الأولُ : أنه تعالى لمّا ذكر دَلاَئِلَ الإلهيَّةِ ، وكمال العلم والقدرة من العالم العلويّ ، وهو السَّموات والشَّمْسُ ، والقمر ، والنُّجُوم ، أتبعه بذكر الدَّلائل من أحوال العَالمِ السُّفْلِيّ .
واعلم أنَّ أحوال هذا العالم محصورةٌ في أمور أربعة : الآثار العُلْويَّة ، والمعادن ، والنَّبَات ، والحيوان ، ومن جملة الآثار العلويَّة : الرياحُ السَّحَابُ والأمطار ، ويترتب على نزول الأمطار أحوال النَّبَات ، وهو المذكور في هذه الآية .
الثاني : أنَّهُ تعالى لمَّا أقاَمَ الدَّلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادِرِ العالم الحكيم ؛ أقَامَ الدَّلالة في هذه الآية على صِحَّةِ القول بالحشر ، والنَّشْرِ ، والبعث ، والقيامة ليحصلَ بمعرفة هايتن الآيتين كلُّ ما يحتاج إليه في معرفة المَبْدَأ والمعاد .
قوله : " الرِّيَاح بُشْراً " قد تقدَّم خلاف القرَّاءِ في إفراد " الرِّيحِ " وجمعها بالنِّسْبَة إلى سائر السُّور في البقرة .
وأمّا " بُشْراً " فقرأه في هذه السّورة - وحيث ورد في غيرها من السُّورِ - نافع وأبو عمرو{[16320]} وابن كثير بضم النون والشِّين ، وهي قراءة الحسنِ وأبي عَبْدِ الرَّحْمنِ ، وأبي رجاء بخلاف عنهم ، وشَيْبَةَ بْن نصَاحٍ وعيسَى بْنِ عُمر وأبِي يحيى ، وأبي نَوْفَلٍ الأعْرَابيَّيْنِ . وفي هذه القراءة وجهان فيتحصَّلَ فيها ستَّةُ أوْجُه :
أحدها : أن " نُشُراً " جمع نَاشِرٍ ك " بازل " و " بُزُلٍ " و " شَارِفٍ " و " شُرُفٍ " وهو جمع شاذٌّ في فاعل .
ثم " نَاشِرٌ " هذا اختلف في معناه فقيل : هو على النَّسَبِ : إمَّا إلى النِّشْر ضدَّ الطيِّ ، وإمَّا إلى النُّشُورِ بمعنى الإحياء كقوله : { وَإِلَيْهِ النشور } [ الملك : 25 ] ، والمعنى : ذا نَشْرٍ ، أو نشورٍ ك " لابنٍ " و " تَامِرٍ " .
وقيل : هو فاعل من نَشَرَ مطاوع أنْشَرَ يُقال : أنْشَرَ اللَّهُ الميِّتَ ، فَنَشَرَ فهو نَاشِرٌ ، وأنشد : [ السريع ]
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأوْا *** يَا عَجباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ{[16321]}
وقيل : ناشرٌ بمعنى مُنِشِرٌ أي : المُحْيي تقول : نَشَرَ اللَّهُ الموتى وأنْشَرَهَا ، ففعل وأفْعل على هذا بمعنى واحد ، وهذه الثَّالِثَةُ ضعيفة .
الوجه الثاني : أنَّ نُشُراً جمع نَشُور ، وهذا فيه احتمالان :
أرجحهما : أنَّهُ بمعنى فاعل ، وفعول بمعنى فاعِل ينقاس جمعُه على فُعُل كصَبُور ، وصُبُر ، وشكور ، وشُكُر أي متفرقة ، وهي الرِّيَاحُ التي تأتي من كل ناحية والنّشر التفريق ، ومنه نَشْرُ الثَّوْبِ ، ونشر الخَشَبةِ بالمِنْشَارِ .
وقال الفراءُ : " النَّشْرُ من الرِّيح الطيِّبة اللينَةِ التي تنشىء السَّحاب ، واحدها نُشُورٌ ، وأصله من النَّشْرِ وهو الرَّائِحَةُ الطيِّبَةُ .
