فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

{ وتولى } أي أعرض { عنهم } وقطع الكلام معهم حين بلغوه خبر بنيامين { و } لما ساء حزنه واشتد بلاؤه وبلغ جهده وهاج غمه { قال يا أسفا على يوسف } قال الزجاج الأصل يا أسفي فأبدل من الياء ألفا لخفة الفتحة ، والأسف شدة الجزع وقيل شدة الحزن .

عن ابن عباس أي يا حزنا ، وعن قتادة مثله ، وعن مجاهد يا جزعا .

قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف عليه السلام وانضمام فراقه لأخيه بنيامين وبلوغ ما بلغه من كونه أسيرا عند ملك مصر ، فتضاعفت أحزانه وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير .

وقد روي عن سعيد ابن جبير أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع والصبر على المصائب ولو كان ذلك لما قال يا أسفا على يوسف عليه السلام يعني أن الاسترجاع خاص بهذه الأمة ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره كأنه قال تعال يا أسفي وأقبل علي وفيه شكوى إلى الله لا منه .

{ وابيضت عيناه من الحزن } أي انقلب سواد عينه بياضا من كثرة البكاء قيل أنه زال إدراكه بحاسة البصر بالمرة قال مقاتل : لم يبصر شيئا ست سنين والتزمه بعضهم بناء على جواز مثل هذا على الأنبياء بعد التبليغ .

وقيل كان يدرك إدراكا ضعيفا ، وقال بعض أهل اللغة الحزن بالضم والسكون البكاء وبفتحتين ضد الفرح وقال أكثر أهل اللغة هما لغتان بمعنى ، والبكاء بالمد رفع الصوت وبالقصر نزول الدمع من غير صوت وهو المناسب هنا وهو أحد قولين والذي جرى عليه المصباح والقاموس أنه لا فرق بينهما في أن كلا يستعمل في كليهما .

وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كلا أو بعضا أنه إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف عليه السلام حي فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حينئذ كفار ، وقيل أن مجرد الحزن ليس بمحرم وإنما المحرم ما يفضي منه إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي .

قال أبو السعود : وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند النوائب فإن الكف من ذلك مما لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ولقد بكى رسول الله صلى الله ليه وسلم على ولده إبراهيم وقال : تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون انتهى .

ويؤيد هذا قوله { فهو كظيم } أي مكظوم فإن معناه أنه مملوء من الحزن ممسك له لا يبثه ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه من كظم السقاء إذا سده على ما فيه والكظم بالفتح مخرج النفس يقال أخذ بأكظامه وقيل الكظيم بمعنى الكاظم أي المشتمل على حزنه الممسك له ومنه والكاظمين الغيظ .

وقال الزجاج : معنى كظيم محزون وعن ابن عباس قال : كظيم حزين وعن قتادة قال : كظم على الحزن وحزنه في جوفه فلم يقل إلا خيرا وعن عطاء الخراساني ، قال مكروب وعن عكرمة مثله وعن الضحاك الكظيم الكمد وعن مجاهد نحوه .

قال الحسن : كان بين خروج يوسف عليه السلام من حجر أبيه إلى يوم التقيا ثمانون سنة ولم تجف عينا يعقوب ، وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه والله أعلم .