيّة الطيّبة لأنّها تنثر السّحاب ، أي تبثُّه وتكثره في الجوّ ، كالشّيء المنشور ، ويجوز أن يكون فَعولاً بمعنى مفعول ، أي منشورة ، أي مبْثوثة في الجهات ، متفرّقة فيها ، لأنّ النّشر هو التّفريق في جهات كثيرة .

ومعنى ذلك أنّ ريح المَطر تكون ليّنة ، تجيء مرّة من الجنوب ومرّة من الشّمال ، وتتفرّق في الجهات حتّى ينشأ بها السّحاب ويتعدّد سحابات مبثوثة ، كما قال الكميت في السّحاب :

مَرَتْهُ الجَنُوبُ بِأنْفَاسِهَا *** وحَلَّتْ عَزَالِيَه الشَّمْأل

ومن أجل ذلك عبّر عنها بصيغة الجمع لتعدّد مهابِّها ، ولذلك لم تجمع فيما لا يحمد فيه تعود المهاب كقوله { وجرين بهم بريح طيبة } [ يونس : 22 ] من حيث جريُ السّفن إنّما جيّدُهُ بريح متّصلة .

وقرأه ابن عامر { نُشْراً } بضم النّون وسكون الشّين وهو تخفيف نُشُر الذي هو بضمّتين كما يقال : رُسْل في رُسُل . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف بفتح النّون ، وسكون الشّين على أنّه مصدر ، وانتصب إمّا على المفعولِية المطلقة لأنّه مرادف ل ( أرْسل ) بمعناه المجازي ، أي أرسلها إرسالاً أو نَشَرها نَشْراً ، وإمّا على الحال من الرّيح ، أي ناشرة أي السّحاب ، أو من الضّمير في ( أرسل ) أي أرسلها ناشِراً أي محيياً بها الأرض الميّتة ، أي محيياً بآثارها وهي الأمطار .

وقرأه عاصم بالباء الموحّدة في موضع النّون مضمومة وبسكون الشّين وبالتّنوين وهو تخفيف ( بُشراً ) بضمّهما على أنّه جمع بشير مثل نُذُر ونذير ، أي مبشّرة للنّاس باقتراب الغيث .

فحصل من مجموع هذه القراءات أنّ الرّياح تنشر السّحاب ، وأنّها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنّها تحيي الأرض بعد موتها ، وأنّها تبشّر النّاس بهبوبها ، فيدخل عليهم بها سرور .

وأصل معنى قولهم : بين يدي فلان ، أنّه يكون أمامه بقرب منه ( ولذلك قوبل بالخَلْف في قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } [ البقرة : 255 ] فقصد قائله الكناية عن الأمام ، وليس صريحاً ، حيث إنّ الأمام القريب أوسع من الكون بين اليدين ، ثمّ لِشُهْرة هذه الكناية وأغلبيَّة موافقتها للمعنى الصريح جُعلت كالصّريح ، وساغ أن تستعمل مجازاً في التّقدّم والسّبق القريب ، كقوله تعالى : { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } [ سبأ : 46 ] ، وفي تقدّم شيء على شيء مع قربه منه من غير أن يكون أمامه ومن غير أن يكون للمتقدّم عليه يَدَان . وهكذا استعماله في هذه الآية ، أي يرسل الرّياح سابقة رحمته .

والرّحمة هذه أريد بها المطر ، فهو من إطلاق المصدر على المفعول ، لأنّ الله يرحم به . والقرينة على المراد بقيّة الكلام ، وليست الرّحمة من أسماء المطر في كلام العرب فإنّ ذلك لم يثبت ، وإضافة الرّحمة إلى اسم الجلالة في هذه الآية تبعد دعوى من ادعاها من أسماء المطر . والمقصد الأوّل من قوله : { وهو الذي يرسل الرياح } تقريع المشركين وتفنِيد إشراكهم ، ويتبعه تذكير المؤمنين وإثارة اعتبارهم ، لأنّ الموصول دلّ على أنّ الصّلة معلومة الانتساب للموصول ، لأنّ المشركين يعلمون أنّ للرّياح مُصرّفاً وأنّ للمطر مُنْزلاً ، غير أنّهم يذهلون أو يتذاهلون عن تعيين ذلك الفاعل ، ولذلك يجيئون في الكلام بأفعال نزول المطر مبنيّة إلى المجهول غالباً ، فيقولون : مُطرنا بنَوْء الثّريا ويقولون : غِثْنَا مَا شِئْنَا .