والثاني : أنَّهُ بمعنى مفعول كَرَكُوبٍ وحلوب بمعنى مَرْكوب ومَحْلُوبٍ قالوا : لأنَّ الرِّيح تُوْصَفُ بالمَوْتِ وتوصفُ بالإحياء فمن الأوَّل قوله : [ الرجز ]
إنِّي لأرْجُو أنْ تمُوتَ الرِّيحُ *** فأقْعُدُ اليَوْمَ وأسْتَرِيحُ{[16322]}
ومن الثاني قوله : " أنْشَر الله الرِّيحَ وأحْيَاهَا " وفعول بمعنى مفعول يُجْمع على فُعُل كرسول ورُسُلٍ . وبهذا قال جماعةٌ كثيرةٌ ، إلا أنَّ ذلك غير مقيس في المُفْرَدِ وفي الجمع ، أعني أنه لا يَنْقَاسُ فعول بمعنى مفعول لا تقُولُ : زيد ضروب ولا قتول بمعنى مضروب ومقتول ، ولا ينقاسُ أيضاً جمع فَعُول بمعنى مفعول على فُعُل . فَحَصَلَ في هذه القراءة ستَّة أوْجُهٍ :
الأول : أنَّها جمع لناشرٍ بمعنى : ذا نشر ضدَّ الطيِّ .
الثاني : جمع ناشِرُ بمعنى : ذي نشور .
الرابع : جمع ناشر بمعنى مُنْشِرٍ .
الخامس : جمع نُشورٍ بمعنى : فاعلٍ .
السادس : جمع نُشورٍ بمعنى : مَفْعول .
وقرأ{[16323]} ابن عامر{[16324]} بضمِّ النُّون وسكون الشين ، وهي قراءة ابن عبَّاس ، وِزرِّ بين حُبَيْشٍ ، ويحيى بن وثَّابٍ ، والنَخَعيِّ وابن مصرف ، والأعمش ، ومَسْرُوقٍ ، وتخريجها بما ذكر في القراءة قبلها ، فإنَّهَا مخفَّفة منها ، كما قالوا : رُسْل في رُسُل وكُتْب في كُتُب ، فَسكّنوا الضمَّة تخفيفاً ، وإذا كَانُوا قد فعلوا ذلك في المفرد ، الذي هو أخفُّ من الجَمْعِ كقولهم في عُنُقٍ : عُنْقٌ ، وفي طُنُبٍ : طُنْبٌ ، فما بالهم في الجمع الذي هو أثقل من المفرد ؟
وقرأ الأخوان{[16325]} : " نَشْراً " بفتح النُّونِ وسكون الشِّين ، ووجهها أنَّهَا مَصْدَرٌ واقع موقع الحَالِ بمعنى ناشرة ، أو منشورة ، أو ذاتُ نَشْرٍ [ كُلُّ ذلك على ما تقدَّم في نظيره .
وقيل : نَشْراً مصدر مؤكِّد ؛ لأنَّ أرسل ، وأنْشَرَ متقاربان .
وقيل : نَشْراً ]{[16326]} مصدر على حذف الزَّوائد أي : إنشاراً ، وهو واقع موقع الحال أي : مُنْشِراً ، أو مُنْشَراً حسب ما تقدَّم في ذلك .
وقرأ عَاصِمٌ{[16327]} : " بُشْراً " بالبَاءِ الموحَّدَةِ مضمومة وسكون الشِّين ، وهو جمع بشيرة كنذيرة ونُذُر . وقيل : جمع فعيل كَقَلِيبٍ وقُلُب ورغيب ورُغُف ، وهي مأخوذةٌ في المعنى من قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] أي تبشّرُ بالمطر ، ثم خفِّفت الضَّمَّةُ كما تقدَّم في " النُّشُر " ، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ ابن عباس والسُّلمي وابن أبي عبلة قرأوا{[16328]} بضمِّهَا ، وهي مرويَّة عن عاصم نفسه فهذه أرْبَعُ قراءات في السَّبْع .
