الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (60)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وهو الذي يتوفاكم بالليل}: يميتكم بالليل، {ويعلم ما جرحتم بالنهار}: ما كسبتم من خير أو شر بالنهار، {ثم يبعثكم فيه}: يبعثكم من منامكم بالنهار، {ليقضى أجل مسمى}: منتهيا إليه، {ثم إليه مرجعكم} في الآخرة،

{ثم ينبئكم بما كنتم تعملون} في الدنيا من خير أو شر، هذا وعيد.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقل لهم يا محمد، والله أعلم بالظالمين: والله هو الذي يتوفى أرواحكم بالليل فيقبضها من أجسادكم، "وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنّهارِ": ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار. ومعنى التوفّي في كلام العرب: استيفاء العدد.

وأما الاجتراح عند العرب: فهو عمل الرجل بيده أو رجله أو فمه، وهي الجوارح عندهم جوارح البدن فيما ذكر عنهم، ثم يقال لكل مكتسب عملاً: جارح، لاستعمال العرب ذلك في هذه الجوارح، ثم كثر ذلك في الكلام حتى قيل لكلّ مكتسب كسبا بأيّ أعضاء جسمه اكتسب: مجترح.

وهذا الكلام وإن كان خبرا من الله تعالى عن قدرته وعلمه، فإن فيه احتجاجا على المشركين به الذين كانوا ينكرون قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم، فقال تعالى محتجّا علَيهم: "وَهُوَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ باللّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنّهارِ ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى "يقول: فالذي يقبض أرواحكم بالليل ويبعثكم في النهار، لتبلغوا أجلاً مسمّى وأنتم تَرَوْن ذلك وتعلمون صحته، غير منكر له القدرة على قبض أرواحكم وإفنائكم ثم ردّها إلى أجسادكم وإنشائكم بعد مماتكم، فإن ذلك نظير ما تعاينون وتشاهدون، وغير منكر لمن قدر على ما تعاينون من ذلك القدرة على ما لم تعاينوه، وإن الذي لم تروه ولم تعاينوه من ذلك شبيه ما رأيتم وعاينتم.

"ثُمّ يَبْعَثُكُمْ فيهِ لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى ثُمّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمّ يُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ".

"ثم يبعثكم": يثيركم ويوقظكم من منامكم "فيه": في النهار. والهاء التي في: «فيه» راجعة على النهار. "لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى": ليقضي الله الأجل الذي سماه لحياتكم، وذلك الموت، فيبلغ مدته ونهايته. "ثُمّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ": ثم إلى الله معادكم ومصيركم. "ثُمّ يُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ": ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا، ثم يجازيكم بذلك، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.

عن مجاهد: "لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى" وهو الموت.

عن السديّ: "لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى" قال: هو أجل الحياة إلى الموت.

قال عبد الله بن كثير: "لِيُقْضَى أجَلٌ مُسَمّى" قال: مدتهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار} فيه دلالة أن ليس ذكر الحكم في حال أو تخصيص الشيء في حال دلالة سقوط ذلك في حال أخرى، لأنه قال: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} ليس فيه أنه لا يعلم ما جرحنا بالليل، بل يعلم ما يكون منا بالليل والنهار جميعا، وليس فيه أنه لا يتوفانا بالنهار، وألا نجرح بالليل، لكنه ذكر الجرح بالنهار والوفاة بالليل لما أن الغالب مما يبصر إنما يكون بالنهار. فعلى ذلك الأول. ثم فيه دلالة أن النائم غير مخاطب في حال نومه حين ذكر الوعيد في ما يجرحون بالنهار. ولم يذكر بالليل.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

