محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

[ 84 ] { وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم 84 } .

{ وتولى } أي أعرض { عنهم } أي عن بنيه كراهة لما جاءوا به { وقال يا أسفى على يوسف } أي يا حزني الشديد ! و ( الألف ) بدل من ياء المتكلم للتخفيف ، وقيل : هي ألف الندبة ، والهاء محذوفة . و ( الأسف ) أشد الحزن والحسرة على ما فات . وإنما تأسف على يوسف دون أخويه ، والحادث رزأهما والرزء الأحدث أشد على النفس ، وأظهر أثرا - لأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده ، فكان الأسف عليه أسفا على من لحق به ، ولأنه لم يزل عن فكره ، فكان غضا طريا عنده ، كما قيل{[4941]} :

ولم تنسني أوفى المصيبات بعده *** وكل جديد يذكر بالقديم

ولأنه كان واثقا بحياتهما دون حياته .

{ وابيضت عيناه من الحزن } وذلك لكثرة بكائه .

قال الزمخشري : إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين ، وقلبته إلى بياض كدر . { فهو كظيم } أي مملوء من الغيظ على أولاده ، ولا يظهر ما يسوؤهم . ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) كقوله{[4942]} : { وهو مكظوم } أو بمعنى شديد التجرع للغيظ أو الحزن ، لأنه لم يشكه إلى أحد قط . فهو بمعنى ( فاعل ) .

تنبيه :

دلت الآية على جواز التأسف والبكاء عند المصيبة .

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ؟ قلت : الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن ، ولذلك حمد صبره ، وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن .

ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال{[4943]} : " إن العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " .

وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب . وعن الحسن أنه بكى على ولد ، أو غيره فقيل له في ذلك ؟ فقال : ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب .


[4941]:ليس هكذا النص. ولا يمكن فهمه بغير ما قبله. وهو قوله: نعى الركب (أوفى) حين آبت ركابهم *** لعمري لقد جاءوا بشر فأوجعوا نعوا باسق الأخلاق لا يخلفونه *** تكاد الجبال الصم منه تصدع فعزيت عن (أوفى) (غيلان) بعده *** عزاء وجفن العين بالماء مترع ولم تنسني (أوفى) المصيبات بعده *** ولكن نكء القرح بالقرح أوجع وقائلها هشام، أخو ذي الرمة وغيلان هو ذو الرمة. انظر: ص 223 من الجزء الأول، من كامل المبرد (طبعة الحلبي).
[4942]:[68 / القلم / 48].
[4943]:أخرجه البخاري في : 23- كتاب الجنائز، 44- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنا بك لمحزونون)، حديث 692، عن أنس. وأخرجه مسلم في : 43- كتاب الفضائل، 15- باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال، وتواضعه وفضل ذلك، حديث رقم 62 (طبعتنا).