مبنياً للمجهول أي أُغثنا ، فأخبر الله تعالى بأنّ فاعل تلك الأفعال هو الله ، وذلك بإسناد هذا الموصول إلى ضمير الجلالة في قوله : { وهو الذي يرسل الرياح } أي الذي علمتم أنّه يرسل الرّياح وينزل الماء ، هو اللَّهُ تعالى كقوله { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ، فالخبر مسوق لتعيين صاحب هذه الصّلة . فهو بمنزلة الجواب عن استفهام مقصود منه طلب التّعيين في نحو قولهم : أرَاحل أنت أم ثاوٍ ، ولذلك لم يكن في هذا الإسناد قصر لأنّه لم يقصد به رد اعتقاد ، فإنّهم لم يكونوا يزعمون أنّ غير الله يرسل الرّياح ، ولكنّهم كانوا كمن يجهل ذلك من جهة إشراكهم معه غيرَه ، فروعي في هذا الإسناد حالُهم ابتداء ، ويَحصل رعي حال المؤمنين تبعاً ، لأنّ السّياق مناسب لمخاطبة الفريقين كما تقدّم في الآية السّابقة .

و { حتّى } ابتدائية وهي غاية لمضمون قوله : { بشرا بين يدي رحمته } ، الذي هو في معنى متقدّمة رحمتَه ، أي تتقدّمها مدّة وتنشر أسحبتها حتّى إذا أقلَّت سحاباً أنزلنا به الماء ، فإنزال الماء هو غاية تقدّم الرّياح وسبقها المطرَ ، وكانت الغاية مجزأة أجزاء فأوّلها مضمون قوله : { أقلت } أي الرّياحُ السّحابَ ، ثمّ مضمون قوله : { ثقالاً } ، ثم مضمون { سقناه } أي إلى البلد الذي أراد الله غيثه ، ثمّ أن يَنزل منه الماء . وكلّ ذلك غاية لتقدّم الرياح ، لأنّ المفرّع عن الغاية هو غاية .

الثّقال : البطيئة التّنقّل لما فيها من رطوبة الماء ، وهو البخار ، وهو السّحاب المرجوّ منه المطر ، ومن أحسن معاني أبي الطّيب قوله في : « حسن الاعتذار » :

ومِنَ الخَيْرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عَنِّي *** أسْرَعُ السُّحْب في المَسير الجهَام

وطُوي بعضُ المغيَّا : وذلك أنّ الرّياح تُحرّك الأبْخِرَة التي على سطح الأرض ، وتُمِدّها برطوبات تسوقها إليها من الجهات الندِيَّة التي تمرّ عليها كالبحار والأنهار ، والبُحيرات والأراضين الندِيَّة ، ويجتمع بعض ذلك إلى بعض وهو المعبّر عنه بالإثارة في قوله تعالى : { فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ] فإذا بلغ حدّ البُخارِيَّة رفعته الرّياح من سطح الأرض إلى الجوّ .

ومعنى { أقلت } ، حملت مشتق من القلّة لأنّ الحامل يَعُد محموله قليلاً فالهمزة فيه للجعل .

وإقلال الرّيح السّحاب هو أنّ الرّياح تمرّ على سطح الأرض فيتجمّع بها ما على السّطح من البخار ، وترفعه الرّياح إلى العلوّ في الجوّ ، حتّى يبلغ نقطة باردة في أعلى الجوّ ، فهنالك ينقبض البخار وتتجمّع أجزاؤه فيصير سحابات ، وكلّما انضمّت سحابة إلى أخرى حصلت منهما سحابة أثقلُ من إحداهما حينَ كانت منفصلة عن الأخرى ، فيقلّ انتشارها إلى أن تصير سحاباً عظيماً فيثقل ، فينماع ، ثمّ ينزل مطراً . وقد تبيّن أنّ المراد من قوله : { أقلت } غير المراد من قوله في الآية الأخرى { فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ] .

