جملة : { وهو الذي يرسل الرياح } عطف على جملة : { يغشي الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] وقد حصلت المناسبة بين آخر الجمل المعترضة وبين الجملة المعترض بينها وبين ما عُطفت عليه بأنّه لما ذكر قرب رحمته من المحسنين ذكَر بعضاً من رحمته العامة وهو المطر . فذِكر إرسال الرّياح هو المقصود الأهم لأنّه دليل على عظم القدرة والتّدبير ، ولذلك جعلناه معطوفاً على جملة : { يغشي الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] أو على جملة : { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] . وذِكْر بعض الأحوال المقارنة لإرسال الرّياح يحصل منه إدماجُ الامتنان في الاستدلال وذلك لا يقتضي أنّ الرّياح لا ترسل إلاّ للتبشير بالمطر ، ولا أنّ المطر لا ينزل إلاّ عَقب إرسال الرّياح ، إذ ليس المقصود تعليم حوادث الجَو ، وإذ ليس في الكلام ما يقتضي انحصار الملازمة وفيه تعريض ببشارة المؤمنين بإغداق الغيث عليهم ونذارةِ المشركين بالقحط والجوع كقوله { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً } [ الجن : 16 ] وقوله { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } [ الدخان : 10 ] .
وأطلق الإرسال على الانتقال على وجه الاستعارة ، فإرسال الرّياح هبوبها من المكان الذي تهب فيه ووصولها ، وحَسَّن هذه الاستعارةَ أنّ الرّيح مسخّرة إلى المكان الذي يريد الله هبوبها فيه فشُبهت بالعاقل المرسَل إلى جهة مَّا ، ومن بدائع هذه الاستعارة أنّ الرّيح لا تفارق كُرَة الهواء كما تقدّم عند قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } الآية في سورة [ البقرة : 164 ] . فتصريفُ الرّياح من جهة إلى جهة أشبَهُ بالإرسالِ مِنْه بالإيجاد . والرّياح : جمع ريح ، وقد تقدّم في سورة البقرة .
وقرأ الجمهور : الرّياح } بصيغة الجمع وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وخَلف : الرّيحَ بصيغة المفرد باعتبار الجنس ، فهو مساو لقراءة الجمع ، قال ابن عطيّة : من قرأ بصيغة الجمع فقراءته أسعد ، لأنّ الرّياح حيثما وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرّحمة ، كقوله : { وأرسلنا الرياح لواقح } [ الحجر : 22 ] وأكثر ذكر الرّيح المفردة أن تكون مقترنة بالعذاب كقوله { ريح فيها عذاب أليم } [ الأحقاف : 24 ] ونحو ذلك . ومن قرأ بالإفراد فتقييدها بالنّشر يزيل الاشتراك أي الإيهام . والتّحقيق أنّ التّعبير بصيغة الجمع قد يراد به تعدّد المهابّ أو حصول الفترات في الهُبوب ، وأنّ الإفراد قد يراد به أنّها مدفوعة دفعة واحدة قويَّة لا فترة بين هبَاتها .
وقوله : { نشراً } قرأه نافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وأبو جعفر : نُشُراً بضمّ النّون والشّين على أنّه جمع نَشُور بفتح النّون كرَسُول ورُسُل ، وهو فعول بمعنى فاعل ، والنَّشور الرّياح الحيّة الطيّبة لأنّها تنثر السّحاب ، أي تبثُّه وتكثره في الجوّ ، كالشّيء المنشور ، ويجوز أن يكون فَعولاً بمعنى مفعول ، أي منشورة ، أي مبْثوثة في الجهات ، متفرّقة فيها ، لأنّ النّشر هو التّفريق في جهات كثيرة .