والخامسة : ما ذكرناه عن ابن عباس ومن معه .
وقرأ مسروق{[16329]} : " نَشَراً " بفتح النُّونِ ولاشِّين وفيها تخريجان :
أحدهما : نقله أبُو الفتحِ{[16330]} : أنَّهُ اسم جمعٍ ك " غَيَب " وَ " نشأ " لغائبة وناشئَةٍ .
والثاني : أنَّ فَعَلاً بمعنى مفعول كَقَبَضَ بمعنى مَقْبُوضٍ .
وقرأ أبُو عبد الرحمن : " بَشْراً " بفتح الباء وسكون الشِّين ورُويت عن عاصم أيضاً على أنه مصدر " بَشَر " ثلاثياً .
وقرأ ابن السَّمَيْفَع{[16331]} : " بُشْرى " بزنة رُجْعَى ، وهو مصدر أيضاً ، فهذه ثَمَان قِراءاتٍ :
أربع مع النُّونِ ، وأربع مع الباء ، هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات ، وما هي بالنِّسْبَةِ إلى كونها مفردة أو جمعاً .
وأمَّا نَصْبُها فإنَّها في قراءة نَافِعٍ ، ومن معه وابن عامر منصوبة على الحال من " الرِّياح " أو " الرِّيح " حسب ما تقدَّم من الخلاف وكذلك هي في قراءة عَاصِمٍ ، وما يشبهها .
وأمَّا في قراءة الأخوين ، ومسروق فيحتمل المصدريَّة ، أو الحاليَّة ، وكلُّ هذا واضح ، وكذلك قراءة " بُشْرَى " بزنة رجعى ولا بدَّ من التَّعرُّض لشيء آخر ، وهو أنَّ من قرأ " الرِّياح " بالجمع وقرأ " نُشْراً " جمعاً كنافع ، وأبي عمرو فواضح .
وأما من أفرد " الرِّيح " وجمع " نُشْراً " كابن كثير ، فإنَّهُ يجعل الرِّيح اسم جنس ، فهي جمع في المَعْنَى ، فوصفها بالجمع كقول عنترة : [ الكامل ]
فيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً *** سُوداً كخَافِيَةِ الغُرَابِ الأسْحَمِ{[16332]}
والحاليَّةُ في بعض الصُّوَرِ يجوز أن تكون من فاعل " يُرْسلُ " ، أو مفعوله وكلُّ هذا يُعْرف مما تقدم .
روى أبو هريرة قال : أخذتِ النَّاس ريحٌ بطريق مكَّةَ ، وعمر حاجٌّ فاشتدت ، فقال عُمَرُ لمن حوله : ما بلغكم في الرِّيح فلم يرجعوا إليه شيئاً ، فبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح ، فاستحثثتُ راحلتي حتى أدْرَكْتُ عمر ، فكنت في مُؤخَّر النَّاس ، فقلتُ : يا أمير المؤمنين : أخبرتُ أنَّكَ سألت عن الرِّيحِ ، إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : الرِّيحُ من روح الله ، تأتِي بالرَّحْمَةِ وتَأتِي بالعذابِ ، فلا تَسبُّوهَا ، وسلُوا الله من خَيْرِهَا ، وتعوَّذُوا به من شرِّها{[16333]} .
قال ابن الخطيب{[16334]} - رحمه الله - : الرِّيحُ : هواء متحرك ، وكونه متحرِّكاً ليس لذاته ، ولا للوازم ذاته ، وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته ، فلا بدَّ وأن يكون بتحريك الفاعل المختار وهو الله تعالى .
