محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون 183 } .

{ يا أيها الذين آمنوا كتب } أي : فرض { عليكم الصيام } وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .

واعلم أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة لهم ، وإحسانا إليهم ، وحميّة وجُنّة . . ! فإن المقصود من الصيام : حبس النفس عن الشهوات ، وفطمها عن المألوفات ، وتعديل قوتها الشهوانية ، لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها ، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتهم الأبدية . . ! ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها ، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين . . ! وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب ، وحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحها ، وتلجم بلجامه ، فهو لجام المتقين ، وجنة المجاهدين ، ورياضة الأبرار والمقربين . . ! وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال ، فإن الصائم لا يفعل شيئا ، إنما ترك شهوته وطعامه / وشرابه من أجل معبوده . فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته . وهو سر بين العبد وربه ، ولا يطلع عليه سواه . . !

والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة ، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده ، فهو أمر لا يطلع عليه بشر . وذلك حقيقة الصوم . . ! وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة . وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة ، التي إذا استولت عليها أفسدتها . واستفراغ المواد الردية المانعة له من صحتها . فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها . ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات . فهو من أكبر العون على التقوى ، كما قال تعالى في تتمة الآية : { لعلكم تتقون } ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم{[993]} : ( الصوم جُنّة ) . وأمر{[994]} من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه ، بالصيام . وجعله وجاء هذه الشهوة . وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكمل الهدي ، وأعظم / تحصيلا للمقصود ، وأسهله على النفوس . . ! ولما كان فطم النفس عن مألوفاتها وشهواتها من أشقّ الأمور وأصعبها ، تأخّر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة . لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة . وألفت أوامر القرآن . فنقلت إليه بالتدريج . وكان فرضه السنة الثانية من الهجرة . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعة رمضانات ، وفرض أوّلا على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كل يوم مسكينا . ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم ، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيق الصيام فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينا كما سيأتي بيانه وكان للصوم رتب ثلاثة : أحدها : إيجابه بوصف التخيير . والثانية : تحتمه ، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرّم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة ، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة : وهي التي استقرّ عليها الشرع إلى يوم القيامة . . كذا أفاده ابن القيم في ( زاد المعاد ) .

وقوله تعالى : { كما كتب على الذين من قبلكم } تأكيد للحكم ، وترغيب فيه ، وتطييب لأنفس المخاطبين به ؛ فإن الشاقّ إذا عمّ سهل عمله ! والمماثلة إنما هي في أصل الوجوب لا في الوقت والمقدار ، وفيه دليل على أن الصوم عبادة قديمة .

وفي التوراة ، سفر عَزْرا ، الأصحاح الثاني ، ص 750 :

( 21 ) ( وناديت هناك بصوم على نهر أَهْوَا لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب منه طريقا مستقيمة لنا ولأطفالنا ولكل مالنا ) .

وفي سفر إِشَعْيَاءَ ، الأصحاح الثامن والخمسون ص 1062 :

( 3 ) ( يقولون لماذا صمنا ولم ننظر . ذللنا أنفسنا ولم نلاحظ . ها إنكم في يوم صومكم توجدون مسرَّةً وبكل أشغالكم تُسَخِّرُون ) . ( 4 ) ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولِتَضْربوا بِلَكْمَةٍ الشر . لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء . ( 5 ) أمثل هذا يكون صوم اختارُهُ . يوما يذَلّل الإنسان فيه نفسه يُحنى كالأَسَلَةِ رأسه ويفرُش تحته مِسْحاً ورماداً . هل تسمي هذا صوما ويوما مقبولا للرب ؟ . . . إلخ .

/ وفي سفر يوئيل ، الأصحاح الأول ، ص 1299 :

( 14 ) قدّسوا صوما .

وفي الأصحاح الثاني ، ص 1300 :

( 12 ) ولكن الآن يقول الرب : ارجعوا إليّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح ( 13 ) ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة . . ( 15 ) . . قدّسوا صوما نادوا باعتكاف ( 16 ) اجمعوا الشعب قدّسوا الجماعة .

وفي سفر زكريا ، الأصحاح الثامن ، ص 1347 :

( 19 ) هكذا قال رب الجنود . إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجا وفرحا وأعيادا طيبة . فأحبوا الحق والسلام .

وفي ( إنجيل متّى ) ، الأصحاح السادس ص 11 :

( 17 ) وأما أنت صمت فادهُنْ رأسك واغسل وجهك ( 18 ) لكي لا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفاء . فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية .

الأصحاح السابع عشر ص 32 :

لما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام فتى وأخرج منه الشيطان قال لأصحابه ( 21 ) وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم .

وفي الأصحاح الرابع ص 6 :

( 2 ) فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا ( أي المسيح عليه السلام ) .

وفي رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنْثُوس ، الأصحاح السادس ص 295 :

( 4 ) بل في كل شيء نُظهر أنفسنا كخُدَّام الله في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضَيقات ( 5 ) في ضَرَبات في سجون في اضطرابات في أتعاب في أسهار في أصوام .

/ وفي الأصحاح الحادي عشر ص 301 :

( 27 ) في تعب وكدّ . في أسهار مرارا كثيرة . في جوع وعطش . في أصوام مرارا كثيرة . في برد وعُرى .

هذا ، ومتى أطلق على الصوم في كل شريعة ، فلا يُقصد به إلا الامتناع عن الأكل كل النهار إلى المساء ، لا مجرد إبدال طعام بطعام .

وقوله تعالى : { لعلكم تتقون } أي : تجعلون بينكم وبين سخطه تعالى وقاية بالمسارعة إليه ، والمواظبة عليه ، رجاء لرضاه تعالى ؛ فإن الصوم يكسر الشهوة ، فيقمع الهوى ، فيردع عن مواقعة السوء .


[993]:أخرجه البخاري في: 30 ـ كتاب الصوم، 2 ـ باب فضل الصوم، حديث 961 ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: (الصيام جُنة. فلا يرفث ولا يجهل. وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم (مرتين) والذي نفسي بيده! لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها).
[994]:أخرجه البخاري في: 67 ـ كتاب النكاح، 3 ـ باب من لم يستطع الباءة فليصم، حديث 967 ونصه: قال عبد الله (بن مسعود): (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشاب! من استطاع الباءة فليتزوج. فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).