{ وَتَوَلَّى } أي أعرض { عَنْهُمْ } كراهة لما جاؤا به { وَقَالَ يَا أسَفى عَلَى يُوسُفَ } الأسف أشد الحزن على ما فات ، والظاهر أنه عليه السلام أضافه إلى نفسه ، والألف بدل من ياء المتكلم للتخفيف ، والمعنى يا أسفى تعال فهذا أوانك ، وقيل : الألف ألف الندبة والهاء محذوفة والمعول عليه الأول ، وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخوية لأن رزأه كان قاعدة الإرزاء عنده وإن تقادم عهده أخذاً بمجامع قلبه لا ينساه ولا يزول عن فكره أبداً :
ولم تنسني أو في المصيبات بعده *** ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع
ولا يرد أن هذا مناف لمنصب النبوة إذ يقتضي ذلك معرفة الله تعالى ومن عرفه سبحانه أحبه ومن أحبه لم يتفرغ قلبه لحب ما سواه لما قيل : إن هذه محبة طبيعية ولا تأبى الاجتماع مع حبه تعالى ، وقال الإمام : إن مثل هذه المحبة الشديدة تزيل عن القلب الخواطر ويكون صاحبها كثير الرجوع إليه تعالى كثير الدعاء والتضرع/ فيصير ذلك سبباً لكمال الاستغراق ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في هذا المقام في باب الإشارة ، وقيل : لأنه عليه السلام كان واثقاً بحياتها عالماً بمكانهما طامعاً بإيابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله تعالى وفضله وفيه بحث . وأخرج الطبراني وابن مردوية والبيهقي في «شعب الإيمان » عن سعيد بن جبير [ لم تعط أمة من الأمم { إنا لله وإنا إليه راجعون } [ البقرة : 156 ] إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ] أي لم يعلموه ولم يوفقوا له عند نزول المصيبة بهم ، ألا يرى إلى يعقوب عليه السلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال ما قال ، وفي { أسفا } و { يوسف } تجنيس نفيس من غير تكلف وخو مما يزيد الكلام الجليل بهجة .
{ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْن } أي بسببه وهو في الحقيقة سبب للبكاء والبكاء سبب لابيضاض عينه فإن العبرة إذا كثرت محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر فأقيم سبب السبب مقامه لظهوره ، والابيضاض قيل إنه كناية عن العمى فيكون قد ذهب بصره عليه السلام بالكلية واستظهره أبو حيان لقوله تعالى : { فارتد بصيراً } [ يوسف : 96 ] وهو يقابل بالأعمى ، وقيل : ليس كناية عن ذلك والمراد من الآية أنه عليه السلام صارت في عينيه غشاوة بيضتهما وكان عليه السلام يدرك إدراكاً ضعبفاً ، وقد تقدم الكلام في حكم العمى بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام ، وكان الحسن ممن يرى جوازه . فقد اخرج عبالله بن أحمد في «زوائده » وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال : كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب عليهما السلام إلى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره وما على الأرض يومئذ والله أكرم على الله تعالى منه ، والظاهر أنه عليه السلام لم يحدث له هذا الأمر عند الحادث الأخير ، ويدل عليه ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فعرفه فقال له أيها الملك الكريم على ربه هل لك علم بيعقوب ؟ قال : نعم .
قال : ما فعل ؟ قال : ابيضت عيناه من الحزن عليك قال : فما بلغ من الحزن ؟ قال : حزن سبعين مشكلة قال : هل له على ذلك من أجر ؟ قال : نعم أجر مائة شهيد وقرأ ابن عباس ومجاهد { من الحزن } بفتح الحاء والزاي وقرأ قتادة بضمهما .
واستدل بالآية على جواز التأسف والكاء عند النوائب ، ولعل الكف عن أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد .
وقد روى الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم وقال : «إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون » وإنما المنهي عنه ما يفعله الجهلة من النياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب . ورويا أيضاً من حديث أسامة أنه صلى الله عليه وسلم رفع إليه صبي لبعض بناته يجود بنفسه فأقعده في حجره ونفسه تتقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه عليه الصلاة والسلام فقال سعد : يا رسول الله ما هذا ؟ فقال : هذه رحمة جعلها الله تعالى فيمن شاء من عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء . وفي «الكشاف » أنه قيل له عليه الصلاة والسلام : تبكي وقد نهيتنا عن البكاء ؟ قال . ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح . وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره فقيل له في ذلك فقال : ما رأيت الله تعالى جعل الحزن عاراً على يعقوب عليه السلام .
{ فَهُوَ كَظيمٌ } / أي مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره ، وقيل : مملوء من الحزن ممسك له لا يبديه ، وهو من كظم السقاء إذا شده بعده ملئه ، ففعيل بمعنى مفعول أي مكظوم فهو كما جاء في يونس عليه السلام { إذ نادى وهو مكظوم } [ القلم : 48 ] ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كقوله تعالى : { والكاظمين } [ آل عمران : 134 ] من كظم الغيظ إذا تجرعه أي شديد التجرع للغيظ أو الحزن لأنه لم يشكه إلى أحد قط ، وأصله من كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه فكأنه عليه السلام يرد ذلك في جوفه مرة بعد أخرى من غير أن يطلع أحداً عليه . وفي الكلام من الاستعارة على الوجهين ما لا يخفى ، ورجح الأخير منهما بأن فعيلاً بمعنى فاعل مطرد ولا كذلك فعيلاً بمعنى مفعول .
( ومن باب الإشارة { وَقَالَ يا أسفى على يُوسُفَ } قال بعض العارفين : إن تأسفه على رؤية جمال الله تعالى من مرآة وجه يوسف عليه السلام وقد تمتع بذلك برهة من الزمان حتى حالت بينه وبينه طوارق الحدثان فتأسف عليه السلام لذلك واشتاقت نفسه لما هناك :
سقى الله أياماً لنا ولياليا *** مضت فجرت من ذكرهن دموع
فياهل لها يوماً من الدهر أوبة *** وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع
{ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن } [ يوسف : 84 ] حيث بكى حتى أضر بعينيه وكان ذلك حتى لا يرى غير حبيبه :
لما تيقنت أني لست أبصركم *** غمضت عيني فلم أنظر إلى أحد
قال بعض العارفين : الحكمة في ذهاب بصر يعقوب وبقاء بصر آدم وداود عليهما السلام مع أنهما بكيا دهراً طويلاً إن بكاء يعقوب كان بكاء حزن معجون بألم الفراق حيث فقد تجلى جمال الحق من مرآة وجه يوسف ولا كذلك بكاء آدم وداود فإنه كان بكاء الندم والتوبة وأين ذلك المقام من مقام العشق ، وقال أبو سعيد القرشي : إنما لم يذهب بصرهما لأن بكاءهما كان من خوف الله تعالى فحفظاً وبكاء يعقوب كان لفقد لذة فعوتب ، وقيل : يمكن أن يكون ذهاب بصره عليه السلام من غيرة الله تعالى عليه حين بكى لغيره وإن كان واسطة بينه وبينه ، ولهذا جاء أن الله تعالى أوحى إليه يا يعقوب أتتأسف على غيري وعزتي لآخذن عينيك ولا أردهما عليك حتى تنساه ، واختار بعض العارفين أن ذلك الأسف والبكاء ليسا إلا لفوات ما انكشف له عليه السلام من تجلى الله تعالى في مرآة وجه يوسف عليه السلام ، ولعمري أنه لو كان شاهد تجليه تعالى في أول التعنيات وعين أعيان الموجودات صلى الله عليه وسلم لنسي ما رأى ولما عراه ما عرا ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.