قوله تعالى : { وتولى عنهم } ، وذلك أن يعقوب عليه السلام لما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه وبلغ جهده ، وتهيج حزنه على يوسف فأعرض عنهم ، { وقال يا أسفى } ، يا حزناه ، { على يوسف } ، والأسف أشد الحزن ، { وابيضت عيناه من الحزن } ، عمي بصره . قال مقاتل : لم يبصر بهما ست سنين ، { فهو كظيم } أي : مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه . وقال قتادة : يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا . قال الحسن : كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانون عاما لا تجف عينا يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب .
وتولى عنهم وقال : يا أسفا على يوسف ! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم . .
وهي صورة مؤثرة للوالد المفجوع . يحس أنه منفرد بهمه ، وحيد بمصابه ، لا تشاركه هذه القلوب التي حوله ولا تجاوبه ، فينفرد في معزل ، يندب فجيعته في ولده الحبيب . يوسف . الذي لم ينسه ، ولم تهون من مصيبته السنون ، والذي تذكره به نكبته الجديدة في أخيه الأصغر فتغلبه على صبره الجميل :
ويكظم الرجل حزنه ويتجلد فيؤثر هذا الكظم في أعصابه حتى تبيض عيناه حزنا وكمدا :
انتقال إلى حكاية حال يعقوب عليه السلام في انفراده عن أبنائه ومناجاته نفسه ، فالتولي حاصل عقب المحاورة . و { تولى } : انصرف ، وهو انصراف غَضَب .
ولمّا كان التولّي يقتضي الاختلاء بنفسه ذكر من أخواله تجدد أسفه على يوسف عليه السلام فقال : { يا أسفى على يوسف } والأسف ؛ أشد الحزن ، أسِف كحزن .
ونداء الأسف مجاز . نزّل الأسف منزلة من يعقل فيقول له : احضر فهذا أوان حضورك ، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف .
والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفاً .
وإنما ذكر القرآن تحسّره على يوسف عليه السلام ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين لأن ذلك التحسّر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكرُه أن يعقوب عليه السلام لم يتحسّر قط إلاّ على يوسف ، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها .
وكذلك عطف جملة { وابيضت عيناه من الحزن } إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة . فكل من التولّي والتحسر واببيضاض العينين من أحواله إلاّ أنها مختلفة الأزمان .
وابيضاض العينين : ضعُف البصر . وظاهره أنه تبدّل لون سوادهما من الهزال . ولذلك عبّر ب { وابيضت عيناه } دون عميت عيناه .
و { من } في قوله : { من الحزن } سببية . والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين . وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار كما قال الحارث بن حلزة :
قبل ما اليوم بيّضَتْ بعيون الن *** اس فيها تغيض وإباء
وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر . فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار ؛ على أن البكاء من الحزن أمر جبليّ فلا يستغرب صدوره من نبيء ، أو أن التصبّر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحَزن والجزع عند المصائب . وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على موسى عليه السلام أربعين يوماً ، وحَكت تمزيق بعض الأنبياء ثيابهم من الجزع . وإنما التصبر في المصيبة كمال بلغت إليه الشريعة الإسلامية .
والكظيم : مبالغة للكاظم . والكَظم : الإمساك النفساني ، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس ، ويبكي في خلوته ، أو هو فعيل بمعنى مفعول ، أي محزون كقوله : { وهو مكظوم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.