الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } : " الصيامُ " مفعولُ لم يُسَمَّ فاعلُه ، وقُدِّم عليه هذه الفَضْلَةُ وإنْ كان الأصلُ تأخيرها عنه لأنَّ البداءة بذكرِ المكتوبِ عليه آكدُ مِنْ ذِكْر المكتوبِ لتعلُّق الكتب بِمَنْ يؤدِّي .

والصيام : مصدرُ صام يصوم صوماً ، والأصلُ : صِواماً ، فَأُبْدِلَتْ الواوُ ياءٌ والصومُ مصدرٌ أيضاً ، وهذان البناءانِ - أعني فَعْل وفِعال - كثيران في كلِّ فعلٍ واويِّ العينِ صحيحِ اللامِ ، وقد جاء منه شيءٌ قليل على فُعول قالوا : غار غُووراً ، وإنما استكرهوه لاجتماعِ الواوَيْنِ/ ، ولذلك هَمَزه بعضُهم فقال : الغُؤُور . والصيام لغةً الإِمساكُ عن الشيء مطلقاً ، ومنه : صامَتِ الريحُ : أمسكَتْ عن الهبوبِ ، والفرسُ : أَمْسَكَتْ عن العَدْوِ ، [ وقال ] :

خيلٌ صِيامُ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ *** تحتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجُما

وقال تعالى : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً } [ مريم : 26 ] أي : سكوتاً لقوله : { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } . وصامَ النهارُ أي : اشتدَّ حَرَّه ، قال :

836 - حتى إذا صامَ النهارُ واعتَدَلْ *** ومالَ للشمسِ لُعابٌ فَنَزَلْ

كأنهم تَوَهَّموا ذلك الوقتَ إمساكَ الشمسِ عن المَسِيرِ . ومَصَامُ النجومِ : إمساكُها عن السيرِ ، قال امرؤ القيس :

كأنَّ الثُّرِيَّا عُلِّقَتْ في مَصامِها *** بأمراسِ كُتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ

قوله : { كَمَا كُتِبَ } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّ محلَّها النصْب على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : كُتِبَ كَتْباً مثلَ ما كُتِبَ . الثاني : أنه في محلِّ حالٍ من المصدرِ المعرفةِ أي : كُتِبَ عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبِهاً ما كُتِبَ . و " ما " على هذين الوجهينِ مصدريةٌ . الثالث : أن يكون نعتاً لمصدرٍ من لفظِ الصيام ، أي : صوماً مثلَ ما كُتِبَ . ف " ما " على هذا الوجه بمعنى الذي ، أي : صوماً مماثلاً للصومِ المكتوبِ على مَنْ قبلكم . و " صوماً " هنا مصدر مؤكِّد في المعنى ، لأنَّ الصيامَ بمعنى : أنْ تصُومُوا صوماً ، قاله أبو البقاء ، وفيه أنَّ المصدرَ المؤكِّد يُوصَفُ ، وقد تقدَّم مَنْعُه عندَ قولِهِ تعالى { بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 180 ] . وقال الشيخ - بعد أَنْ حكى هذا عن ابن عطية - " وهذا فيه بُعْدٌ ؛ لأنَّ تشبيهَ الصوم بالكتابةِ لا يصحُّ ، هذا إن كانت " ما " مصدريةً ، وأمّا إن كانت موصولةً ففيه أيضاً بُعْدٌ ؛ لأنَّ تشبيه الصومِ بالصومِ لا يَصِحُّ إلاَّ على تأويلٍ بعيدٍ " .

الرابع : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " الصيام " ، وتكونُ " ما " موصولةً ، أي : مُشْبهاً الذي كُتِبَ . والعاملُ فيها " كُتِبَ " لأنه عاملٌ في صاحبِها . الخامس : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنَّه صفةٌ للصيامِ ، وهذا مردودٌ بأنَّ الجارَّ والمجرورَ من قبيلَ النكرات والصيامُ معرفةٌ ، فكيف تُوصَفُ المعرفةُ بالنكرةِ ؟ وأجابَ أبو البقاء عن ذلك " بأنَّ الصيامَ غيرُ مُعَيَّنٍ " كأنه يعني أنَّ " أل " فيه للجنسِ والمعرَّفُ بأل الجنسيةِ عندهم قريبٌ من النكرةِ ، ولذلك جازَ أن تَعْتَبِرَ لفظة مرةً ومعناه أخرى ، قالوا : " أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِرْهَمُ البيض " ومنه :

838 - ولقد أَمُرُّ على اللئيمَ يَسُبُّنِي *** فَمَضَيْتُ ثمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني

[ وقولُه تعالى : ] { وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } [ يس : 37 ] وقد تقدَّم الكلامُ على مثلِ قولِه : { الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } كيف وُصِلَ الموصول بهذا ، والجوابُ عنه في قولِه : { خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] .