وقالت الفلاسفةُ{[16335]} : هاهنا سَبَبٌ آخَرُ ، وهو أنَّهُ يرتفعُ من الأرضِ أجزاءٌ أرضيَّةٌ لطيفةٌ ، تسخنه تَسْخِيناً فبسبب تلك السُّخُونَةِ الشَّديدة ترتفعُ وتتصاعَدُ ، فإذا قربت من الفلك ، كان الهواءُ ألْصَقَ بمقعرِ الفلكِ ، مُتحرِّكاً على استدارة الفلكِ بالحركةِ المستديرةِ التي حَصَلَتْ لتلك الطبقة من الهواءِ ، فيمنع هذه الأدْخِنَة من الصُّعُودِ ، بل يردها عن سمتِ حركتِهَا ، فحينئذٍ ترجعُ تلك الأدْخِنَةُ ، وتتفرق في الجوانبِ ، وبسبب ذلك التَّفَرُّق تحصلُ الرِّيَاحُ ثمَّ كلما كانت تلك الأدْخِنَةُ أكثر ، كان صعودها أقْوَى ، وكان رجوعها أشدَّ حركةً ، فكانت الرِّياحُ أقْوَى وأشَدّ ، هذا حاصلُ ما ذَكَرُوهُ ، وهو بَاطِلٌ لوجوهٍ{[16336]} :
الأول : أنَّ صعُودَ الأجْزَاء الأرضيَّةِ إنَّمَا يكون لشدَّةِ تسخينها وذلك التسخينُ عَرَضٌ ؛ لأنَّ الأرْضَ باردةٌ يابسة بالطَّبْعِ ، فإذا كانت الأجزاءُ الأرضيَّةُ متصَعِّدَة جداً كانت سريعة الانفصال فإذا تَصَاعَدَتْ ووصلت إلى الطِّبَقَةِ الباردة من الهواء ؛ امتنع بقاءُ الحرارةِ فيها ، بل تبرد جداً ؛ فإذا بردت ، امتنع بلوغها في الصُّعُود إلى الطبقةِ الهوائيَّةِ المتحركة بحركة الفلكِ فَبَطَلَ ما ذكروه .
الثاني : إذا ثَبَتَ أنَّ تلك الأجزاء الدُّخانيَّة ، صعدتْ إلى الطَّبقة الهوائيَّةِ المتحرّكَةِ بحركة الفلكِ ، لكنها لمّا رَجَعَتْ ، وجب أن تنزل على الاسْتِقَامَةِ ، لأنّ الأرْضَ جسم ثقيلٌ ، والثَّقِيلُ إنام يتحرك بالاستقامَةِ ، والرِّيَاحُ ليست كذلِكَ ، فإنَّهَا تتحرك يُمْنةٌ ويُسْرَةٌ{[16337]} .
الثالث : أنَّ حركة تلك الأجزاء الأرضيَّةِ النَّازلة لا تكونُ حركة قاهرةً ، فإنَّ الرِّياح إذا أحضرت الغُبَارَ الكَثِيرَ ، وعاد ذلك الغُبَارُ ونزل على السُّطُوحِ ، لم يحسَّ أحَدٌ بنزولها ونرى هذه الرِّياح تقلعُ الأشْجَارَ ، وتهدمُ [ الجِبَالَ ] ، وتموجُ البِحَارَ{[16338]} .
الرابع : لو كانَ الأمرُ على ما قالوهُ لكانت الرِّياحُ كلَّما كانت أشَدَّ وجب أنْ يكون حُصُولُ الأجزاء الغباريَّةِ الأرضيَّةِ أكثر ، لكنَّهُ ليس الأمر كذلِكَ ؛ لأنَّ الرِّيَاحَ قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البَحْرِ ، مع أن الحِسَّ يشهدُ بأنَّهُ ليس في ذلك الهواء العَاصفِ شيء من الغبارِ والكدورة ، فبطل بهذه الوجوه العقليَّةِ ما ذكروه في حركةِ الرِّياحِ{[16339]} .
وقال المُنَجِّمُونَ{[16340]} : إن قوى الكَواكبِ هي الَّتي تحرك هذه الرِّياح ، وتوجبُ هبوبَها ، وذلِكَ أيضاً بعيد ؛ لأنَّ الموجب لحركةِ الرِّياح إن كانت طَبِيعةُ الكواكبِ ؛ وجب دوامُ الرِّياح بدوام تلك الطبيعة ، وإن كان الموجبُ هو طبيعةُ الكواكبِ بشرط حصوله في البُرْجِ المُعَيَّنِ ، أو الدَّرجةِ المعيَّنَةِ ؛ وجب أن يتحرك هواء كل العالم ، وليس كذلك .