والسّحاب اسم جمع لسحابة فلذلك جاز اجراؤه على اعتبار التّذكير نظراً لتجرّد لفظه عن علامة التّأنيث ، وجاز اعتبار التّأنيث فيه نظراً لكونه في معنى الجمع ولهذه النّكتة وصف السّحاب في ابتداء إرساله بأنّها تثير ، ووصف بعد الغاية بأنّها ثقال ، وهذا من إعجاز القرآن العلمي ، وقد ورد الاعتبارَانِ في هذه الآية فوُصِفَ السّحاب بقوله : { ثقالاً } اعتباراً بالجمع كما قال صلى الله عليه وسلم و« رأيت بَقَراً تُذْبَح » وأعيد الضّمير إليه بالإفراد في قوله : { سقناه } .

وحقيقة السَّوْق أنّه تسيير مَا يمشي ومُسَيِّرُه وراءه يُزجيه ويَحثُّه ، وهو هنا مستعار لتسير السّحاب بأسبابه التي جعلها الله ، وقد يجعل تمثيلاً إذا رُوعي قوله : { أقلت سحاباً } أي : سقناه بتلك الرّيح إلى بلد ، فيكون تمثيلاً لحالة دفع الرّيح السّحاب بحالة سوق السّائق الدّابة .

واللاّم في قوله : { لبلد } لام العلّة ، أي لأجل بلد ميّت ، وفي هذه اللاّم دلالة على العناية الرّبانية بذلك البلد فلذلك عدل عن تعدية ( سقناه ) بحرف ( إلى ) .

والبلد : السّاحة الواسعة من الأرض .

والميّت : مجاز أطلق على الجانب الذي انعدم منه النّبات ، وإسناد الموت المجازي إلى البلد هو أيضاً مجاز عقلي ، لأنّ الميّت إنّما هو نباتُه وثَمره ، كما دلّ عليه التّشبيه في قوله : { كذلك نخرج الموتى } .

والضّمير المجرور بالباء في قوله : فأخرجنا به يجوز أن يعود إلى البلد ، فيكون الباء بمعنى ( في ) ويجوز أن يعود إلى المَاء فيكون الباء للآلة .

والاستغراق في { كل الثمرات } استغراق حقيقي ، لأنّ البلد الميّت ليس معيّناً بل يشمل كلّ بلد ميّت ينزل عليه المطر ، فيحصل من جميع أفراد البلد الميّت جميع الثّمرات قد أخرجها الله بواسطة الماء ، والبلدُ الواحد يُخرج ثمراته المعتادة فيه ، فإذا نظرت إلى ذلك البلد خاصة فاجعل استغراق كلّ الثّمرات استغراقاً عرفياً ، أي من كلّ الثّمرات المعروفة في ذلك البلد وحرف ( من ) للتبعيض .

وجملة : { كذلك نخرج الموتى } معترضة استطراداً للموعظة والاستدلال على تقريب البعث الذي يستبعدونه ، والإشارة ب ( كذلك ) إلى الإخراج المتضمّن له فعل { فأخرجنا } باعتبار ما قبله من كون البلد ميّتاً ، ثمّ إحيائه أي إحياء ما فيه من أثر الزّرع والثّمر ، فوجه الشّبه هو إحياء بعد موت ، ولا شكّ أنّ لذلك الإحياء كيفيّة قدّرها الله وأجمل ذكرها لقصور الإفهام عن تصوّرها .

وجملة : { لعلكم تذكرون } مستأنفة ، والرّجاء ناشىء عن الجمل المتقدّمة من قوله : { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } لأنّ المراد التذكّر الشّامل الذي يزيد المؤمن عبرة وإيماناً ، والذي من شأنه أن يقلع من المشرك اعتقادَ الشّرك ومن مُنكِرِ البعث إنكارَه .

