قوله تعالى : { وهو الذي يتوفاكم بالليل ، أي : يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل .
قوله تعالى : { ويعلم جرحتم } ، كسبتم .
قوله تعالى : { بالنهار ثم يبعثكم فيه } ، أي : يوقظكم في النهار .
قوله تعالى : { ليقضى أجل مسمىً } ، يعني : أجل الحياة إلى الممات ، يريد استيفاء العمر على التمام .
قوله تعالى : { ثم إليه مرجعكم } ، في الآخرة .
ومن علم الله الشامل بمفاتح الغيب ، وبما يجري في جنبات الكون ، ينتقل السياق إلى مجال من مجالات هذا العلم الشامل ، في ذوات البشر ، ومجال كذلك من مجالات الهيمنة الإلهية ، بعد العلم المحيط :
( وهو الذي يتوفاكم بالليل ، ويعلم ما جرحتم بالنهار ، ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ، ثم إليه مرجعكم ، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
بضع كلمات أخرى ، كالتي رسمت آفاق الغيب وآماده وأغواره ، وأشارات إلى مدى العلم الإلهي وشموله في الآية السابقة . . بضع كلمات أخرى تضم حياة البشرية كلها في قبضة الله - سبحانه - وفي علمه وقدره وتدبيره . . صحوهم ومنامهم . . موتهم وبعثهم . حشرهم وحسابهم . . ولكن على " طريقة القرآن " المعجزة في الإحياء والتشخيص ، وفي لمس المشاعر واستجاشتها ، مع كل صورة وكل مشهد وكل حركة يرسمها تعبيره العجيب .
( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) . .
فهي الوفاة إذن حين يأخذهم النعاس ؛ هي الوفاة في صورة من صورها بما يعتري الحاس من غفلة ، وما يعتري الحس من سهوة ، وما يعتري العقل من سكون ، وما يعتري الوعي من سبات - أي انقطاع - وهو السر الذي لا يعلم البشر كيف يحدث ؛ وإن عرفوا ظواهره وآثاره ؛ وهو " الغيب " في صورة من صوره الكثيرة المحيطة بالإنسان . . وهؤلاء هم البشر مجردين من كل حول وطول - حتى من الوعي - ها هم أولاء في سبات وانقطاع عن الحياة . ها هم أولاء في قبضه الله - كما هم دائما في الحقيقة - لا يردهم إلى الصحو والحياة الكاملة إلا إرادة الله . . فما أضعف البشر في قبضة الله ! ( ويعلم ما جرحتم بالنهار )
فما تتحرك جوارحهم لأخذ أو ترك ، إلا وعند الله علم بما كسبت من خير أو شر . . وهؤلاء هم البشر مراقبين في الحركات والسكنات ؛ لا يند عن علم الله منهم شيء ، مما تكسبه جوارحهم بعد الصحو بالنهار !
( ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ) . .
أي يوقظكم في النهار من سباتكم وانقطاعكم ؛ لتتم آجالكم التي قضاها الله . . وهؤلاء هم البشر داخل المجال الذي قدره الله . لا مهرب لهم منه ، ولا منتهى لهم سواه !
فهي الأوبة إلى الراعي بعد انقضاء المراح !
( ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
فهو عرض السجل الذي وعى ما كان ، وهو العدل الدقيق الذي لا يظلم في الجزاء .
وهكذا تشمل الأية الواحدة ، ذات الكلمات المعدودة ، ذلك الشريط الحافل بالصور والمشاهد ، والمقررات والحقائق ، والإيحاءات والظلال . . فمن ذا الذي يملك أن يصنع ذلك ؟ وكيف تكون الآيات الخوارق ، إن لم تكن هي هذه ؟ التي يغفل عنها المكذبون ، ويطلبون الخوارق المادية وما يتبعها من العذاب الأليم !
عطف جملة { وهو الذي يتوفَّاكم } على جملة { وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها } [ الأنعام : 59 ] انتقالاً من بيان سعة علمه إلى بيان عظيم قدرته لأنّ ذلك كلَّه من دلائل الإلهية تعليماً لأوليائه ونعياً على المشركين أعدائه . وقد جرت عادة القرآن بذكر دلائل الوحدانية في أنفس الناس عقب ذكر دلائلها في الآفاق فجمع ذلك هنا على وجه بديع مؤذن بتعليم صفاته في ضمن دليل وحدانيته . وفي هذا تقريب للبعث بعد الموت .
فقوله : { وهو الذي يتوفَّاكم } صيغة قصر لتعريف جزأي الجملة ، أي هو الذي يتوفَّى الأنفس دون الأصنام فإنَّها لا تملك موتاً ولا حياة .
والخطاب موجه إلى المشركين كما يقتضيه السياق السابق من قوله : { لَقُضي الأمر بيني وبينكم } [ الأنعام : 58 ] واللاحق من قوله { ثم أنتم تشركون } [ الأنعام : 64 ] ويقتضيه طريق القصر . ولمَّا كان هذا الحال غير خاصّ بالمشركين علم منه أنّ الناس فيه سواء .
