تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

الآية 183 وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) هؤلاء الآيات فيهن فرضية بقوله : ( كتب ) ، وأيد ذلك الإبدال فيها الإفطار بعذر والأمر{[2094]} بالقضاء ، وذلك ليس بشرط الآداب مع الامتنان علينا بقوله : ( يريد الله بكم اليسر ) [ البقرة : 185 ] أي يريد بكم الإذن لكم في الفطر للعذر ، ولو كان غير فرض بدؤه لم يكن الفطر للعذر بموضع الرخصة مع شرطه إكمال العدة في القضاء معنى . وفي ذلك لزوم حفظ المتروك لئلا يدخل التقصير في القضاء ، وعلى ذلك إجماع الأمة .

ثم بين عز وجل أنه{[2095]} لم تكن هذه الأمة بمخصوصة في الصيام ، بل [ هي ]{[2096]} أحق من فيهم استعمل العفو والصفح{[2097]} بما خصهم بأن جعلهم ( شهداء على الناس ) [ آل عمران : 110 ] ، وأخبر أنه لم يجعل عليهم ( في الدين من حرج ) [ الحج : 78 ] ، ولا ألزمهم العبادات الشاقة ( فضلا ) [ الأحزاب : 47 و . . . ] منه عليهم وتخصيصا لهم إذ جعلهم ( شهداء على الناس ) [ البقرة : 143 ] ، فقال عز وجل ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) لكن يحتمل وجهين : يحتمل العذر الذي كتب عليهم ، ويحتمل الفرضية في الجملة لا عين ما فرض عليهم من حيث الإشارة إلى ذلك ؛ ولذلك اختلف في الكاف في قوله ( كما ) أنها زائدة وحقيقة . ثم اختلف في ماهية{[2098]} ذلك الصيام .

فمن الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، من جعله صوم عاشوراء ، وأيام البيض ، ثم استعملوا نسخ ذلك بصيام الشهر ؛ [ وقد روي مرفوعا " أن صوم شهر رمضان نسخ كل صيام كان " ]{[2099]} [ الدارقطني : 4702 ] ، وروي{[2100]} عن جماعة في أمر صوم عاشوراء : أنا كنا نصومه حتى نزل صوم الشهر ، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا به ، ولا ينهانا .

وأصل هذا أنه كان يصام ، لو كان ابتداء الآية عليه بحق الفرض ، فأبدل ذلك بصوم الشهر ، فارتفع عنه الفرضية على ما إذا كان يخرج منه بالفداء [ لم يكن معه فرضية{[2101]} القضاء ، وبقي الفضل فيه ؛ إذ النسخ ]{[2102]} لم يكن من حيث نفس الصوم ، إذ مثله من النسخ يكون بغير الصوم ، ولا يصوم . فثبت أنه في نسخ الفرضية{[2103]} ، فبقي فيه حق الأدب والفضل ، وتبين النسخ بالصوم {[2104]} إذ [ هو ]{[2105]} مثله ، وأن ذلك غير صوم الشهر [ المذكور في صوم الشهر ]{[2106]} بقوله : ( فمن كان منكم مريضا ) الآية ، ولو كان الكل واحدا لكان الذكر في موضع منه كافيا عن الإعادة ، فثبت أنه على تناسخ الصيام . وقد روى معاذ رضي الله عنه [ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[2107]} أنه قال : " أحيل الصيام ثلاثة أحوال " [ أحمد : 5/246 ] ، وبين{[2108]} الخبر على وجهه في ذلك . ويحتمل أن يكون المراد منه صوم الشهر ، ويكون تكرار الذكر في الرخصة لمكان رفع الفداء أو لمكان ذكر حق الامتنان بالتيسير أو التحريض على حفظ العدد ، والله الموفق .

وأي ذلك كان ، فليس بنا حاجة إلى معرفة حقيقة ذلك ؛ لأن كيفية الابتداء لم نكلف ، وإنما كلفنا ما أبقى فرضه ، وهو صيام الشهر الذي لم يختلف في ذلك .

ثم قد خاطب ، جل ثناؤه ، بالصيام من قد آمن بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا ) فكان فيما خاطب وجهان :

أحدهما : أنه خاطب المؤمنين{[2109]} ، فعرف المخاطبون أن الاسم يأخذهم ؛ إذ لم يذكر عن أحد أنه ظن وخروجه من حكم من حيث لم يكن وفاء بما به يستحق الاسم ، وكذلك سائر [ أفعال العبادات ]{[2110]} . وهذا من أوضح ما يجب به العلم أن الإيمان ليس باسم لجميع القرب ، بل تحقيقه يصير أفعال القرب قربا . وفيه : إذ لم يقل ( يا أيها الذين ) ، قلتم : نحن مؤمنون به صلى الله عليه وسلم دلالة ظاهرة على هجر هذا القول ، وأنه من تلقين الشيطان ليبطل عليهم عقدهم كما يبطل كل عقد يستعمله فيه صاحبه مما أراد إلزامه العقد ، والله أعلم .