وقرأ الجمهور { تذّكّرون } بتشديد الذال على إدغام التّاء الثّانية في الذّال بعد قلبها ذالاً ، وقرأ عاصم في رواية حفص { تَذَكَّرون } بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَقَلَّتۡ سَحَابٗا ثِقَالٗا سُقۡنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَآءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ كَذَٰلِكَ نُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (57)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: إن ربكم الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره «هُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّياحُ نَشْرا بينَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ». والنشر -بفتح النون وسكون الشين- في كلام العرب من الرياح الطيبة اللينة الهبوب التي تنشئ السحاب، وكذلك كلّ ريح طيبة عندهم فهي نشر. وبهذه القراءة قرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين خلا عاصم بن أبي النجود، فإنه كان يقرأه:"بُشْرا" على اختلاف عنه فيه، فروى ذلك بعضهم عنه: بُشْرا بالباء وضمها وسكون الشين، وبعضهم بالباء وضمها وضمّ الشين، وكان يتأوّل في قراءته ذلك كذلك قوله: "وَمِنْ آياتِه أن يُرْسِلَ الرّياحَ مُبَشّراتٍ": تبشر بالمطر، وأنه جمع بشير بُشُرا، كما يجمع النذير نُذُرا. وأما قرّاء المدينة وعامة المكيين والبصريين، فإنهم قرأوا ذلك: «وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ نُشُرا» بضم النون والشين، بمعنى جمع نشور جمع نشرا...

وأما قوله:"بين يدي رحمته "فإنه يقول: قدام رحمته وأمامها، والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه: جاء بين يديه، لأن ذلك من كلامهم، جرى في إخبارهم عن بني آدم وكثر استعماله فيهم حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لا يد له.

والرحمة التي ذكرها جلّ ثناؤه في هذا الموضع المطر. فمعنى الكلام إذن: والله الذي يرسل الرياح لينا هبوبها، طيبا نسيمها، أمام غيثه الذي يسوقه بها إلى خلقه، فينشئ بها سحابا ثقالاً، حتى إذا أقلّتها، والإقلال بها: حملها، كما يقال: استقلّ البعير بحمله وأقلّه: إذا حمله فقام به. ساقه الله لإحياء بلد ميت قد تعفت مزارعه ودرست مشاربه وأجدب أهله، فأنزل به المطر وأخرج به من كلّ الثمرات...

"كذلكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ" فإنه يقول تعالى ذكره: كما نحيي هذا البلد الميت بما ننزل به من الماء الذي ننزله من السحاب، فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته وقحوط أهله، كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياء بعد فنائهم ودروس آثارهم. "لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ" يقول تعالى ذكره للمشركين به من عبدة الأصنام، المكذّبين بالبعث بعد الممات، المنكرين للثواب والعقاب: ضربت لكم أيها القوم هذا المثل الذي ذكرت لكم من إحياء البلد الميت بقطر المطر الذي يأتي به السحاب، الذي تنشره الرياح التي وصفت صفتها لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن من كان ذلك من قدرته فيسير في إحياء الموتى بعد فنائها وإعادتها خلقا سويّا بعد دروسها...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... يذكّرهم عز وجل في هذا حكمته وقدرته ونعمه ليحتجّ بها عليهم بالبعث. أما حكمته [ففي ما] يرسل الرياح والأمطار، ويسوقها إلى المكان الذي يريد أن يمطر فيه ما لم يعلموا ذلك، ولا شاهدوه، وما عرفوا أن كيف يرسل المطر من السماء؟ وكيف يرسل الرياح، ويسوق السحاب؟ ففي ذلك تذكير حكمته إياهم. وأما نعمه [فهي ما يسوق من] السحاب بالريح إلى المكان الذي فيه حاجة إلى المطر؛ وذلك من عظيم نعمه ليعلم أن ذلك كان برحمته، لا لأنهم كانوا مستوجبين لذلك. وأما ما ذكّرهم من قدرته فهو ما ذكر من إحياء الأرض بعد ما كانت ميتة ليعلم أن الذي قدر على إحياء الأرض وإخراج النبات والثمر بعد ما كان ميّتا قادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد موتهم...