وأيضاً قد ثبت في العقليَّاتِ أنَّ الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ ، فاختصاص الكوكب المعين والبرج المعيَّنِ بالطَّبيعة التي اقتضت ذلك الأثر ، لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعلِ المُخْتَارِ ، فثبتَ بهذا البرهان العقليِّ أنَّ محرك الرِّياح هو الله - سبحانه وتعالى - وأيضاً فقوله تعالى : " نشراً " أي مُنَشَّرَةً متفرقةً ، فجزء من أجزاء الريح يذهب يُمَنْةً ، وجزء آخرُ يذهبُ يُسْرَةً ، وكذا سَائِرُ أجزاء الرِّياحِ ، كلُّ واحد منها يَذْهَبُ إلى جانب آخر ، ولا شكَّ أنَّ طبيعة الهواءِ طبيعةٌ واحدةٌ ، ونسبة الأفلاكِ والانْجُم والطَّبائع إلى كلِّ واحدٍ من الأجَزْاءْ التي لا تتجزَّأ من تلك الريح نسبة واحدة ، فاختصاصُ بعضِ أجْزَاءِ الرِّيح بالذَّهَابِ يمنةً ، والجزءُ الآخر بالذَّهَابِ يًسْرَةً يجبُ أن يكُون ذلك بتخصيص الفاعل المُخْتَارِ{[16341]} .
قوله : " بَيْنَ " : ظَرْفٌ ل " يُرْسِلُ " ، أو للبشارة فيمن قرأه كذلك .
وقوله : { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي بين يدي المَطَرِ الذي هو رحمته ، وحسنُ هذا المجاز أنَّ اليدين تستعملهما العربُ في معنى التقدُمَةِ على سبيل المجاز ؛ يقال إن الفتن تحدثُ بين يدي السَّاعةِ يريدونَ قبلها ، وذلك لأنَّ يدي الإنسان مُتَقَدِّمَانِهِ ، فكل ما يتقَدَّمُ شيئاً يطلق عليه لفظ اليَدَيْنِ مجازاً لهذه المشابَهَةِ ، كما تقولُ لمن أحسن إليك وتقدَّم إحسانه ، له عندي أيادٍ ، ولما كانت الرِّيَاحُ تتقدَّمُ المطر عَبَّرَ عنه بهذا اللفظ .
فإن قيل : قد نجد المطرَ لا يتقدَّمُهُ ريَاحٌ ، فنقول : ليس في الآية أنَّ هذا التَّقدُّمَ حاصل في كلِّ الأحوال ، وأيضاً يجوز أن تتقدَّمَهُ هذه الرِّياحُ وإن كنَّا لا نعرفها .
قوله : { حتى إِذَا أَقَلَّتْ } غاية لقوله : " يُرْسِلُ " ، وأقلَّت أي حملت من أقْلَلْتُ كذا أي : حملته بسهُولَةٍ .
قال صاحبُ " الكشَّافِ : " واشتقاقُ الإقلال من القلَّةِ ، فإن مَنْ يرفعُ شيئاً فإنَّهُ يرى ما يرفعه قليلاً ، أقلَّهُ أي حمله بِسُهُولَةٍ ، والقُلَّةُ بضمِّ القافِ هو الظَّرْفُ المعروف وقِلال هَجَرٍ كذلك ؛ لأنَّ البعيرَ يُقِلُّها أي يحملها .
وتقدَّم تفسير{[16342]} " السَّحابِ " ، وأنَّهُ يُذكَّر ويؤنَّثُ ، ولذلك عاد الضَّميرُ عليه مُذَكَّراً في قوله : " سُقْنَاهُ " . ولو حمل على المعنى كما حمل قوله " ثِقَالاً " فجُمِعُ لقال : " سُقْنَاهَا " .
و " لِبَلَدٍ " جعل الزَّمَخْشَرِيُّ " اللاَّم " للعلَّةِ ، أي : لأجل .
وقال أبُو حيَّان{[16343]} : فرقٌ بين قولك : سقتُ له مالاً ، وسُقْتُ لأجله مالاً ، بأنَّ سُقْتُ له أوْصَلْتُ إليه ، وأبْلَغْتَهُ إيَّاهُ ، بخلاف سُقْتُهُ لأجْلِهِ ، فإنَّهُ لا يلزمُ منه إلاَّ إيصاله له ، فقد يسوق المال لغيري لأجلي ، وهو واضح .
وقيل : هذه اللامُ بمعنى " إلى " ، يقال : هَدَيْتُهُ للدِّين ، أو إلى الدِّين . وتقدَّم الخلافُ في تخفيف " مَيِّتٍ " وتثقيله في آل عمران{[16344]} وجاء هنا وفي الروم [ 46 ] { يُرْسِلُ } بلفظ المستقبل مناسبة لما قبله ، فإنَّ قبله : " ادْعُوهُ خَوْفاً " وهو مستقبلَ ، وفي الروم [ 45 ] : { لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ } ، وهو مستقبل .
وأمَّا في الفرقان : [ 48 ] وفاطر [ 9 ] فجاء بلفظ الماضي : " أرْسَلَ " لمناسبة ما قَبْلَهُ وما بعدهُ في المضي ؛ لأنَّ قبله : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } [ الفرقان : 45 ] ، وبعده : { مَرَجَ البحرين } [ الفرقان : 53 ] ، فناسب ذلك الماضي ، ذكره الكَرْمَانِيُّ .
والبلد يطلق على كلِّ جُزْءٍ من الأرْضِ ، عامِراً كان ، أو خراباً ، وأنشدوا على ذلك قول الأعشى : [ البسيط ]
وَبَلْدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ *** لِلجِنِّ باللَّيْلِ في حَافَاتِهَا زَجَلُ{[16345]}
قوله : " فَأنْزَلْنَا بِهِ " الضَّميرُ في " به " يعود على أقرب مذكورٍ ، وهو " بَلَدٍ مَيّتٍ " ، وعلى هذا فلا بدَّ من أن تكون الباء ظرفيّة ، بمعنى أنزلنا في ذلك البلدِ الميِّتِ الماء ، وجعل أبُو حيّان هذا هو الظَّاهِرُ .
وقيل : الضَّميرُ يعود على " السَّحَابِ " ، ثم في " البَاءِ " وجهان :
أحدهما : هي بمعنى " مِنْ " أي : فأنزلنا من السَّحَابِ الماء .
والثاني : أنَّهَا سببيَّةٌ أي : فأنزلنا الماء بسبب السَّحَابِ .
وقيل : يعودُ على السَّوْقِ المفعوم من الفعل و " الباءُ " سببية أيضاً [ أي ] : فأنزلنا بسبب سَوْقِ السَّحابِ ، وهو ضعيفٌ لعَوْد الضَّمير على غير مذكور مع إمكان عَوْدِهِ على مذكُورٍ .
قوله : " فَأخْرَجْنَا بِهِ " الخلافُ في هذه الآيةِ كالَّذِي في قبلها ، ونزيد عليه وجهاً أحْسَنَ منها ، وهو العودُ على الماء ، ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه .
وقوله : { مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } " من " تبعيضية ، أو ابتدائية ، وقد تقدم نظيره .
اعلم أنَّ السَّحَابَ للمياه العظيمةِ إنما يبقى معلقاً في الهواء ؛ لأنَّهُ تعالى دبَّر بحكمته أن يحرِّكَ الرِّياح تحركاً شديداً ، فلأجل الحركاتِ الشَّديدةِ التي في تلك الرياح تحصل فوائد{[16346]} .
أحدها : أنَّ أجزاء السَّحابِ ينضمُّ بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقدُ السَّحابُ الكثيرُ المَاطِرُ .
وثانيها : أنَّ بسبب حركات الرِّياح الشَّديدةِ يمنةً ويُسْرَةً يمتنع على تلك الأجزاء المائيَّة النُّزُول ، فلا جَرَمَ يبقى معلّقاً في الهواء .