والثاني : أن الله تعالى خص بالعبادات المؤمنين ، وأنهن ، لا يلزمن غيرهم ، فيها الاعتقاد لا الأفعال التي هي تقوم بالاعتقاد . وليس الاعتقاد بواجب لمكان تلك الأفعال حتى تكون كالأسباب التي توجب بإيجاب أفعال بها تقوم ، بل له أوجب غيره . ألا ترى أنه لا يجوز أن يرتفع ذلك عن الخلائق بحال من الأحوال في الدنيا والآخرة مع ارتفاع غير ذلك من العبادات ؟ ثبت أن الأمر بذلك بحيث نفسه لا لغيره ، ثم لا قيام لغيره مع عدمه ؛ ثبت أن المعنى الذي به يصير المرء أهلا لاحتمال فعل العبادات . لذلك لا يجوز الأمر بشيء منها دون ذلك . وله وجهان يحتملان{[2111]} الأمر أيضا :

أحدهما : العقل ؛ أنه من البعيد أن يكون من لم [ يقر بالعبودة ]{[2112]} ، ولا أقر بالرسالة ، يؤمر بالعبادة وباتباع الرسول بحق الرسالة ، بل يقول : ألزمونا الأول حتى يكون الثاني ؛ وهو كما حال الناس المناظرة في الرسل مع منكري الصانع والمرسل ، فمثله الأول ، بل تجب كل قربة به ، إذ لا يكون إلا به ، والله أعلم .

والثاني : القول : بأن من أسلم بعد أوقات العبادات لا يلزمه القضاء ، ثم لذلك وجهان من المعتبر :

أحدهما : أنهم{[2113]} إذا لم يدخلوا في خطاب القضاء بما ليس معهم في الحال ما يحتمل معه القضاء ، فكذلك خطاب الابتداء ؛ إذ هو الذي به لزم القضاء في الإسلام ، والله أعلم .

والثاني : أنه لا يلزم القضاء بعد الإسلام ، ولا يجوز الابتداء في حاله ، فكان ذا تكليفا{[2114]} ، لم يجعل الله للمكلف وجه القيام ، وقد تبرأ الله من هذا الوجه من التكليف /27-ب/ بقوله عز وجل : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [ البقرة : 286 ] مع ما بين الله تعالى بقوله : ( فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار ) [ البقرة : 126 ] أن ما للكافر [ التمتع في الدنيا لا العبادات ]{[2115]} في ذلك ، والله الموفق .

فثبت بالآية التي ذكرنا دخول جميع المؤمنين في الخطاب ؛ إذ بين الرخصة للذي{[2116]} له العدو في الإفطار على وجوب القضاء ، فإذن يحتمل خروج من له العذر في الفطر عن أن يتضمنه الخطاب وجه ألزم القضاء . ثبت أن من لا عذر له داخل فيه ، ولا يسعه الفطر . وعلى هذا جاء ممن ابتلي بالجماع نهارا أنه صلى الله عليه وسلم أكد عليه الأمر ، وألزمه الكفارة على غير سؤال عن أحوال سوى ما علم من حاله أنه ليس بمريض أو مسافر{[2117]} ، فكان في ذلك دليل تأكيد الفرض ، وفي ذلك إيجاب الكفارة ليعديه على الصيام -على حال لا يحتمل الإرخاص{[2118]} ، إذ كانت{[2119]} تلك الليلة في الليالي ، فلم يؤمروا{[2120]} بها من حيث كانوا يملكون إبقاء الرخصة لأنفسهم ، لولا النوم ، وفي ذلك أن فرض الصيام يعم المؤمنين .

ثم قال الله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) والشهر اسم للكل ، ولو كان المراد [ راجعا إليه ]{[2121]} لكان الصيام{[2122]} في غيره لأنه عند هجوم غيره يتم شهوده ، ثم يتناقض{[2123]} لأنه قال : ( فليصمه ) ، ومحال أن يصوم في غيره ابتداء ، فرجع التأويل إلى أن من ( شهد منكم ) شيئا من شهر ( فليصمه ) ؛ فمن اعترض الجنون فيه فهو ممن قد تضمنه الخطاب ، ويجوز في حالة الفرض أيضا ، إذ لو شهد ليلة الصيام ، فعزم على الصيام ، يجوز له [ فرضه ، فدخل ]{[2124]} في حق الخطاب ، ثم اعترضه في سائر الليالي عذر منه النية لا عذر منع الصيام ، فيقتضيه ، إذ هو أصل{[2125]} الحكم : الآية التي ذكرنا والقيام{[2126]} بذلك الفرض على ما وصفنا ، ففاته بفوت النية كمن كان فوت لعذر{[2127]} المرض والسفر والحيض ونحو ذلك بعد أن علم أنه ممن تضمنه الآية ، فعليه قضاؤه .