والنشر هو من جمع نشور، والنشر هو من الإحياء، ومن التفريق،... ثم قيل في قوله تعالى: {نشرا} الله عز وجل هو الذي يفرّق، ويسوق ذلك السحاب،... {لعلكم تذكّرون} وتتفكرون، وتعرفون قدرته وسلطانه على الإحياء بعد الموت، أو تذكّرون، وتتّعظون ...

...

وبعد فإن إعادة الشيء في عقول الخلق أهون وأيسر من ابتداء الإنشاء ...

... وهو أهون عليه أي في عقولكم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... "كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "فيؤدّيكم التذكر إلى أنه لا فرق بين الإخراجين، إذ كل واحد منهما إعادة للشيء بعد إنشائه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في تقرير النظم، أنه تعالى لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم، أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة ليحصل بمعرفة هاتين الآيتين كل ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ والمعاد.

{بين يدي رحمته} أي بين يدي المطر الذي هو رحمته والسبب في حسن هذا المجاز أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز يقال: إن الفتن تحدث بين يدي الساعة، يريدون قبيلها، والسبب في حسن هذا المجاز، أن يدي الإنسان متقدماته فكل ما كان يتقدم شيئا يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة فلما كانت الرياح تتقدم المطر، لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ. فإن قيل: فقد نجد المطر ولا تتقدمه الرياح فنقول: ليس في الآية ان هذا التقدم حاصل في كل الأحوال، فلم يتوجه السؤال، وأيضا فيجوز أن تتقدمه هذه الرياح وإن كنا لا نشعر بها.

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

أخبر سبحانه أنهما إحياءان، وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه.

ثم ذكر قياسا آخر: أن من الأرض ما يكون أرضا طيبة، فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها، ومنها ما تكون أرضا خبيثة، لا تخرج نباتها إلا نكدا، أي قليلا غير منتفع به فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة فشبه سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض، بحصول الحياة بهذا وهذا.

وشبه القلوب بالأرض، إذا هي محل الأعمال، كما أن الأرض محل النبات، وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي، ولا يزكو عليه، ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر، ولا تخرج نباتها به إلا قليلا، لا ينفع..

وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه، وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