وثالثها : أن بسبب حركات تلك الرِّياح يناسقُ من موضع إلى موضع آخر يكون محتاجاً في علم اللَّهِ - تعالى - إلى نزولِ الأمْطَارِ .
ورابعها : أنَّ حركاتِ الرِّياحِ تارةً تكون جامعةً لأجزاء السَّحابِ ، وتارةً مفرقة لأجزاءِ السَّحَابِ .
وخامسها : أنَّ هذه الرِّياحَ تارةً تكونُ مُقَوِّيَةً للزُّرُوع والأشجار مكلمة لما فيها من النشوء والنَّمَاءِ ، وهي الرِّيَاحُ اللَّواقِحُ ، وتارةً تكونُ مبطلة لها ، كام تكونُ في الخريف .
وسادسها : أنَّ هذه الرِّياح تارةً تكون طيِّبة موافقة للأبدان ، وتارةً تكون مُهْلِكَة : إمَّا بسبب ما فيها من الحرِّ الشَّديدِ كما في السَّمُومِ ، أو بما فيها من البرد الشَّديدِ ، كما في الرِّياحِ الباردة والمهلِكَة .
وسابعها : أنَّ هذه الرِّياحَ تكونُ [ تارةً ] شرقيَّةً ، وتارة غربيَّة ، وشماليَّةً ، وجنوبيَّةً ، كذا ضبطه بعض النَّاسِ ، وإلا فالرِّياحُ تهبُّ من كلِّ جانبٍ من جوانبِ العالم ، ولا اختصاصَ لها بجانب من جَوَانبِ العالمِ .
وثامنها : أنَّ هذه الرِّياحَ تصعدُ من قعر البَحْرِ ، فإنَّ من ركب البَحْرَ يشاهد أن البَحْرَ ، يحصل له غليان شديد بسبب تولُّدِ الرِّياحِ في قَعْرِ البَحْرِ ، ثمَّ لا يَزَالُ يَتَزَايدُ الغليانُ ويقوى إلى أن تَنْفَصِلُ تلك الرِّيَاحُ من قَعْرِ البَحْرِ إلى ما فوقَ البَحْرِ ، وحينئذٍ يَعْظُمُ هبُوبُ الرِّيَاح في وجه البَحْرِ ، وتارةً ينزل الرِّيح من جهة فوق فاختلافُ الرِّياحِ بسبب هذه المعاني عجيبٌ{[16347]} .
وعن ابْن عُمَرَ الرِّيَاحُ ثمانٍ : أربعٌ عَذَابٌ وهي القَاصِفُ ، والعاصفُ والصَّرْصَرُ ، والعَقِيمُ ، وأربعٌ منها رحمة وهي : النَّاشِرَاتُ ، والمبشّرَاتُ ، والمُرْسلاتُ ، والذَّارِيَاتُ{[16348]} .
وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ : " نُصِرْتُ بالصَّبَا ، وَأهْلِكَ عادٌ بالدَّبُّورِ " {[16349]} و " الجَنُوبُ مِنْ رِيحِ الجَنَّةِ " {[16350]} .
وعن كعب : لَو حَبَسَ اللَّهُ الرِّيحَ عن عَبَادِهِ ثلاثةً أيَّام لأنْتَنَ أكثر أهْلِ الأرْضِ .
وعن السُّدِّيِّ أنَّه تعالى يرسل الرِّيَاحَ ، فتأتي بالسَّحَابِ ، ثم إنَّهُ تعالى يسبطه في السَّمَاءِ كيف يشَاءُ ، ثم يفتح أبوابَ السَّمَاءِ فيسيلُ الماءُ على السَّحابِ ، ثم يُمْطِرُ السَّحَابُ بعد ذلك ، ورحمته هو المَطَرُ{[16351]} .
وإذا عُرف ذلك فنقولُ : اختلاف الرّياحِ في الصِّفات المذكورَةِ مع أنَّ طبعها واحد ، وتأثيرات الطَّبائع والأنجم والأفلاك واحدة ، يدلُّ على أنَّ هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المُخْتَارِ .