قوله: "وهو "كناية عن الله تعالى. و "الذي "صفة له "يتوفاكم بالليل" قيل في معناه قولان: احدهما -قال الجبائي: يقبضكم، وقال الزجاج: ينيمكم بالليل فيقبضكم الله اليه، كما قال: "الله يتوفى الانفس حين موتها". وقال البلخي:"واختاره الحسين بن علي المغربي "يتوفاكم" بمعنى يحصيكم عند منامكم واستقراركم، وقوله: "ثم يبعثكم فيه" أي في النهار، فجعل أنتباههم من النوم بعثا "ليقضى أجل مسمى" ليستوفى الأجل المسمى للحياة إلى حين الموت. ثم "إليه مرجعكم" يعني يوم القيامة فيحشرهم الله إلى حيث لا يملك فيه الأمر سواه. "ثم ينبئكم" يعني يخبركم ويعلمكم "بما كنتم تعملون" في الدنيا فيجازيكم على أعمالكم، وفيها دلالة على خزيهم وحاجتهم، واحتجاج عليهم أنه لا يستحق العبادة سواه، اذ هو الفاعل لجميع ما يستحق به العبادة مما عدده، والقادر عليه دون من يعبدونه من الأوثان والأصنام.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَهُوَ الذي يتوفاكم بالليل} الخطاب للكفرة، أي أنتم منسدحون الليل كله كالجيف {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} ما كسبتم من الآثام فيه {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل، وكسب الآثام بالنهار، ومن أجله، كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: في أمر كذا {ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى} وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم. {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} وهو المرجع إلى موقف الحساب {ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في ليلكم ونهاركم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم...}، فيها إيضاح الآيات المنصوبة للنظر، وفيها ضرب مثل للبعث من القبور، أن هذا أيضاً إماتة وبعث على نحو ما، والتوفي هو استيفاء عدد، وصارت اللفظة عرفاً في الموت، وهي في النوم على بعض التجوز.

زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :

{وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل} يريد به النوم، لأنه يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم، كما يقبض بالموت. وقال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما بيّن كمال علمه بالآية الأولى،بيّن كمال قدرته بهذه الآية، وهو كونه قادرا على نقل الذوات من الموت إلى الحياة ومن النوم إلى اليقظة، واستقلاله بحفظها في جميع الأحوال وتدبيرها على أحسن الوجوه حالة النوم واليقظة... فالله جل جلاله يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت، وههنا بحث: وهو أن النائم لا شك أنه حي، ومتى كان حيا لم تكن روحه مقبوضة البتة، وإذا كان كذلك لم يصح أن يقال إن الله توفاه، فلا بد ههنا من تأويل، وهو أن حال النوم تغور الأرواح الحساسة من الظاهر في الباطن، فصارت الحواس الظاهرة معطلة عن أعمالها، فعند النوم صار ظاهر الجسد معطلا عن بعض الأعمال، وعند الموت صارت جملة البدن معطلة عن كل الأعمال، فحصل بين النوم وبين الموت مشابهة من هذا الاعتبار، فصح إطلاق لفظ الوفاة والموت على النوم من هذا الوجه.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

ومعنى الآية: إن إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم فإنه أحصى كل شيء عددا وعلمه وأثبته، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة، ثم يرجعون إليه فيجازيهم. وقد دل على الحشر والنشر بالبعث؛ لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يخبر تعالى إنه يتوفى عباده في منامهم بالليل، وهذا هو التوفي الأصغر كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا]} [آل عمران: 55]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فذكر في هذه الآية الوفاتين: الكبرى والصغرى، وهكذا ذكر في هذا المقام حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى، فقال: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} أي: ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار. وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم، في حال سكونهم وفي حال حركتهم،.. وقوله {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} يعني به: أجل كل واحد من الناس، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي: يوم القيامة، {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ} أي: فيخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: ويجزيكم على ذلك إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان من مفاتح الغيب الموت والبعث الذي ينكرونه، وكان من أدلته العظمة النوم والإيقاظ منه مع ما فيه من الإحسان المتكرر، وكان فيه مع ذلك تقرير لكمال القدرة بعد تقريره لكمال العلم، أتبع ذلك قوله: {وهو} أي وحده {الذي يتوفاكم} أي يقبض أرواحكم كاملة بحيث لا يبقى عندكم شعور أصلاً، فيمنعكم التصرف بالنوم كما يمنعكم بالموت، وذكر الأصل في ذلك فقال: {بالّيل ويعلم} أي والحال أنه يعلم {ما جرحتم} أي كسبتم {بالنهار} أي الذي تعقبه النوم، من الذنوب الموجبة للإهلاك، ويعاملكم فيها بالحلم بعد العلم ولا يعجل عليكم، وهو معنى {ثم يبعثكم} أي يوقظكم بعد ذلك النوم المستغرق، فيصرفكم فيما يشاء {فيه} أي في النهار الذي تعقب ذلك النوم بعد استحقاقكم للانتقام {ليقضى} أي يتم {أجل مسمى} كتبه للموتة الكبرى.

