التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (60)

وبعد أن بين - سبحانه - : شمول علمه لكل شىء ، أتبع ذلك بالحديث عن كمال قدرته ، ونفاذ إرادته فقال - تعالى : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم . . . . } .

قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل } أى : ينيمكم فيه . والتوفى أخذ الشىء وافياً ، أى تاما كاملا . والتوفى يطلق حقيقة على الإماتة ، وإطلاقه على النوم - كما هنا - مجاز لشبه النوم بالموت فى انقطاع الإدراك والعمل والإحساس قال - تعالى - : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } فهذه الآية صريحة فى أن التوفى أعم من الموت ، فقد صرحت بأن الأنفس التى تتوفى فى منامها غير ميتة ، فهناك وفاتان : وفاة كبرى وتكون بالموت ، ووفاة صغرة وتكون بالنوم . والمعنى : وهو - سبحانه - الذى يتوفى أنفسكم فى حالة نومكم بالليل ، دون غيره لأن غيره لا يملك موتاً ولا حياة ولا نشورا .

{ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } أى : ما كسبتم وعملتهم فيه من أعمال . وأصل الجرح تمزيق جلد الحى بشىء محدد مثل السكين والسيف والظفر والناب وأطلق هنا على ما يكتسبه الإنسان بجوارحه من يد أو رجل أو لسان .

وتخصيص الليل بالنوم ، والنهار بالكسب جرياً على المعتاد ، لأن الغالب أن يكون النوم ليلا ، وأن يكون الكسب والعمل نهاراً ، قال - تعالى- :

{ وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى } أى : ثم إن بعد توفيكم بالنوم يوقظكم منه فى النهار ، لأجل أن يقضى كل فرد أجله المسمى فى علم الله - تعالى - ، والمقدر له فى هذه الدنيا ، فقد جعل - سبحانه - لأعماركم آجالا محددة لا بد من قضائها وإتمامها .

وجملة { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } معطوفة على { يَتَوَفَّاكُم بالليل } فتكون ثم للمهلة الحقيقة وهو الأظهر .

{ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أى : ثم إليه وحده يكون رجوعكم بعد انقضاء حياتكم فى هذه الدنيا ، فيحاسبكم على أعمالكم التى اكتسبتموها فيها ، إن خيراً فخير وإن شرا فشر .

فالآية الكريمة تسوق للناس مظهراً من مظاهر قدرة الله وتبرهن لهم على صحة البعث والحساب يوم القيامة ، لأن النشأة الثانية - كما يقول القرطبى - منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم فى أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الأخرى .

هذا ، ويرى جمهور المفسرين أن ظاهر الخطاب فى الآية للمؤمنين والكافرين ، ولكن الزمخشرى خالف فى ذلك فجعلها خطابا للكافرين فقال : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل } الخطاب للكفرة ، أى : أنتم منسدحون الليل كله كالجيف - أى مسطحون على القفا - { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } ما كسبتم من الآثام فيه { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } من القبور فى شأن ذلك الذى قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار { ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى } وهو الأجل الذى سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ) .

والذى نراه أن رأى الجمهور أرجح لأنه لم يرد نص يدل على تخصيص الخطاب فى الاية للكافرين . ؟