قوله : " كَذَلِكَ " نعت مصدر محذوف ، أي : يُخْرج المَوْتى إخْرَاجاً كإخْراجِنَا هذه الثَّمَرَاتِ ، وفي هذا التَّشبيه قوان :
الأول : أنَّ المَعْنَى كما خلق الله - تعالى - النَّبَاتَ بالأمطار ، فكذلك يحيي الموتى بمِطِرٍ ينزله على الأجْسَادِ الرَّميمة .
قال أبُو هُريْرَةَ وابن عباس : إذا مَاتَ النَّاسُ كلُّهم في النَّفْخَةِ ، أرسل اللَّهُ عليهم مَطَراً كمنيِّ الرِّجالِ من ماء تَحْتَ العَرْشِ يدْعَى ماءُ الحيوانِ ، ينبتون في قُبُورِهِم نبات الزَّرْعِ ، حتى إذا استكملت أجْسَادهم نفخ فيه الرُّوح ، ثم يلقى عليهم نومة فينامُونَ في قبورهم ، ثم يُحْشَرُونَ بالنَّفْخَةِ الثَّانية ، وهم يجدون طعم النَّوْم في رُءُوسهم وأعينهم ، فعند ذلك يَقُولُونَ : { ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا }{[16352]} [ يس : 52 ] .
الثاني : أن [ هذا ] التَّشْبِيه إنَّمَا وقع بأصل الإحْيَاء ، والمعنى : أنَّهُ تعالى أحيى هذا البَلَدَ بعد خَرَابِهِ ، فأنبت فيه الشَّجَرَ فكذلك يحيى الموتى بعد أن كانوا أمْواتاً ؛ لأنَّ من قدر على إحداث الجسم ، وخلق الرُّطُوبَةِ والطعم فيه ، يكون قادراً على إحداث الحياة في بدن الميِّتِ .
قال ابن الخطيب{[16353]} : واعلم أنَّ الذَّاهبين إلى القولِ الأوَّلِ إن اعتقدوا أنَّهُ لا يمكن بَعْث الأجْسَادِ ، إلا بأنْ يمطر على تلك الأجساد البَاليةِ مَطَراً على صفة المَني فقد بعدوا ؛ لأنَّ القادر على أنْ يحدث في ماء المطر صفة ، تصير باعتبارها منيّاً ، لم لا يَقْدِرُ على خلق الحياةِ في الجِسْم ؟ وأيضاً فهب أن ذلك المطر ينزل ، إلا أنَّ أجزاء الأمْوات متفرقة ، فبعضها بالمَشْرِقِ وبعضها بالمغربِ ، فمن أين ينفعُ ذلك المَطَرُ في توليد تلك الأجْسَام ؟
فإن قالوا : إنَّهُ تعالى بقدرته وحكمته يجمع تلك الأجْزَاءَ المتفرّقَةَ ، فَلِمَ لمْ يقُولوا : إنَّهُ بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجْزاء المتفرقة ابتداءً من غير واسطة ذلك المطر ؛ وإن اعتقدُوا أنه تعالى قادر على إحياء الأمْواتِ ابتداءً ، إلا أنه تعالى إنَّمَا يحييهم على هذا الوَجْهِ ، كما أنَّهُ قادرٌ على خلق الأشخاص في الدُّنْيَا ابتداءً إلا أنَّهُ أجرى عادته بأنَّهُ لا يخلقهم إلاَّ من أبوين ، فهذا جَائِزٌ .
ثم قال تعالى : { لَعلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : أنكم لما شاهدتم أنَّ هذه الأرض كانت مزيَّنَة وقت الرَّبيع والصَّيْفِ بالأزهار والثِّمار ، ثم صارت عند الشِّتاء ميتة عارية عن تلك الزّينة ، ثم إنَّهُ تعالى أحياها مرَّةً أخرى ، فالقادر على إحيائها بعد موتها يَجِبُ أن يكون قَادِراً على إحياء الأجساد بَعْدَ موتها أيضاً .