ولما تمهد بهذا النشر بعد ذاك الطي في الموتة الصغرى القدرة على مثل ذلك في الموتة الكبرى، وكان فيه تقريب عظيم له قال: {ثم} يبعثكم من تلك الموتة كما بعثكم من هذه، ويكون {إليه} أي وحده {مرجعكم} أي حساً بالحشر إلى دار الجزاء، ومعنى بانقطاع الأسباب على ما عهد في الدنيا {ثم} بعد تلك المواقف الطوال والزلازل والأهوال، ويمكن أن تشير أداة التراخي إلى عظمة العلم بذلك، وإليه يرشد أكثر ما قبله من السياق {ينبئكم} أي يخبركم إخباراً عظيماً جليلاً مستقصى {بما كنتم تعملون} أي فيجازيكم عليه، ولعلمه عبر بالعمل لأن الحساب يكون على المكلفين الذين لهم أهلية العلم، فتقرر -مع كمال قدرته سبحانه على اختراع هذه الأشياء والعلم بها- استقلالُه بحفظها في كل حال وتدبيرها على أحسن وجه.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وهو الذي يتوفاكم بالليل} التوفي: أخذ الشيء وافيا أي تاما كاملا، ويقابله التوفية وهو إعطاء الشيء تاما كاملا، يقال وفاه حقه فتوفاه منه واستوفاه ومنه {ووجد الله عنده فوفّاه حسابه} [النور:39] ويقال توفاه واستوفاه بمعنى أحصى عدده، نطقت العرب بالمعنيين. وأطلق التوفي على الموت لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذا تاما حتى لا يبقى لها تصرف في الأبدان، وأطلق على النوم في هذه الآية وفي آية الزمر التي نذكرها قريبا، فقال العلماء إنه إطلاق مجازي مبني على تشبيه النوم بالموت لما بينهما من المشاركة في زوال إحساس الحواس والتمييز، وإنما جعلوه استعارة في النوم، بناء على جعله حقيقة في الموت، وهو كذلك في العرف العام لا في أصل اللغة، يقولون توفي فلان – بالبناء للمفعول – بمعنى مات، وتوفاه الله بمعنى أماته. وما أعلم أن العرب استعملت التوفي في الموت وإنما هو استعمال إسلامي مبني على أن الموت يحصل بقبض الأنفس التي تحيا بها الناس كما قال تعالى في سورة الزمر: {الله يتوفى الأنفس حين موتها التي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الزمر: 39] فهذه الآية نص في كون التوفي أعم من الموت وأنه ليس مرادفا له، فقد صرحت بأن الأنفس التي تتوفى في منامها غير ميتة.

فقوله تعالى: {يتوفاكم بالليل} معناه يتوفى أنفسكم في حالة نومكم بالليل، ومثله النوم في النهار وإنما اقتصر على ذكر الليل لأن الواجب في الفطرة والغالب في العادة أن يكون النوم فيه، فلا يعتد بما يقع منه في النهار، أطلق التوفي في المنام على إزالة الإحساس، والمنع من تصرف الأنفس في الأبدان، على ما هو المعروف عند العلماء، ولكن بعض فلاسفة الغرب المتأخرين يرى أن للإنسان نفسين تفارقه إحداهما عند النوم وتفارقه كلتاهما بالموت، فإذا صح هذا يكون التوفي حقيقته في المنام وفي الموت لأن الأول يحصل بقبض غير تام لأحد النفسين والثاني بقبض تام لكلتيهما، وهو يوافق ظاهر آية الزمر.

ثم قال عز وجل: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} الجرح يطلق بمعنى العمل والكسب بالجوارح وهي الأعضاء العاملة وبمعنى التأثير الدامي من السلاح وما في معناه كالبراثن والأظفار والأنياب من سباع الطير والوحش، قيل إن هذا الأخير هو الحقيقة والأول مجاز، وإن عوامل الإنسان ما سميت جوارح إلا تشبيها لها بجوارح السباع، وإن هذه ما سميت جوارح إلا لأنها تجرح ما تصيده وما تفترسه، وظاهر عبارة لسان العرب أن الجرح حقيقة في الكسب وأن جوارح الصيد سميت بذلك لكسبها لنفسها أو لمعلمها الذي يصيد بها وأن الخيل والأنعام المنتجة تسمى جوارح أيضا لأن نتاجها كسبها، فالجرح كالكسب يطلق على الخير والشر منه، نقل ذلك اللسان عن الأزهري، وظاهر كلام الزمخشري أنه فعل الشر وبذلك فسر الآية في الكشاف كما سيأتي، وقد استعمل الاجتراح بمعنى فعل الشر خاصة في قوله تعالى في سورة الجاثية {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الجاثية: 20] – الآية – ولم يذكر الجرح والاجتراح في القرآن إلا في هاتين الآيتين، وقد يكون التخصيص بعمل السيئات لصيغة الأفعال كما ورد كثيرا في الاكتساب كقوله تعالى في آخر سورة البقرة {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] وهو غير مطرد في ذلك، فكل من الكسب والاكتساب يستعمل في الخير والشر.