لما ذكر تعالى أنه خالق 24 السموات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبِّر المسخِّر، وأرشد إلى دعائه؛ لأنه على ما يشاء قادر -نبه تعالى على أنه الرزّاق، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال:"وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نشْرًا" أي: ناشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار؛ ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة؛ لا تسمع نطقها، ولا تستشعر إيقاعها.. إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة؛ نموذجاً لرحمة الله في صورة الماء الهاطل، والزرع النامي، والحياة النابضة بعد الموت والخمود: (وهو الذي يرسل الرياح، بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات.. كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون).. إنها آثار الربوبية في الكون. آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير. وكلها من صنع الله؛ الذي لا ينبغي أن يكون للناس رب سواه. وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد. وفي كل لحظة تهب ريح. وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً. وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء. ولكن ربط هذا كله بفعل الله -كما هو في الحقيقة- هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة، كأن العين تراه. إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته. والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون -فما كان الكون لينشئ نفسه، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه!- ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون -ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله- إنما يقع ويتحقق -وفق الناموس- بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع. وأن الأمر القديم بجريان السنة، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة. فإرسال الرياح -وفق النواميس الإلهية في الكون- حدث من الأحداث، يقع بمفرده وفق قدر خاص. وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضاً. ولكنه يقع بقدر خاص. ثم يسوق الله السحاب -بقدر خاص منه- إلى (بلد ميت).. صحراء أو جدباء.. فينزل منه الماء -بقدر كذلك خاص- فيخرج من كل الثمرات -بقدر منه خاص- يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة. إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون. ابتداء من نشأته وبروزه، إلى كل حركة فيه وكل تغيير وكل تعديل. كما ينفي الجبرية الآلية، التي تتصور الكون كأنه آلة، فرغ صانعها منها، وأودعها القوانين التي تتحرك بها، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء! إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر. ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية. ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة. القدر الذي ينشئ الحركة ويحقق السنة، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة. إنه تصور حي. ينفي عن القلب البلادة. بلادة الآلية والجبرية. ويدعها أبداً في يقظة وفي رقابة.. كلما حدث حدثٌ وفق سنة الله. وكلما تمت حركة وفق ناموس الله. انتفض هذا القلب، يرى قدر الله المنفذ، ويرى يد الله الفاعلة، ويسبح لله ويذكره ويراقبه، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه! هذا تصور يستحيي القلوب، ويستجيش العقول، ويعلقها جميعاً بفاعلية الخالق المتجددة؛ وبتسبيح البارئ الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل حدث آناء الليل وأطراف النهار. كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض، وبين النشأة الآخرة، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره؛ على المنهج الذي يراه الأحياء في نشأة هذه الحياة: (كذلك نخرج الموتى، لعلكم تذكرون).. إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة، من وراء أشكالها وصورها وملابساتها.. هذا ما يوحي به هذا التعقيب.. وكما يخرج الله الحياة من الموات في هذه الأرض، فكذلك يخرج الحياة من الموتى في نهاية المطاف.. إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة وأشكالها في هذه الأرض، هي المشيئة التي ترد الحياة في الأموات. وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا، لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتى مرة أخرى.. (لعلكم تذكرون).. فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة؛ ويغرقون في الضلالات والأوهام!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... وأطلق الإرسال على الانتقال على وجه الاستعارة، فإرسال الرّياح هبوبها من المكان الذي تهب فيه ووصولها، وحَسَّن هذه الاستعارةَ أنّ الرّيح مسخّرة إلى المكان الذي يريد الله هبوبها فيه فشُبهت بالعاقل المرسَل إلى جهة مَّا، ومن بدائع هذه الاستعارة أنّ الرّيح لا تفارق كُرَة الهواء كما تقدّم عند قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} الآية في سورة [البقرة: 164]. فتصريفُ الرّياح من جهة إلى جهة أشبَهُ بالإرسالِ مِنْه بالإيجاد...

... والنَّشور الرّياح الحيّة الطيّبة لأنّها تنثر السّحاب، أي تبثُّه وتكثره في الجوّ، كالشّيء المنشور، ويجوز أن يكون فَعولاً بمعنى مفعول، أي منشورة، أي مبْثوثة في الجهات، متفرّقة فيها، لأنّ النّشر هو التّفريق في جهات كثيرة.

ومعنى ذلك أنّ ريح المَطر تكون ليّنة، تجيء مرّة من الجنوب ومرّة من الشّمال، وتتفرّق في الجهات حتّى ينشأ بها السّحاب ويتعدّد سحابات مبثوثة...

...

فحصل من مجموع هذه القراءات أنّ الرّياح تنشر السّحاب، وأنّها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنّها تحيي الأرض بعد موتها، وأنّها تبشّر النّاس بهبوبها، فيدخل عليهم بها سرور.

