قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } : " الصيامُ " مفعولُ لم يُسَمَّ فاعلُه ، وقُدِّم عليه هذه الفَضْلَةُ وإنْ كان الأصلُ تأخيرها عنه لأنَّ البداءة بذكرِ المكتوبِ عليه آكدُ مِنْ ذِكْر المكتوبِ لتعلُّق الكتب بِمَنْ يؤدِّي .
والصيام : مصدرُ صام يصوم صوماً ، والأصلُ : صِواماً ، فَأُبْدِلَتْ الواوُ ياءٌ والصومُ مصدرٌ أيضاً ، وهذان البناءانِ - أعني فَعْل وفِعال - كثيران في كلِّ فعلٍ واويِّ العينِ صحيحِ اللامِ ، وقد جاء منه شيءٌ قليل على فُعول قالوا : غار غُووراً ، وإنما استكرهوه لاجتماعِ الواوَيْنِ/ ، ولذلك هَمَزه بعضُهم فقال : الغُؤُور . والصيام لغةً الإِمساكُ عن الشيء مطلقاً ، ومنه : صامَتِ الريحُ : أمسكَتْ عن الهبوبِ ، والفرسُ : أَمْسَكَتْ عن العَدْوِ ، [ وقال ] :
خيلٌ صِيامُ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ *** تحتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجُما
وقال تعالى : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً } [ مريم : 26 ] أي : سكوتاً لقوله : { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } . وصامَ النهارُ أي : اشتدَّ حَرَّه ، قال :
836 - حتى إذا صامَ النهارُ واعتَدَلْ *** ومالَ للشمسِ لُعابٌ فَنَزَلْ
كأنهم تَوَهَّموا ذلك الوقتَ إمساكَ الشمسِ عن المَسِيرِ . ومَصَامُ النجومِ : إمساكُها عن السيرِ ، قال امرؤ القيس :
كأنَّ الثُّرِيَّا عُلِّقَتْ في مَصامِها *** بأمراسِ كُتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ
قوله : { كَمَا كُتِبَ } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّ محلَّها النصْب على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : كُتِبَ كَتْباً مثلَ ما كُتِبَ . الثاني : أنه في محلِّ حالٍ من المصدرِ المعرفةِ أي : كُتِبَ عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبِهاً ما كُتِبَ . و " ما " على هذين الوجهينِ مصدريةٌ . الثالث : أن يكون نعتاً لمصدرٍ من لفظِ الصيام ، أي : صوماً مثلَ ما كُتِبَ . ف " ما " على هذا الوجه بمعنى الذي ، أي : صوماً مماثلاً للصومِ المكتوبِ على مَنْ قبلكم . و " صوماً " هنا مصدر مؤكِّد في المعنى ، لأنَّ الصيامَ بمعنى : أنْ تصُومُوا صوماً ، قاله أبو البقاء ، وفيه أنَّ المصدرَ المؤكِّد يُوصَفُ ، وقد تقدَّم مَنْعُه عندَ قولِهِ تعالى { بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 180 ] . وقال الشيخ - بعد أَنْ حكى هذا عن ابن عطية - " وهذا فيه بُعْدٌ ؛ لأنَّ تشبيهَ الصوم بالكتابةِ لا يصحُّ ، هذا إن كانت " ما " مصدريةً ، وأمّا إن كانت موصولةً ففيه أيضاً بُعْدٌ ؛ لأنَّ تشبيه الصومِ بالصومِ لا يَصِحُّ إلاَّ على تأويلٍ بعيدٍ " .
الرابع : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " الصيام " ، وتكونُ " ما " موصولةً ، أي : مُشْبهاً الذي كُتِبَ . والعاملُ فيها " كُتِبَ " لأنه عاملٌ في صاحبِها . الخامس : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنَّه صفةٌ للصيامِ ، وهذا مردودٌ بأنَّ الجارَّ والمجرورَ من قبيلَ النكرات والصيامُ معرفةٌ ، فكيف تُوصَفُ المعرفةُ بالنكرةِ ؟ وأجابَ أبو البقاء عن ذلك " بأنَّ الصيامَ غيرُ مُعَيَّنٍ " كأنه يعني أنَّ " أل " فيه للجنسِ والمعرَّفُ بأل الجنسيةِ عندهم قريبٌ من النكرةِ ، ولذلك جازَ أن تَعْتَبِرَ لفظة مرةً ومعناه أخرى ، قالوا : " أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِرْهَمُ البيض " ومنه :
838 - ولقد أَمُرُّ على اللئيمَ يَسُبُّنِي *** فَمَضَيْتُ ثمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني
[ وقولُه تعالى : ] { وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } [ يس : 37 ] وقد تقدَّم الكلامُ على مثلِ قولِه : { الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } كيف وُصِلَ الموصول بهذا ، والجوابُ عنه في قولِه : { خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.