فمعنى قوله تعالى: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} يعلم جميع عملكم وكسبكم في وقت اليقظة الذي يكون معظمه في النهار خيرا كان أو شرا، قيل إن الماضي هنا بمعنى المستقبل أي ويعلم ما تجرحون في النهار الذي يلي الليل عبر به لتحقق وقوعه، وقيل بل هو على أصله ويراد به النهار السابق على الليل الذي يتوفاكم فيه. أو المراد يتوفاكم في جنس الليل ويعلم ما جرحتم في جنس النهار.

{ثم يبعثكم فيه} أي ثم إنه بعد توفيكم بالنوم يثيركم ويرسلكم منه في النهار، فالبعث -كما قال الراغب-: إثارة الشيء وتوجيهه، يقال بعثت البعير أي أثرته من بركه وسيرته. فإطلاق البعث على الإيقاظ من النوم حقيقة لغوية ومن جعله مجازا نظر إلى العرف الشرعي. فإن قيل كان الظاهر أن يقال: وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه، فما نكتة هذا التقديم والتأخير في الآية؟ قلت الظاهر المتبادر أن تأخير ذلك البعث لأجل أن تتصل به علته المقصودة بالذكر في هذا السياق وهي قوله تعالى: {ليقضى أجل مسمى} الخ أي يوقظكم ويرسلكم في أعمالكم لأجل أن يقتضي وينفذ الأجل المسمى في علمه تعالى لكل فرد منكم فإن لأعماركم آجالا مقدرة مكتوبة لا بد من قضائها وإتمامها {ثم إليه مرجعكم} ثم إليه وحده يكون رجوعكم إذا انتهت آجالكم ومتم {ثم ينبئكم بما كنتم تعملون (60)} إذ يبعثكم من مراقد الموت كما كان يبعثكم من مضاجع النوم، لأنه عالم بتلك الأعمال كلها فيذكركم بها، ويحاسبكم عليها ويجزيكم بها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر وفيه تنبيه على أن القادر على البعث من توفي النوم قادر على البعث من توفي الموت.

وقد خالف الزمخشري الجمهور في تفسير الآية فجعلها خطابا للكفار خاصة إذا جعل الجرح خاصا بعمل السوء وجعل الغرض من ذكر توفيهم في الليل أنهم يكونون منسدحين فيه كالجيف ومن الجرح بالنهار عمل الآثام فيه. وجعل البعث على معناه الشرعي. و « في» للتعليل أو الشأن كحديث « دخلت امرأة النار في هرة» وقال في بيان هذا: ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ومن أجله، كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: في أمر كذا. وفسر الأجل المسمى بما ضربه الله لبعث الموتى وجزائهم، والمرجع بالرجوع إلى موقف الحساب. وفيه تكلف لا يدفعه إلا نص في نزول الآية في الكفار وحدهم وكون الجرح بمعنى فعل الآثام، وكلاهما لا يثبت.

وفي ذكر الأجل المسمى في الآية والرجوع إلى الله تعالى لأجل الحساب والجزاء تأييد لما تقدم من حكمة تأخير ما كان مشركو مكة يستعجلون به من وعيد الله لهم ووعده لرسوله بالنصر عليهم وبيان عذاب الآخرة وراء ما أنذروا من عذاب الدنيا فمن لم يدركه الأول لموته قبل وقوعه لم يفلت من الآخر.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف جملة {وهو الذي يتوفَّاكم} على جملة {وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها} [الأنعام: 59] انتقالاً من بيان سعة علمه إلى بيان عظيم قدرته لأنّ ذلك كلَّه من دلائل الإلهية تعليماً لأوليائه ونعياً على المشركين أعدائه. وقد جرت عادة القرآن بذكر دلائل الوحدانية في أنفس الناس عقب ذكر دلائلها في الآفاق فجمع ذلك هنا على وجه بديع مؤذن بتعليم صفاته في ضمن دليل وحدانيته. وفي هذا تقريب للبعث بعد الموت.

فقوله: {وهو الذي يتوفَّاكم} صيغة قصر لتعريف جزأي الجملة، أي هو الذي يتوفَّى الأنفس دون الأصنام فإنَّها لا تملك موتاً ولا حياة.

والخطاب موجه إلى المشركين كما يقتضيه السياق السابق من قوله: {لَقُضي الأمر بيني وبينكم} [الأنعام: 58] واللاحق من قوله {ثم أنتم تشركون} [الأنعام: 64] ويقتضيه طريق القصر. ولمَّا كان هذا الحال غير خاصّ بالمشركين علم منه أنّ الناس فيه سواء.

