البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

{ وتولى عنهم وقال يأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم .

قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين .

قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون .

يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } : وتولى عنهم أي أعرض عنهم كراهة لما جاؤوا به ، وأنه ساء ظنه بهم ، ولم يصدق قولهم ، وجعل يتفجع ويتأسف .

قال الحسن : خصت هذه الأمة بالاسترجاع .

ألا ترى إلى قول يعقوب : يا أسفي ، ونادى الأسف على سبيل المجاز على معنى : هذا زمانك فاحضر .

والظاهر أنه يضاف إلى ياء المتكلم قلبت ألفاً ، كما قالوا : في يا غلامي يا غلاما .

وقيل : هو على الندبة ، وحذف الهاء التي للسكت .

قال الزمخشري : والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعاً غير مستعمل فيملح ويبدع ، ونحوه : اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم ، وهم ينهون عنه وينأون عنه يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، من سبأ بنبإ انتهى .

ويسمى هذا تجنيس التصريف ، وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف .

وذكر يعقوب ما دهاه من أمر بنيامين ، والقائل لن أبرح الأرض فقدانه يوسف ، فتأسف عليه وحده ، ولم يتأسف عليهما ، لأنه هو الذي لا يعلم أحيّ هو أم ميت ؟ بخلاف أخوته .

ولأنه كان أصل الرزايا عنده ، إذ ترتبت عليه ، وكان أحب أولاده إليه ، وكان دائماً يذكره ولا ينساه .

وابيضاض عينيه من توالي العبرة ، فينقلب سواد العين إلى بياض كدر .

والظاهر أنه كان عمي لقوله : فارتد بصيراً .

وقال : { وما يستوي الأعمى والبصير } فقابل البصير بالأعمى .

وقيل : كان يدرك ادراكاً ضعيفاً ، وعلل الابيضاض بالحزن ، وإنما هو من البكاء المتوالي ، وهو ثمرة الحزن ، فعلل بالأصل الذي نشأ منه البكاء وهو الحزن .

وقرأ ابن عباس ومجاهد : من الحزن بفتح الحاء والزاي ، وقتادة : بضمها ، والجمهور : بضم الحاء وإسكان الزاي .

والكظيم إما للمبالغة وهو الظاهر اللائق بحال يعقوب أي : شديد الكظم كما قال : { والكاظمين الغيظ } ولم يشك يعقوب إلى أحد ، وإنما كان يكتمه في نفسه ، ويمسك همه في صدره ، فكان يكظمه أي : يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والضجر .

وإما أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول ، وهو لا ينقاس ، وقاله قوم كما قال في يونس : { إذ نادى وهو مكظوم } قال ابن عطية : وإنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه ، فكأنه كظم حزنه في صدره .

وفسر ناس الكظيم بالمكروب وبالمكمود .

وروي : أنه ما جفت عيناه من فراق يوسف إلى لقائه ثمانين عاماً ، وأنّ وجده عليه وجد سبعين ثكلى ، وأجره أجر مائة شهيد .

وقال الزمخشري : فهو كظيم ، فهو مملوء من الغيظ على أولاده ، ولا يظهر ما يسوؤهم انتهى .

وقد ذكرنا أنّ فعيلاً بمعنى مفعول لا ينقاس ،