ومعنى ذلك أنّ ريح المَطر تكون ليّنة ، تجيء مرّة من الجنوب ومرّة من الشّمال ، وتتفرّق في الجهات حتّى ينشأ بها السّحاب ويتعدّد سحابات مبثوثة ، كما قال الكميت في السّحاب :
مَرَتْهُ الجَنُوبُ بِأنْفَاسِهَا *** وحَلَّتْ عَزَالِيَه الشَّمْأل
ومن أجل ذلك عبّر عنها بصيغة الجمع لتعدّد مهابِّها ، ولذلك لم تجمع فيما لا يحمد فيه تعود المهاب كقوله { وجرين بهم بريح طيبة } [ يونس : 22 ] من حيث جريُ السّفن إنّما جيّدُهُ بريح متّصلة .
وقرأه ابن عامر { نُشْراً } بضم النّون وسكون الشّين وهو تخفيف نُشُر الذي هو بضمّتين كما يقال : رُسْل في رُسُل . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف بفتح النّون ، وسكون الشّين على أنّه مصدر ، وانتصب إمّا على المفعولِية المطلقة لأنّه مرادف ل ( أرْسل ) بمعناه المجازي ، أي أرسلها إرسالاً أو نَشَرها نَشْراً ، وإمّا على الحال من الرّيح ، أي ناشرة أي السّحاب ، أو من الضّمير في ( أرسل ) أي أرسلها ناشِراً أي محيياً بها الأرض الميّتة ، أي محيياً بآثارها وهي الأمطار .
وقرأه عاصم بالباء الموحّدة في موضع النّون مضمومة وبسكون الشّين وبالتّنوين وهو تخفيف ( بُشراً ) بضمّهما على أنّه جمع بشير مثل نُذُر ونذير ، أي مبشّرة للنّاس باقتراب الغيث .
فحصل من مجموع هذه القراءات أنّ الرّياح تنشر السّحاب ، وأنّها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنّها تحيي الأرض بعد موتها ، وأنّها تبشّر النّاس بهبوبها ، فيدخل عليهم بها سرور .
وأصل معنى قولهم : بين يدي فلان ، أنّه يكون أمامه بقرب منه ( ولذلك قوبل بالخَلْف في قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } [ البقرة : 255 ] فقصد قائله الكناية عن الأمام ، وليس صريحاً ، حيث إنّ الأمام القريب أوسع من الكون بين اليدين ، ثمّ لِشُهْرة هذه الكناية وأغلبيَّة موافقتها للمعنى الصريح جُعلت كالصّريح ، وساغ أن تستعمل مجازاً في التّقدّم والسّبق القريب ، كقوله تعالى : { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } [ سبأ : 46 ] ، وفي تقدّم شيء على شيء مع قربه منه من غير أن يكون أمامه ومن غير أن يكون للمتقدّم عليه يَدَان . وهكذا استعماله في هذه الآية ، أي يرسل الرّياح سابقة رحمته .
والرّحمة هذه أريد بها المطر ، فهو من إطلاق المصدر على المفعول ، لأنّ الله يرحم به . والقرينة على المراد بقيّة الكلام ، وليست الرّحمة من أسماء المطر في كلام العرب فإنّ ذلك لم يثبت ، وإضافة الرّحمة إلى اسم الجلالة في هذه الآية تبعد دعوى من ادعاها من أسماء المطر . والمقصد الأوّل من قوله : { وهو الذي يرسل الرياح } تقريع المشركين وتفنِيد إشراكهم ، ويتبعه تذكير المؤمنين وإثارة اعتبارهم ، لأنّ الموصول دلّ على أنّ الصّلة معلومة الانتساب للموصول ، لأنّ المشركين يعلمون أنّ للرّياح مُصرّفاً وأنّ للمطر مُنْزلاً ، غير أنّهم يذهلون أو يتذاهلون عن تعيين ذلك الفاعل ، ولذلك يجيئون في الكلام بأفعال نزول المطر مبنيّة إلى المجهول غالباً ، فيقولون : مُطرنا بنَوْء الثّريا ويقولون : غِثْنَا مَا شِئْنَا .