وعلى ذلك في الصبي والكافر ، لم يدخلا في معنى الآية ، ولا كانا يحتملان في حال قضاء فرض الصيام ، فالقضاء في غيره عن ذلك لا يعمل في حق الفرض ، لذلك لم يلزم . وقد روي عن محمد-رحمه الله- على هذا أن من أدرك مجنونا ، ثم أفاق في بعض الشهر ، إنه لا يقضي ما مضى على ما ذكرت . وعن أبي حنيفة رضي الله عنه [ في هذا أنه يقضي ]{[2128]} إن كان في أول الشهر بالغا لما أخبرت أن صيامه لم{[2129]} يجز لعدم النية ، والكافر بنفسه ، ومن فوته لعدم النية فهو داخل في حكم فرضه ، فعليه القضاء ، والله الموفق .

ومن جن الشهر كله لا يقضي بشرط الشهود ، وهو لم يشهد شيئا منه مع إمكان الإسقاط بدليل آخر ، وإن كان حق الخطاب قد اقتضاه على مثل المريض الذي لا يصح والمسافر الذي لا يقيم ، والله الموفق .

وفي قوله : ( أياما معدودة ) دلالة أن ابتداء في الآية في غير صوم الشهر ، إذ صوم الشهر يحفظ بالأهلة لا بالأيام ، لكن الله تعالى إذ علم الأمر الظاهر في الخلق أنهم يعدونه بالأيام ، وإن كان لهم عن ذلك غنى . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الشهر هكذا وهكذا وهكذا بأصابع يديه كلتيهما ، وعقد إصبعا منها في آخر المرات " [ مسلم : 1080 ] ، وجاء عن غير واحد أنهم قالوا : ( ما كنا نصوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة وعشرين أكثر مما نصوم ثلاثين ) فجائز ذكر قوله : ( أياما معدودة ) يعني يعدها{[2130]} الخلق ، والله الموفق .

وقوله : ( لعلكم تتقون ) ما حرم عليكم من أنواع اللذات بكف الأنفس عن الذي يدعو بها إلى الأغذية ، أو ( تتقون ) نقمة الله في الآخرة ومخالفته في الفعل في الدنيا ، وقد جعل الله ، جل ثناؤه ، عباداته أعوانا للمعتادين بها على الكف عن المعاصي والخلاف لله في الشهوات ، فقال : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) [ البقرة : 45 ] ، وقال : ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) [ العنكبوت : 45 ] ، وغير ذلك ، والله الموفق .

والأصل أن العبادة تذكر أصحابها عظم أحوالهم في أوقات فيها من المقام يدي الجبار ، وتطلعهم على الموعود لهم في المعاد ، وهما أمران عظيمان :

أحدهما : في الزجر بما يعلم من عظم المقام واطلاع الواحد القهار عليه .

والثاني : في الترغيب بما يشعر قلبه من لذيذ الموعود ما يضمحل لديه كل لذة دونه ، وتنقطع شهواته التي بينه وبين ما وعد ، والله أعلم .


[2094]:- من ط ع، في الأصل: وإلا، في م: والأمن.
[2095]:- من م، في الأصل و ط ع: أن.
[2096]:- من ط ع.
[2097]:- في و ط ع: أو لصفح.
[2098]:- في م والأصل: مائية، في ط ع: م يأتيه
[2099]:- من م و ط ع، ساقطة من الأصل.
[2100]:- من ط ع و م، في الأصل: وقد روي.
[2101]:- من م، في الأصل: فريضة.
[2102]:- من الأصل و م، ساقطة من ط ع.
[2103]:من م و ط ع، في الأصل: فريضة.
[2104]:- في النسخ الثلاث: الصوم.
[2105]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[2106]:-في ط ع و م: الذكر في صوم الشهر، ساقطة من الأصل.
[2107]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[2108]:- سيدرج هذا الحديث عن أنس في تفسير الآية 185 ص 136.
[2109]:- في النسخ الثلاث: من المؤمنين.
[2110]:- في النسخ الثلاث: عبادات الأفعال.
[2111]:- في النسخ الثلاث: يحيلان.
[2112]:- في النسخ الثلاث: يقل العبودة
[2113]:- في ط ع: بأنهم
[2114]:- في النسخ الثلاث: تكليف.
[2115]:- من م، في الأصل: التمتع في الدنيا للعبادات، في ط ع: للتمتع في الدنيا لا للعبادات.
[2116]:- في النسخ الثلاث: الذي.
[2117]:-في ط ع: مسافرا
[2118]:- في ط ع: الأوخاص.
[2119]:- في النسخ الثلاث: كان.
[2120]:-في النسخ الثلاث: يأمروا.
[2121]:-في م: إليه راجعا.
[2122]:- في الأصل: القيام.
[2123]:-في النسخ الثلاث: يتناقض.
[2124]:- في ط ع: فرصة تدخل.
[2125]:-في النسخ الثلاث: أهل.
[2126]:- من ط ع، في الأصل و م: وللقيام.
[2127]:- في الأصل: للعذر.
[2128]:- من م، في الأصل: هذا أنه يقضي، ساقطة من ط ع.
[2129]:- ساقطة من ط ع.
[2130]:- ساقطة من ط ع.