فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

{ وتولى عَنْهُمْ } أي : أعرض عنهم ، وقطع الكلام معهم وقال : { يا أسفا على يوسف } . قال الزجاج : الأصل يا أسفي ، فأبدل من الياء ألفاً لخفة الفتحة ، والأسف : شدة الجزع ؛ وقيل : شدة الحزن ، ومنه قول كثير :

فيا أسفا للقلب كيف انصرافه *** وللنفس لما سليت فتسلت

قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف ، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين ، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيراً عند ملك مصر ، فتضاعفت أحزانه ، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير . وقد روي عن سعيد بن جبير : أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع ، والصبر على المصائب ، ولو كان عنده ذلك لما قال : { يا أسفا على يوسف } . ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره ، كأنه قال : تعال يا أسفي ، وأقبل إليّ { وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن } أي : انقلب سواد عينيه بياضاً من كثرة البكاء . قيل : إنه زال إدراكه بحاسة البصر بالمرة . وقيل : كان يدرك إدراكاً ضعيفاً . وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كلاً أو بعضاً بأنه : إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف حيّ ، فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حينئذٍ كفار ؛ وقيل : إن مجرد الحزن ليس بمحرّم ، وإنما المحرّم ما يفضي منه إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي . وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم : ( تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الربّ ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزنون ) ويؤيد هذا قوله : { فَهُوَ كَظِيمٌ } أي : مكظوم ، فإن معناه : أنه مملوء من الحزن ممسك له لا يبثه ، ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه ، فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه ، من كظم السقاء : إذا سدّه على ما فيه ، والكظم بفتح الظاء . مخرج النفس ، يقال : أخذ بأكظامه ، وقيل : الكظيم بمعنى الكاظم أي : المشتمل على حزنه ، الممسك له ، ومنه :

فإن أك كاظما لمصاب ناسٍ *** فإني اليوم منطلق لساني

ومنه { والكاظمين الغيظ } [ آل عمران : 134 ] . وقال الزجاج : معنى كظيم : محزون . وروي عن ابن عباس أنه قال : معناه : مغموم مكروب . قال بعض أهل اللغة : الحزن بالضم والسكون : البكاء ، وبفتحتين : ضدّ الفرح ، وقال أكثر أهل اللغة : هما لغتان : { قَالُواْ تالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } أي : لا تفتأ ، فحذف حرف النفي لعدم اللبس . قال الكسائي : فتأت وفتئت أفعل كذا ، أي : مازلت . وقال الفراء : إن «لا » مضمرة ، أي : لا تفتأ . قال النحاس : والذي قال صحيح . وقد روي عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء ، وأنشد الفراء محتجاً على ما قاله :

فقلت يمين الله أبرح قاعداً *** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

ويقال : فتيء ، وفتأ لغتان ، ومنه قول الشاعر :

فما فتئت حتى كأن غبارها *** سرادق يوم ذي رياح ترفع

/خ88