غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَقَلَّتۡ سَحَابٗا ثِقَالٗا سُقۡنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَآءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ كَذَٰلِكَ نُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (57)

54

ثم إنه سبحانه لما ذكر دلائل الإلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي أتبعه ذكر الدلائل من أحوال هذا العالم وهي الآثار العلوية من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها أحوال الرياح والسحب والأمطار . وأيضاً لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العليم الحكيم الرحيم أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر ليتم بالآيتين تقرير المبدأ والمعاد فقال : { وهو الذي يرسل الرياح } الريح هواء متحرك ، وتحركه ليس لذاته ولا للوازم ذاته وإلا دام بدوام الذات ، فهو بتحريك الفاعل المختار . قالت الحكماء : من أسباب الريح أن يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنت تسخيناً شديداً ، فبسبب تلك السخونة ترتفع وتتصاعد ، فإذا وصلت إلى قريب من الفلك فإن الهواء الملتصق بمقعر الفلك يمنع هذه الأدخنة من الصعود بل يردها عن سمت حركتها لتحرك تلك الطبقة على الاستدارة تشيعاً للفلك ، فحينئذٍ ترجع الأدخنة وتتفرق في الجوانب وبسبب تفرقها تحصل الرياح . وكلما كانت تلك الأدخنة أكثر وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضاً أشد فكانت الرياح أقوى ، وزيف بأن صعود تلك الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها بالعرض ، فإذا تصاعدت ووصلت إلى الطبقة الباردة بردت فامتنع صعودها إلى الطبقة العليا المتحركة بحركة الفلك . سلمنا أنها تصعد إلى الطبقة المتحركة بالاستدارة لكن رجوعها يجب أن يكون على الاستقامة كما هو مقتضى طبيعة الأرض لكنها تتحرك يمنة ويسرة . وأيضاً إن حركة تلك الأجزاء لا تكون قاهرة فإن الرياح إذا أصعدت الغبار الكثير ثم عاد ذلك الغبار ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها ، ونحن نرى هذه الرياح تقلع الأشجار وتهدم الجبال وتموج البحار ، وأيضاً لو كان الأمر على ما قالوا لكانت الرياح كلما كانت أشد وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر وليس كذلك ، لأنه قد توجد الرياح العاصفة في وجه البحر وليس فيها شيء من الغبار . ويمكن أن يجاب بأن الحكم بامتناع الصعود استبعاد محض وحديث الرجوع على الاستقامة مبني على أن الريح هي تلك الأجزاء الراجعة فقط وليس كذلك ، فإن الراجع إذا خرق الهواء حدث فيما يجاوره من الهواء تحرك واضطراب وتموج شبه ما يحدث في الماء إذا ألقي فيه حجر ، وكذا الكلام في الوجهين الباقيين . وقال المنجمون : قد يحدث بسبب وصول كوكب معين إلى موضع معين من البروج ريح عاصفة ، وزيف بأنه لو كان كذلك لزم تحرك كل الهواء . والجواب أن وصول الكوكب إلى الموضع الفلاني إنما يوجب تحرك الهواء بتسخين أو تلطيف أو تكثيف يحدث في بعض المواد المستعدة لذلك فيطلب ذلك القابل مكاناً أكثر أو أقل مما كان عليه ، فيلزم من ذلك تحرك الهواء المجاور له لاستحالة التداخل والخلاء لا يتدافع إلى أن يتحرك جميع كرة الهواء بل يتموج بعض أجزاء الهواء ثم يستقر كل في موضعه ، ويختلف مقدار ذلك بحسب المؤثر والمتأثر والكل يستند إلى تدبير الله سبحانه وتقديره ، وإنما قال في هذه السورة { يرسل الرياح } بلفظ المستقبل وكذا في «الروم » لأن ما قبله هاهنا ذكر الخوف والطمع وأنهما يناسبان المستقبل ، وأما في «الروم » فليناسب ما قبل ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } [ الروم : 46 ] وقال في الفرقان : { أرسل الرياح } [ الفرقان : 48 ] بلفظ الماضي ليناسب ما قبله : { كيف مد الظل } [ الفرقان : 45 ] وما بعده { وهو الذي جعل } [ الفرقان : 62 ] وكذا في «فاطر » مبني على أول السورة { فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة } [ فاطر : 1 ] وهما بمعنى الماضي والله تعالى أعلم . أما قوله : { نشراً } بنون مفتوحة وشين ساكنة فإنه مصدر نشر . وانتصابه إما على الحال بمعنى منتشرات وإما لأن أرسل ونشر متقاربان كأنه قيل : نشرها نشراً . ومن قرأ { نشراً } بضمتين فلأنه جمع نشور كرسول ورسل ، وقد تخفف كرسل ، ومن قرأ { بشراً } بضم الباء الموحدة وسكون الشين فلأنه مخفف بشر جمع بشير . ومعنى : { بين يدي رحمته } أمام نعمته وهي الغيث الذي هو من أجلِّ النعم وأحسنها وهذا بحسب الأغلب ، فإن المطر قلما لا يتقدمه رياح يسلطها الله تعالى على السحاب والعرب تستعمل اليدين بدل قدام وأمام مجازاً لأن اليدين من الحيوان متقدمان على الرجلين . { حتى إذا أقلت } حملت ورفعت واشتقاقه من القلة لأن الرافع الذي يقدر على حمل الثقيل يزعم أن ما يرفعه قليل { سحاباً } جمع سحابة ولهذا قال : { ثقالاً } على الجمع جمع ثقيلة والضمير في { سقناه } يعود إلى السحاب على لفظه ، وضمير المتكلم في { سقناه } على أصله . وأما الذي في قوله : { وهو الذي } فعلى طريقة الالتفات وإلا فالظاهر أن يقال : نحن أرسلنا . واعلم أن السحاب المستمطر للمياه العظيمة إنما يبقى معلقاً في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكاً شديداً . ولتلك الحركات فوائد منها : أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر ثم تصير متفرقة . ومنها أن تتحرك الرياح يمنة ويسرة فتمنع الأجزاء المائية الرشية عن النزول فيبقى معلقاً في الهواء . ومنها أن ينساق السحاب إلى موضع علم الله احتياجهم إلى نزول الأمطار ، ومن الرياح مقوية للزروع والأشجار ومكملة لما فيها من النشوء والنماء وهي اللواقح . ومنها مبطلة لها كما في الخريف . ومنها طيبة لذيذة وموافقة للأبدان . ومنها مهلكة للحر الشديد كالسموم أو البرد الشديد . ومنها مشرقية ومغربية وشمالية وجنوبية ، وبالحقيقة تهب الرياح من كل جانب ولكنها ضبطت كذلك ، وقد يصعد الريح من قعر الأرض فقد يشاهد غليان شديد في البحر بسبب تولد الرياح في قعره ثم لا يزال يتزايد ذلك الغليان إلى أن ينفصل الريح إلى ما فوق البحر ، وحينئذٍ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر ، وعن ابن عمر : الرياح ثمان : أربع منها عذاب وهو العاصف والقاصف والصرصر والعقيم ، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ، وعن النبي صلى الله عليه وآله : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة » وعن كعب : لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض ، وعن السدي أنه تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب ، ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فينزل الماء على السحاب ، ثم يمطر السحاب بعد ذلك برحمته وهي المطر . ومعنى { لبلد ميت } أي لأجل بلد ميت ليس فيه نبات ولا زرع ، والبلد كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خالٍ أو مسكون . { فأنزلنا به الماء } قال الزجاج وابن الأنباري : أي بالبلد . وجائز أن يراد بالسحاب أو بالسوق فالباء للسببية . { فأخرجنا به } قال الزجاج : أي بالبلد . { من كل الثمرات } ويجوز أن يراد أي بالماء . قال جمهور الحكماء : إنه تعالى أودع في الماء قوّة وطبيعة توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب . وقال أكثر المتكلمين : إن الثمار ليست متولدة من الماء وإنما أجرى الله تعالى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب { كذلك } مثل ذلك الأخراج وهو إخراج الثمرات . { نخرج الموتى } فالتشبيه إنما وقع في أصل الإحياء أي كما أحيا هذا البلد وأنبت فيه الشجرة وجعل فيه الثمر كذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا تراباً لأن من قدر على إحداث الجسم وخلق الرطوبة والطعم فيه كان قادراً على إحداث الحياة في بدن الميت . وقال كثر من المفسرين : المراد أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الماء كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال مطر على الأجساد الرميمة . يروى أنه يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطر كالمني أربعين يوماً فينبتون عند ذلك أحياء . وعن مجاهد : تمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر ، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها . قال العلماء : إن هؤلاء المفسرين ذهبوا إلى هذا بناء على النقل وعلى إجراء العادة وإلا فإنه تعالى قادر على خلق الحياة في الجسم ابتداء من غير واسطة المطر كما أنه يجمع بقدرته الأجزاء المتفرقة والمتمزقة غاية التفرق والتمزق ولهذا ختم الآية بقوله : { لعلكم تذكرون } والمعنى أنكم شاهدتم أن الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف والخريف بالأزهار والثمار والأشجار ثم صارت وقت الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة ، ثم أحياها مرة أخرى ، فالقادر على إحيائها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها .

/خ58