مبنياً للمجهول أي أُغثنا ، فأخبر الله تعالى بأنّ فاعل تلك الأفعال هو الله ، وذلك بإسناد هذا الموصول إلى ضمير الجلالة في قوله : { وهو الذي يرسل الرياح } أي الذي علمتم أنّه يرسل الرّياح وينزل الماء ، هو اللَّهُ تعالى كقوله { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ، فالخبر مسوق لتعيين صاحب هذه الصّلة . فهو بمنزلة الجواب عن استفهام مقصود منه طلب التّعيين في نحو قولهم : أرَاحل أنت أم ثاوٍ ، ولذلك لم يكن في هذا الإسناد قصر لأنّه لم يقصد به رد اعتقاد ، فإنّهم لم يكونوا يزعمون أنّ غير الله يرسل الرّياح ، ولكنّهم كانوا كمن يجهل ذلك من جهة إشراكهم معه غيرَه ، فروعي في هذا الإسناد حالُهم ابتداء ، ويَحصل رعي حال المؤمنين تبعاً ، لأنّ السّياق مناسب لمخاطبة الفريقين كما تقدّم في الآية السّابقة .
و { حتّى } ابتدائية وهي غاية لمضمون قوله : { بشرا بين يدي رحمته } ، الذي هو في معنى متقدّمة رحمتَه ، أي تتقدّمها مدّة وتنشر أسحبتها حتّى إذا أقلَّت سحاباً أنزلنا به الماء ، فإنزال الماء هو غاية تقدّم الرّياح وسبقها المطرَ ، وكانت الغاية مجزأة أجزاء فأوّلها مضمون قوله : { أقلت } أي الرّياحُ السّحابَ ، ثمّ مضمون قوله : { ثقالاً } ، ثم مضمون { سقناه } أي إلى البلد الذي أراد الله غيثه ، ثمّ أن يَنزل منه الماء . وكلّ ذلك غاية لتقدّم الرياح ، لأنّ المفرّع عن الغاية هو غاية .
الثّقال : البطيئة التّنقّل لما فيها من رطوبة الماء ، وهو البخار ، وهو السّحاب المرجوّ منه المطر ، ومن أحسن معاني أبي الطّيب قوله في : « حسن الاعتذار » :
ومِنَ الخَيْرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عَنِّي *** أسْرَعُ السُّحْب في المَسير الجهَام
وطُوي بعضُ المغيَّا : وذلك أنّ الرّياح تُحرّك الأبْخِرَة التي على سطح الأرض ، وتُمِدّها برطوبات تسوقها إليها من الجهات الندِيَّة التي تمرّ عليها كالبحار والأنهار ، والبُحيرات والأراضين الندِيَّة ، ويجتمع بعض ذلك إلى بعض وهو المعبّر عنه بالإثارة في قوله تعالى : { فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ] فإذا بلغ حدّ البُخارِيَّة رفعته الرّياح من سطح الأرض إلى الجوّ .
ومعنى { أقلت } ، حملت مشتق من القلّة لأنّ الحامل يَعُد محموله قليلاً فالهمزة فيه للجعل .
وإقلال الرّيح السّحاب هو أنّ الرّياح تمرّ على سطح الأرض فيتجمّع بها ما على السّطح من البخار ، وترفعه الرّياح إلى العلوّ في الجوّ ، حتّى يبلغ نقطة باردة في أعلى الجوّ ، فهنالك ينقبض البخار وتتجمّع أجزاؤه فيصير سحابات ، وكلّما انضمّت سحابة إلى أخرى حصلت منهما سحابة أثقلُ من إحداهما حينَ كانت منفصلة عن الأخرى ، فيقلّ انتشارها إلى أن تصير سحاباً عظيماً فيثقل ، فينماع ، ثمّ ينزل مطراً . وقد تبيّن أنّ المراد من قوله : { أقلت } غير المراد من قوله في الآية الأخرى { فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ] .
