قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } . أي فرض وأوجب ، والصوم والصيام في اللغة الإمساك يقال : صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة ، لأن الشمس إذا بلغت كبد السماء ، وقفت وأمسكت عن السير سويعة . ومنه قال تعالى : ( فقولي إني نذرت للرحمن صوماً ) أي صمتاً لأنه إمساك عن الكلام ، وفي الشريعة الصوم : هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع مع النية في وقت مخصوص .
قوله تعالى : { كما كتب على الذين من قبلكم } . من الأنبياء والأمم ، واختلفوا في هذا التشبيه فقال سعيد ابن جبير : كان صوم من قبلنا من العتمة إلى الليلة القابلة كما كان في ابتداء الإسلام . وقال جماعة من أهل العلم : أراد أن صيام رمضان كان واجباً على النصارى كما فرض علينا ، فربما كان يقع في الحر الشديد والبرد الشديد ، وكان يشق عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم ، فاجتمع رأي علماؤهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف ، فجعلوه في الربيع وزادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصار أربعين ، ثم إن ملكا اشتكى فمه فجعل لله عليه إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعاً فبرأ فزاد فيه أسبوعاً ، ثم مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال : أتموه خمسين يوماً .
وقال مجاهد : أصابهم موتان ، فقالوا زيدوا في صيامكم فزادوا فيه عشراً قبل وعشراً بعد ، قال الشعبي : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ، فيقال من شعبان ويقال من رمضان ، وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان فصاموا قبله يوما وبعده يوما ، ثم لم يزل الآخر يستن بالقرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوماً ، فذلك قوله تعالى : ( كما كتب على الذين من قبلكم ) .
قوله تعالى : { لعلكم تتقون } . يعني بالصوم ، لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات ، وقوله : ( لعلكم تتقون ) تحذرون عن الشهوات من الأكل والشرب والجماع .
قوله تعالى : { أياماً معدودات } . قيل : كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجباً ، وصوم يوم عاشوراء فصاموا كذلك من الربيع إلى شهر رمضان سبعة عشر شهراً ، ثم نسخ بصوم رمضان .
قال ابن عباس : أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة والصوم ، ويقال : نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام .
قال محمد بن إسحاق كانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشر ليلة خلت من شهر رمضان على رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة .
حدثنا أبو الحسن الشيرازي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه ، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه .
ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليه الجهاد في سبيل الله ، لتقرير منهجه في الأرض ، وللقوامة به على البشرية ، وللشهادة على الناس . فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة ، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد ؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها ، واحتمال ضغطها وثقلها ، إيثارا لما عند الله من الرضى والمتاع .
وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك ؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات ؛ والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات !
وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان . ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات - بصفة خاصة - بما يظهر للعين من فوائد حسية ، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره على الأرض ، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة . . مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض والتوجيهات ؛ وذلك ارتكانا إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان جملة في كل ما يفرض عليه وما يوجه إليه . ولكن في غير تعليق لحكمة التكليف الإلهي بهذا الذي يكشف عنه العلم البشري . فمجال هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري . أو كل ما يروض به هذا الكون بطبيعة الحال :
( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ، لعلكم تتقون ، أياما معدودات ، فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ؛ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ؛ فمن تطوع خيرا فهو خير له ؛ وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون . شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر . يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) . .
إن الله - سبحانه - يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له ؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع ، حتى تقتنع به وتراض عليه .
ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين ، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة ؛ ثم يقرر لهم - بعد ندائهم ذلك النداء - أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين ، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله :
( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )
وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم . . إنها التقوى . . فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة ، طاعة لله ، وإيثارا لرضاه . والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية ، ولو تلك التي تهجس في البال ، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ، ووزنها في ميزانه . فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم . وهذا الصوم أداة من أدواتها ، وطريق موصل إليها . ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفا وضيئا يتجهون إليه عن طريق الصيام . . ( لعلكم تتقون ) . .
حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة ، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها ، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فرداً فرداً ؛ إذ منها يتكون المجتمع . وفصلت الجملة عن سابقتها للانتقال إلى غرض آخر ، وافتتحت بيأيها الذين آمنوا لما في النداء من إظهار العناية بما سيقال بعده .
والقول في معنى كتب عليكم ودلالته على الوجوب تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية } [ البقرة : 180 ] الآية .
والصيام ويقال الصوم هو في اصطلاح الشرع : اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله .
والصيام اسم منقول من مصدر فعال وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة ، وقياس المصدر الصوم ، وقد ورد المصدران في القرآن ، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلاّ على ترك كل طعام وشراب ، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء ، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء لم يكن صياماً كما قال العرجي :
فإنْ شِئتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِوَاكُمُ *** وإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً ولاَ بَرْدَا
وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقه على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة :
خَيْلٌ صِيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة *** تحْتَ العَجَاج وأُخْرى تَعْلكُ اللُّجُمَا
وأطلق على ترك شرب حمار الوحش الماء ، وقال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجتزائها بالمرعى الرطب :
حتى إِذا سَلَخَا جُمَادى سِتَّة *** جَزْءًا فطَال صيامُه وصِيامُها
والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والشرب بقصد القربة فقد عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره . وقول الفقهاء : إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك ، وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي ، لا يصح ، لأنه مخالف لأقوال أهل اللغة كما في « الأساس » وغيره ، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول عيسى : { فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً } [ مريم : 26 ] فليس إطلاقاً للصوم على ترك الكلام ولكن المراد أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل .
فالتعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني ، أي كتب عليكم جنس الصيام المعروف . وقد كان العرب يعرفون الصوم ، فقد جاء في « الصحيحين » عن عائشة قالت : « كان يومُ عاشُوراءَ يوماً تصومه قريش في الجاهلية » وفي بعض الروايات قولها : « وكان رسول الله يصومه » وعن ابن عباس
« لما هاجر رسول الله إلى المدينة وَجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فقال ما هذا ، فقالوا : هذا يومٌ نجَّى الله فيه موسى ، فنحن نصومه فقال رسول الله : نحن أحق بموسى منكم فصام وأمر بصومه » فمعنى سؤاله هو السؤال عن مقصد اليهود من صومه لا تعرف أصل صومه ، وفي حديث عائشة « فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة وقال رسول الله من شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء لم يصمه » فوجب صوم يوم عاشوراء بالسنة ثم نسخ ذلك بالقرآن فالمأمور به صوم معروف زيدت في كيفيته المعتبرة شرعاً قيودُ تحديد أحواله وأوقاته بقوله تعالى : { فالآن باشروهن } إلى قوله { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } [ البقرة : 187 ] وقوله { شهر رمضان } [ البقرة : 185 ] الآية ، { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدةٌ من أيام أُخر } [ البقرة : 185 ] وبهذا يتبين أن في قوله : { كتب عليكم الصيام } إجمالاً وقع تفصيله في الآيات بعده .
فحصل في صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها ، ولم يكن صيامنا مماثلاً لصيامهم تمام المماثلة . فقوله : { كما كتب على الذين من قبلكم } تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات ، والتشبيهُ يكتفَى فيه ببعض وجوه المشابهة وهو وجه الشبه المراد في القصد ، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالةَ في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة ، ولكن فيهم أغراضاً ثلاثة تضمنها التشبيه :
أحدها الاهتمام بهذه العبادة ، والتنويه بها لأنها شرعَها الله قبلَ الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين ، وشرعها للمسلمين ، وذلك يقتضي اطِّراد صلاحها ووفرة ثوابها . وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم . إن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات كما ورد في الحديث « أنَّ نَاساً من أصحاب رسول الله قالوا يا رسول الله ذهب أهلُ الدُّثُور بالأجُور يُصلُّون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم » الحديث ويحبون التفضيل على أهل الكتاب وقطع تفاخر أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة قال تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة } [ الأنعام : 156 ، 157 ] . فلا شك أنهم يغتبطون أمر الصوم وقد كان صومهم الذي صاموه وهو يوم عاشوراء إنما اقتدَوا فيه باليهود ، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أُنُفٍ ، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهمم من المسلمين إذا ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة قال تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] .
والغرض الثاني أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم ؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب ، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ولمن يستثقله من قريبى العهد بالإسلام ، وقد أكَّد هذا المعنى الضّمني قوله بعده : { أياماً معدودات } .
والغرض الثالث إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة .
ووقع لأبي بكر بن العربي في « العارضة » قوله : « كانَ من قول مالِكٍ في كيفية صيامنا أنه كان مثل صيام مَن قبلنا وذلك معنى قوله : { كما كتب على الذين من قبلكم } ، وفيه بحث سنتعرض له عند تفسير قوله تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } [ البقرة : 187 ] .
فهذه الآية شرعت وجوب صيام رمضان ، لأن فعل { كتب } يدل على الوجوب ، وابتداء نزول سورة البقرة كان في أول الهجرة كما تقدم فيكون صوم عاشوراء تقدم عاماً ثم فُرض رمضان في العام الذي يليه وفي « الصحيح » أن النبي صلى الله عليه وسلم صام تسع رمضانات فلا شك أنه صام أول رمضان في العام الثاني من الهجرة ويكون صوم عاشوراء قد فرض عاماً فقط وهو أول العام الثاني من الهجرة .
والمراد بالذين من قبلكم من كان قبل المسلمين من أهل الشرائع وهم أهل الكتاب أعني اليهود ؛ لأنهم الذين يعرفهم المخاطبون ويعرفون ظاهر شؤونهم وكانوا على اختلاط بهم في المدينة وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم وهو الشهر المسمى عندهم ( تِسْرِي ) يبتدىء الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر وهو يوم كفارة الخطايا ويسمونه ( كَبُّور ) ثم إن أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى وهي الأيام الأُوَل من الأَشْهرِ الرابعِ والخامِس والسابعِ والعاشِر من سنتهم تذكاراً لوقائع بيت المقدس وصوم يوم ( بُورِيمْ ) تذكاراً لنجاتهم من غصب ملك الأعاجم ( أحشويروش ) في واقعة ( استيرَ ) ، وعندهم صوم التطوع ، وفي الحديث : « أحب الصيام إلى الله صيامُ داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً » ، أَما النصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم اليهود وفي « صحيح مسلم » عن ابن عباس : « قالوا يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى » ، ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين يوماً اقتداء بالمسيح ؛ إذ صام أربعين يوماً قبل بعثته ، ويُشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها ، إلاّ أنهم يتوسعون في صفة الصوم ، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات ، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة .
وقوله : { لعلكم تتقون } بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع ، فهو في قوة المفعول لأجله لكُتب . و ( لَعَل ) إما مستعارة لمعنى كي استعارة تبعية ، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله ؛ في إرادته من تشريع الصوم التقوى بحال المترجي من غيره فعلاً ما ، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي ، وإنما كان الصيام موجباً لاتقاء المعاصي ، لأن المعاصي قسمان ، قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصْب فتركُه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير ، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر ، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها ، لأنه يُعَدِّل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي ، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أَوج العالَم الرُّوحاني ، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية .
وفي الحديث الصحيح « الصَّوْمُ جُنَّة » أي وقاية ولما تُرك ذكر متعلَّق جُنَّة تعيَّن حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة ، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة ، ووقاية من العِلل والأدْواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات .