" الصِّيَام " : مفعولٌ لم يسمَّ فاعله ، وقدَّم عليه هذه الفضلة ، وإن كان الأصل تأخيرها عنه ؛ لأن البداءة بذكر المكتوب عليه آكد من ذكر المكتوب لتعلُّق الكتب بمن يؤدي ، والصِّيام مصدر صام يصوم صوماً ، والأصل : " صِوَاماً " ، فأبدلت الواو ياء ، والصَّوم مصدر أيضاً ، وهذان البناءان - أعني : فعل وفعال - كثيران في كلِّ فعل واويِّ العين صحيح اللام ، وقد جاء منه شيءٌ قليلٌ على فعولٌ ؛ قالوا : " غَارَ غُوُوراً " ، وإنما استكرهوه ؛ لاجتماع الواوين ، ولذلك همزه بعضهم ، فقال : " الغُئُور " .
قال أبو العباس المقرئ : وقد ورد في القرآن " كَتَبَ " بإزاء أربعة معانٍ :
الأول : بمعنى فرض ؛ قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } ، أي : فُرِضَ .
الثاني : بمعنى قضى ؛ قال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي }
[ المجادلة : 21 ] ، ومثله : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] .
الثالثُ : بمعنى جَعَل ؛ قال تعالى : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 21 ] ، أي : جعَلَ لكم ، ومثله : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] أي : جعل .
الرابع : بمعنى أمر ؛ قال تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [ المائدة : 45 ] ، أي : أمرناهم .
والصيام لغةً : الإمساك عن الشيء مطلقاً ، ومنه صامت الرَِّيح : أمسكت عن الهبوب ، والفرس : أمسكت عن العدو ؛ قال : [ البسيط ]
928 - وخَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ *** تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا{[2523]}
وقال تعالى :{ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } [ مريم : 26 ] ، أي : سكوتاً ؛ لقوله : { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } [ مريم : 26 ] وصام النهار ، اشتدَّ حرُّه ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
929 - فَدَعْهَا وَسَلِّ الهَمَّ عَنْهَا بِجَسْرَةٍ *** ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا{[2524]}
930 - حَتَّى إذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ *** وَمَالَ لِلشِّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ{[2525]}
كأنهم توهَّموا ذلك الوقت إمساك الشمس عن المسير ، ومصام النُّجوم : إمساكها عن السَّير{[2526]} ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
931 - كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في مَصَامِهَا *** بَأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ{[2527]}
ويقال : بَكْرَةٌ صائمةٌ ، إذا قامت فلم تدر .
932 - وَالبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ{[2528]} *** . . .
وفي الشَّريعة : هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات ؛ حال العلم بكونه صائماً ، [ مع اقترانه بالنِّيَّة ] .
قوله : " كَمَا كُتِبَ " فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن محلّها النصب على نعت مصدر محذوف ، أي : كتب كتباً ؛ مثل ما كتب .
الثاني : أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة ، أي : كتب عليكم الصِّيام الكَتْبَ مشبهاً ما كتب ، و " ما " على هذين الوجهين مصدريةٌ .
الثالث : أن يكون نعتاً لمصدر من لفظ الصيام ، أي : صوماً مثل ما كتب ، ف " ما " على هذا الوجه بمعنى " الذي " ، أي : صوماً مماثلاً للصوم المكتوب على من قبلكم ، و " صوماً " هنا مصدر مؤكِّد في المعنى ؛ لأن الصِّيام بمعنى : " أنْ تَصُوموا صَوْماً " قاله أبو البقاء{[2529]} - رحمه الله - ، وفيه أن المصدر المؤكِّد يوصف ، وقد تقدَّم منعه عند قوله تعالى : { بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } قال أبو حيَّان{[2530]} - بعد أن حكى هذا عن ابن عطية - : وهذا فيه بعدٌ ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالكتابة لا يصحُّ ، [ هذا إن كانت " ما " مصدريَّةً ، وأمَّا إن كانت موصولةً ، ففيه أيضاً بعدٌ ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالصَّوم لا يصحُّ{[2531]} ] ، إلا على تأويلٍ بعيدٍ .
الرابع : أن يكون في محل نصب على الحال من " الصِّيام " وتكون " ما " موصولةً ، أي : مشبهاً الذي كتب ، والعامل فيها " كُتِبَ " ؛ لأنَّه عاملٌ في صاحبها .
الخامس : أن يكون في محلِّ رفع ؛ لأنه صفة للصيام ، وهذا مردودٌ بأن الجارَّ والمجرور من قبيل النَّكرات ، والصِّيام معرفةٌ ؛ فكيف توصف المعرفة بالنكَّرة ؟ وأجاب أبو البقاء{[2532]} عن ذلك ؛ بأن الصَّيام غير معين ؛ كأنَّه يعني أن " ألْ " فيه للجنس ، والمعرَّف بأل الجنسيَّة عندهم قريبٌ من النَّكرة ؛ ولذلك جاز أن يعتبر لفظه مرَّةً ، ومعناه أخرى ؛ قالوا " أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِرْهَمُ البِيضُ " ، ومنه :
933 - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي *** فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ : لاَ يَعْنِينِي{[2533]}
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } [ يس : 37 ] وقد تقدّم الكلام على مثل قوله : { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] كيف وصل الموصول بهذا ؛ والجواب عنه في قوله : { خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }
فصل في المراد بالتشبيه في الآية
أحدهما : أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم ، يعني : هذه العبادة كانت مكتوبةً على الأنبياء والأمم من ولد آدم - عليه الصلاة والسلام - إلى عهدكم لم تخل أمَّةٌ من وجوبها عليهم .
وفائدة هذا الكلام : أنَّ الشَّيء الشاقَّ إذا عمَّ ، سهل عمله .
القول الثاني : أنه عائد إلى وقت الصَّوم ، وإلى قدره ، وذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : قال سعيد بن جبير " كَانَ صَومُ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ العَتَمَةِ إلى اللَّيْلة القَابِلَة ؛ كما كان في ابتداءِ الإسْلاَمِ{[2534]} " .
ثانيها : أن صوم رمضان كان واجباً على اليهود والنصارى ، أما اليهود فإنها تركته وصامت يوماً في السَّنة ، زعموا أنه يوم أن غرق فيه فرعون ، وكذبوا ي ذلك أيضاً ؛ لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وأما النصارى ، فإنهم صاموا رمضان زماناً طويلاً ، فصادفوا فيه الحرَّ الشديد ، فكان يشقُّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم ، فاجتمع رأي علمائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السَّنة بين الشِّتاء والصِّيف ، فجعلوه في الرَّبيع ، وحوَّلوه إلى وقتٍ لا يتغيَّر ، ثم قالوا عند التَّحويل : زيدوا فيه عشرة أيَّام كفَّارةً لما صنعوا ؛ فصار أربعين يوماً ، ثم إنَّ ملكاً منهم اشتكى ، فجعل لله عليه ، إن برىء من وجعه : أن يزيد في صومهم أسبوعاً ، فبرىء ، فزادوه ، ثمَّ جاء بعد ذلك ملكٌ آخر ؛ فقال : ما هذه الثلاثة ، فأتَمَّهُ خمسين يوماً ، وهذا معنى قوله : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ }{[2535]} [ التوبة : 31 ] . قاله الحسن .
وثالثها : قال مجاهدٌ : أصابهم موتان ، فقالوا : زيدوا في صيامكم ، فزاداو عشراً قبل وعشراً بعد{[2536]} .
ورابعها : قال الشعبي : إنهم{[2537]} أخذوا بالوثيقة ، وصاموا قبل الثلاثين يوماً ، وبعدها يوماً ، ثم لم يزل الأخير يستسن بالقرن الذي قبله ، حتى صاروا إلى خمسين يوماً ، ولهذا كُرِّه صوم يوم الشَّكِّ{[2538]} .
قال الشعبي : لو صمت السَّنة كلَّها ، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ، فيقال : من شعبان ، ويقال : من رمضان{[2539]} .
وخامسها : أن وجه التَّشبيه أن يحرم الطَّعام والشَّراب والجماع بعد اليوم ؛ كما كان قبل ذلك حراماً على سائر الأمم ؛ لقوله تعالى :
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } [ البقرة : 187 ] . فإن هذا يفيد نسخ هذا الحكم ، ولا دليل يدلُّ عليه إلاَّ هذا التَّشبيه ، وهو قوله : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } ؛ فَوَجبَ أن يكُون هذا التَّشبيه دالاًّ على ثبوت هذا المعنى .
قال أصحاب القول الأول : إن تشبيه شيء بشيء لا يدلُّ على مشابهتهما من كلِّ الوجوه ، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم : أن يكون صومهم مختصّاً برمضان ، وأن يكون صومهم مقدَّراً بثلاثين يوماً ، ثم إنَّ مثل هذه الرِّواية مما ينفِّر من قبول الإسلام ، إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك .
وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يعني : بالصَّوم ؛ لأنَّ الصَّوم وصلةٌ إلى التَّقوى ؛ لما فيه من قهر النَّفسِ ، وكسر الشَّهوات ، وقيل : لعلَّكم تحذرون عن الشَّهوات من الأكل ، والشُّرب ، والجماع ، وقيل : " لعلَّكم تتَّقون " إهمالها ، وترك المحافظة عليها ، بسبب عظم درجتها ، وقيل : لعلَّكم تكونون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين ، لأن الصوم شعارهم .