.. والرّحمة هذه أريد بها المطر، فهو من إطلاق المصدر على المفعول، لأنّ الله يرحم به. والقرينة على المراد بقيّة الكلام، وليست الرّحمة من أسماء المطر في كلام العرب فإنّ ذلك لم يثبت، وإضافة الرّحمة إلى اسم الجلالة في هذه الآية تبعد دعوى من ادعاها من أسماء المطر. والمقصد الأوّل من قوله: {وهو الذي يرسل الرياح} تقريع المشركين وتفنِيد إشراكهم، ويتبعه تذكير المؤمنين وإثارة اعتبارهم، لأنّ الموصول دلّ على أنّ الصّلة معلومة الانتساب للموصول، لأنّ المشركين يعلمون أنّ للرّياح مُصرّفاً وأنّ للمطر مُنْزلاً، غير أنّهم يذهلون أو يتذاهلون عن تعيين ذلك الفاعل، ولذلك يجيئون في الكلام بأفعال نزول المطر مبنيّة إلى المجهول غالباً، فيقولون: مُطرنا بنَوْء الثّريا ويقولون: غِثْنَا مَا شِئْنَا.

مبنياً للمجهول أي أُغثنا، فأخبر الله تعالى بأنّ فاعل تلك الأفعال هو الله، وذلك بإسناد هذا الموصول إلى ضمير الجلالة في قوله: {وهو الذي يرسل الرياح} أي الذي علمتم أنّه يرسل الرّياح وينزل الماء، هو اللَّهُ تعالى كقوله {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16]، فالخبر مسوق لتعيين صاحب هذه الصّلة. فهو بمنزلة الجواب عن استفهام مقصود منه طلب التّعيين في نحو قولهم: أرَاحل أنت أم ثاوٍ، ولذلك لم يكن في هذا الإسناد قصر لأنّه لم يقصد به رد اعتقاد، فإنّهم لم يكونوا يزعمون أنّ غير الله يرسل الرّياح، ولكنّهم كانوا كمن يجهل ذلك من جهة إشراكهم معه غيرَه، فروعي في هذا الإسناد حالُهم ابتداء، ويَحصل رعي حال المؤمنين تبعاً، لأنّ السّياق مناسب لمخاطبة الفريقين كما تقدّم في الآية السّابقة.

.. الثّقال: البطيئة التّنقّل لما فيها من رطوبة الماء، وهو البخار، وهو السّحاب المرجوّ منه المطر..

ومعنى {أقلت}، حملت مشتق من القلّة لأنّ الحامل يَعُد محموله قليلاً فالهمزة فيه للجعل.

وإقلال الرّيح السّحاب هو أنّ الرّياح تمرّ على سطح الأرض فيتجمّع بها ما على السّطح من البخار، وترفعه الرّياح إلى العلوّ في الجوّ، حتّى يبلغ نقطة باردة في أعلى الجوّ، فهنالك ينقبض البخار وتتجمّع أجزاؤه فيصير سحابات، وكلّما انضمّت سحابة إلى أخرى حصلت منهما سحابة أثقلُ من إحداهما حينَ كانت منفصلة عن الأخرى، فيقلّ انتشارها إلى أن تصير سحاباً عظيماً فيثقل، فينماع، ثمّ ينزل مطراً. وقد تبيّن أنّ المراد من قوله: {أقلت} غير المراد من قوله في الآية الأخرى {فتثير سحاباً} [الروم: 48]...

... وحقيقة السَّوْق أنّه تسيير مَا يمشي ومُسَيِّرُه وراءه يُزجيه ويَحثُّه، وهو هنا مستعار لتسير السّحاب بأسبابه التي جعلها الله، وقد يجعل تمثيلاً إذا رُوعي قوله: {أقلت سحاباً} أي: سقناه بتلك الرّيح إلى بلد، فيكون تمثيلاً لحالة دفع الرّيح السّحاب بحالة سوق السّائق الدّابة.

واللاّم في قوله: {لبلد} لام العلّة، أي لأجل بلد ميّت، وفي هذه اللاّم دلالة على العناية الرّبانية بذلك البلد فلذلك عدل عن تعدية (سقناه) بحرف (إلى).

والبلد: السّاحة الواسعة من الأرض.

والميّت: مجاز أطلق على الجانب الذي انعدم منه النّبات، وإسناد الموت المجازي إلى البلد هو أيضاً مجاز عقلي، لأنّ الميّت إنّما هو نباتُه وثَمره، كما دلّ عليه التّشبيه في قوله: {كذلك نخرج الموتى}.