والتوفّي حقيقته الإماتة ، لأنَّه حقيقة في قبض الشيء مستوفى . وإطلاقه على النوم مجاز لشبه النوم بالموت في انقضاع الإدراك والعمل . ألا ترى قوله تعالى : { الله يتوفَّى الأنفسَ حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمَّى } [ الزمر : 42 ] . وقد تقدّم تفصيله عند قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى إنِّي متوفِّيك } في سورة [ آل عمران : 55 ] .
والمراد بقوله : { يتوفَّاكم } ينيمكم بقرينة قوله : { ثم يبعثكم فيه } ، أي في النهار ، فأراد بالوفاة هنا النوم على التشبيه . وفائدته أنّه تقريب لكيفية البعث يوم القيامة ، ولذا استعير البعث للإفاقة من النوم ليتمّ التقريب في قوله : { ثم يبعثكم فيه } .
ومعنى { جرحتم } كسبتم ، وأصل الجرح تمزيق جلد الحيّ بشيء محدّد مثل السكين والسيف والظُفُر والناب . وتقدّم في قوله : { والجروح قصاص } في سورة [ العقود : 45 ] . وأطلق على كلاب الصيد وبزاته ونحوها اسمُ الجوارح لأنَّها تجرح الصيد ليُمسكه الصائد . قال تعالى : { وما عَلَّمتم من الجوارح مكلِّبين } وتقدّم في سورة [ العقود : 4 ] . كما سمَّوها كواسب ، كقول لبيد :
غُضْفا كَواسبَ ما يُمَنّ طَعَامُها
فصار لفظ الجوارح مرادفاً للكواسب ؛ وشاع ذلك فأطلق على الكسب اسم الجرح ، وهو المراد هنا . وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيّئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الجاثية : 21 ] .
وجملة : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } معترضة لقصد الامتنان بنعمة الإمهال ، أي ولولا فضله لما بعثكم في النهار مع علمه بأنَّكم تكتسبون في النهار عبادة غيره ويكتسب بعضكم بعض ما نهاهم عنه كالمؤمنين .
ووقع الاقتصار على الإخبار بعلمه تعالى ما يكسب الناس في النهار دون الليل رعياً للغالب ، لأنّ النهار هو وقت أكثر العمل والاكتساب ، ففي الإخبار أنّه يعلم ما يقع فيه تحذير من اكتساب ما لا يرضَى الله باكتسابه بالنسبة للمؤمنين ، وتهديد للمشركين .
وجملة : { ثم يبعثكم فيه } معطوفة على { يتوفَّاكم بالليل } فتكون ( ثُمّ ) للمهلة الحقيقية ، وهو الأظهر . ولك أن تجعل ( ثم ) للترتيب الرتبي فتعطف على جملة { ويعلم ما جرحتم } ؛ أي وهو يعلم ما تكتسبون من المناهي ثم يردّكم ويمهلكم . وهذا بفريق المشركين أنسب .
و ( في ) للظرفية . والضمير للنهار . والبعثُ مستعار للإفاقة من النوم لأنّ البعث شاع في إحياء الميّت وخاصّة في اصطلاح القرآن { قالوا أئذا متنا وكنَّا تراباً وعظاماً أإنَّا لمبعوثون } [ المؤمنون : 82 ] وحسَّن هذه الاستعارة كونها مبنية على استعارة التوفِّي للنوم تقريباً لكيفية البعث التي حارت فيها عقولهم ، فكلّ من الاستعارتين مرشِّح للأخرى .
واللاّم في { ليقضى أجل مُسمّى } لام التعليل لأنّ من الحكم والعلل التي جعل الله لها نظام اليقظة والنوم أن يكون ذلك تجزئة لعُمُر الحي ، وهو أجله الذي أجِّلت إليه حياته يومَ خلقه ، كما جاء في الحديث « يؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله » فالأجل معدود باللأيام والليالي ، وهي زمان النوم واليقظة . والعلَّةُ التي بمعنى الحكمة لا يلزم اتِّحادها فقد يكون لِفعل الله حِكَم عديدة . فلا إشكال في جَعل اللاّم للتعليل .
وقضاء الأجل انتهاؤه . ومعنى كونه مُسمَّى أنَّه معيَّن محدّد . والمرجع مصدر ميمي ، فيجوز أن يكون المراد الرجوع بالموت ، لأنّ الأرواح تصير في قبضة الله ويبطل ما كان لها من التصرّف بإرادتها . ويجوز أن يكون المراد بالرجوع الحشر يوم القيامة ، وهذا أظهر .
وقوله : { ثُم يُنَبّئكم بما كنتم تعملون } أي يحاسبكم على أعمالكم بعد الموت ، فالمهلة في ( ثم ) ظاهرة ، أو بعد الحشر ، فالمهلةُ لأنّ بين الحشر وبين ابتداء الحساب زمناً ، كما ورد في حديث الشفاعة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.