والسّحاب اسم جمع لسحابة فلذلك جاز اجراؤه على اعتبار التّذكير نظراً لتجرّد لفظه عن علامة التّأنيث ، وجاز اعتبار التّأنيث فيه نظراً لكونه في معنى الجمع ولهذه النّكتة وصف السّحاب في ابتداء إرساله بأنّها تثير ، ووصف بعد الغاية بأنّها ثقال ، وهذا من إعجاز القرآن العلمي ، وقد ورد الاعتبارَانِ في هذه الآية فوُصِفَ السّحاب بقوله : { ثقالاً } اعتباراً بالجمع كما قال صلى الله عليه وسلم و« رأيت بَقَراً تُذْبَح » وأعيد الضّمير إليه بالإفراد في قوله : { سقناه } .
وحقيقة السَّوْق أنّه تسيير مَا يمشي ومُسَيِّرُه وراءه يُزجيه ويَحثُّه ، وهو هنا مستعار لتسير السّحاب بأسبابه التي جعلها الله ، وقد يجعل تمثيلاً إذا رُوعي قوله : { أقلت سحاباً } أي : سقناه بتلك الرّيح إلى بلد ، فيكون تمثيلاً لحالة دفع الرّيح السّحاب بحالة سوق السّائق الدّابة .
واللاّم في قوله : { لبلد } لام العلّة ، أي لأجل بلد ميّت ، وفي هذه اللاّم دلالة على العناية الرّبانية بذلك البلد فلذلك عدل عن تعدية ( سقناه ) بحرف ( إلى ) .
والبلد : السّاحة الواسعة من الأرض .
والميّت : مجاز أطلق على الجانب الذي انعدم منه النّبات ، وإسناد الموت المجازي إلى البلد هو أيضاً مجاز عقلي ، لأنّ الميّت إنّما هو نباتُه وثَمره ، كما دلّ عليه التّشبيه في قوله : { كذلك نخرج الموتى } .
والضّمير المجرور بالباء في قوله : فأخرجنا به يجوز أن يعود إلى البلد ، فيكون الباء بمعنى ( في ) ويجوز أن يعود إلى المَاء فيكون الباء للآلة .
والاستغراق في { كل الثمرات } استغراق حقيقي ، لأنّ البلد الميّت ليس معيّناً بل يشمل كلّ بلد ميّت ينزل عليه المطر ، فيحصل من جميع أفراد البلد الميّت جميع الثّمرات قد أخرجها الله بواسطة الماء ، والبلدُ الواحد يُخرج ثمراته المعتادة فيه ، فإذا نظرت إلى ذلك البلد خاصة فاجعل استغراق كلّ الثّمرات استغراقاً عرفياً ، أي من كلّ الثّمرات المعروفة في ذلك البلد وحرف ( من ) للتبعيض .
وجملة : { كذلك نخرج الموتى } معترضة استطراداً للموعظة والاستدلال على تقريب البعث الذي يستبعدونه ، والإشارة ب ( كذلك ) إلى الإخراج المتضمّن له فعل { فأخرجنا } باعتبار ما قبله من كون البلد ميّتاً ، ثمّ إحيائه أي إحياء ما فيه من أثر الزّرع والثّمر ، فوجه الشّبه هو إحياء بعد موت ، ولا شكّ أنّ لذلك الإحياء كيفيّة قدّرها الله وأجمل ذكرها لقصور الإفهام عن تصوّرها .
وجملة : { لعلكم تذكرون } مستأنفة ، والرّجاء ناشىء عن الجمل المتقدّمة من قوله : { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } لأنّ المراد التذكّر الشّامل الذي يزيد المؤمن عبرة وإيماناً ، والذي من شأنه أن يقلع من المشرك اعتقادَ الشّرك ومن مُنكِرِ البعث إنكارَه .
وقرأ الجمهور { تذّكّرون } بتشديد الذال على إدغام التّاء الثّانية في الذّال بعد قلبها ذالاً ، وقرأ عاصم في رواية حفص { تَذَكَّرون } بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين .