غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

84

التفسير : لما سمع يعقوب ما سمع من حال ابنه ضاق قلبه جداً { وتولى عنهم } أي أعرض عن بنيه الذين جاءوا بالخبر وفارقهم { وقال يا أسفى على يوسف } الأسف أشد الحزن . والألف فيه مبدل من ياء الإضافة ونداء الأسف كنداء الويل وقد مر في المائدة . والتجانس بين لفظي الأسف ويوسف لا يخفى حسنه وهو من الفصاحة اللفظية . وكيف تأسف على يوسف دون أخيه الآخر الذي أقام بمصر والرزء الأحدث أشد ؟ الجواب لأن الحزن الجديد يذكر العتيق والأسى يجلب الأسى ، ولأن رزء يوسف كان أصل تلك الرزايا فكان الأسف عليه أسفاً على الكل ولأنه كان عالماً بحياة الآخرين دون حياة يوسف { وابيضت عيناه من الحزن } أي من البكاء الذي كان سببه الحزن . قال الحكماء : إذا كثر الاستعبار أوجب كدورة في سواد العين مائلة فيكون منها العمى لإيلام الطبقات ولاسيما القرنية وانصباب الفضول الردية إليها . قال مقاتل : لم يبصر ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف . وقال آخرون : لم يبلغ حد العمى وكان يدرك إدراكاً ضعيفاً ، أو المراد بالبياض غلبة البكاء كأن العين ابيضت من بياض ذلك الماء . روي أنه لم تجف عين يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف ؟ وجد سبعين ثكلى . قال : فما كان له من الأجر ؟ قال : أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط . ونقل أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف حينما كان في السجن فقال : إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك . فوضع يوسف يده على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني فلم أكن حزناً على أبي ، قال أكثر أهل اللغة : الحزن والحزن لغتان بمعنى . وقال بعضهم : الحزن بالضم فالسكون البكاء ، والحزن بفتحتين ضد الفرح ، وقد روى يونس عن أبي عمرو قال : إذا كان في موضع النصب فتحوا كقوله { تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً } [ التوبة : 92 ] وإذا كان في موضع الجر أو الرفع ضموا كقوله من الحزن . وقوله : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } قال : هو في موضع رفع بالابتداء قيل : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ؟ وأجيب بأن المنهي من الجزع هو الصياح والنياحة وضرب الخد وشق الثوب لا البكاء ونفثة المصدور ، فلقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال : القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون . ومما يدل على أن يعقوب عليه السلام أمسك لسانه عن النياحة وعما لا ينبغي قوله : { فهو كظيم } " فعيل " بمعنى " مفعول " أي مملوء من الغيظ على أولاده من غير إظهار ما يسوءهم ، أو مملوء من الحزن مع سد طريق نفثة المصدور من كظم السقاء إذا شده على ملئه ، أو بمعنى الفاعل أي الممسك لحزنه غير مظهر إياه . والحاصل أنه غرق ثلاثة أعضاء شريفة منه في بحر المحنة : فاللسان كان مشغولاً بذكر { يا أسفا } والعين كانت مستغرقة في البكاء ، والقلب كان مملوءاً من الحزن . ومثل هذا إذا لم يكن بالاختيار لم يدخل تحت التكليف فلا يوجب العقاب . يروى أن ملك الموت دخل على يعقوب فقال له : جئتني لتقبضني قبل أن أرى حبيبي ؟ قال : لا ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك . عن النبي صلى الله عليه وسلم :

" لم تعط أمة من الأمم { إنا لله وإنا إليه راجعون } عند المصيبة إلا أمة محمد ، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وإنما قال يا أسفا " وضعف هذه الرواية فخر الدين الرازي في تفسيره وقال : من المحال أن لا تعرف أمة من الأمم أن الكل من الله وأن الرجوع لا محالة إليه . وأقول : هذا نوع من المكابرة فإن منكري المبدأ والمعاد أكثر من حصباء الوادي ، على أن المراد من الإعطاء الإرشاد إلى هذا الذكر وخصوصاً عند المصيبة وقد أخبر الصادق عليه السلام أن هذا مما خصت هذه الأمة به والله أعلم .

/خ102