والتوفّي حقيقته الإماتة، لأنَّه حقيقة في قبض الشيء مستوفى. وإطلاقه على النوم مجاز لشبه النوم بالموت في انقطاع الإدراك والعمل. ألا ترى قوله تعالى: {الله يتوفَّى الأنفسَ حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمَّى} [الزمر: 42]. وقد تقدّم تفصيله عند قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إنِّي متوفِّيك} في سورة [آل عمران: 55].

والمراد بقوله: {يتوفَّاكم} ينيمكم بقرينة قوله: {ثم يبعثكم فيه}، أي في النهار، فأراد بالوفاة هنا النوم على التشبيه. وفائدته أنّه تقريب لكيفية البعث يوم القيامة، ولذا استعير البعث للإفاقة من النوم ليتمّ التقريب في قوله: {ثم يبعثكم فيه}.

ومعنى {جرحتم} كسبتم، وأصل الجرح تمزيق جلد الحيّ بشيء محدّد مثل السكين والسيف والظُفُر والناب. وتقدّم في قوله: {والجروح قصاص} في سورة [العقود: 45]. وأطلق على كلاب الصيد وبزاته ونحوها اسمُ الجوارح لأنَّها تجرح الصيد ليُمسكه الصائد. قال تعالى: {وما عَلَّمتم من الجوارح مكلِّبين} وتقدّم في سورة [العقود: 4]

.. وجملة: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} معترضة لقصد الامتنان بنعمة الإمهال، أي ولولا فضله لما بعثكم في النهار مع علمه بأنَّكم تكتسبون في النهار عبادة غيره ويكتسب بعضكم بعض ما نهاهم عنه كالمؤمنين.

ووقع الاقتصار على الإخبار بعلمه تعالى ما يكسب الناس في النهار دون الليل رعياً للغالب، لأنّ النهار هو وقت أكثر العمل والاكتساب، ففي الإخبار أنّه يعلم ما يقع فيه تحذير من اكتساب ما لا يرضَى الله باكتسابه بالنسبة للمؤمنين، وتهديد للمشركين.

وجملة: {ثم يبعثكم فيه} معطوفة على {يتوفَّاكم بالليل} فتكون (ثُمّ) للمهلة الحقيقية، وهو الأظهر. ولك أن تجعل (ثم) للترتيب الرتبي فتعطف على جملة {ويعلم ما جرحتم}؛ أي وهو يعلم ما تكتسبون من المناهي ثم يردّكم ويمهلكم. وهذا بفريق المشركين أنسب.

و (في) للظرفية. والضمير للنهار. والبعثُ مستعار للإفاقة من النوم لأنّ البعث شاع في إحياء الميّت وخاصّة في اصطلاح القرآن {قالوا أئذا متنا وكنَّا تراباً وعظاماً أإنَّا لمبعوثون} [المؤمنون: 82] وحسَّن هذه الاستعارة كونها مبنية على استعارة التوفِّي للنوم تقريباً لكيفية البعث التي حارت فيها عقولهم، فكلّ من الاستعارتين مرشِّح للأخرى.

واللاّم في {ليقضى أجل مُسمّى} لام التعليل لأنّ من الحكم والعلل التي جعل الله لها نظام اليقظة والنوم أن يكون ذلك تجزئة لعُمُر الحي، وهو أجله الذي أجِّلت إليه حياته يومَ خلقه، كما جاء في الحديث « يؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله» فالأجل معدود باللأيام والليالي، وهي زمان النوم واليقظة. والعلَّةُ التي بمعنى الحكمة لا يلزم اتِّحادها فقد يكون لِفعل الله حِكَم عديدة. فلا إشكال في جَعل اللاّم للتعليل.

وقضاء الأجل انتهاؤه. ومعنى كونه مُسمَّى أنَّه معيَّن محدّد. والمرجع مصدر ميمي، فيجوز أن يكون المراد الرجوع بالموت، لأنّ الأرواح تصير في قبضة الله ويبطل ما كان لها من التصرّف بإرادتها. ويجوز أن يكون المراد بالرجوع الحشر يوم القيامة، وهذا أظهر.

وقوله: {ثُم يُنَبّئكم بما كنتم تعملون} أي يحاسبكم على أعمالكم بعد الموت، فالمهلة في (ثم) ظاهرة، أو بعد الحشر، فالمهلةُ لأنّ بين الحشر وبين ابتداء الحساب زمناً، كما ورد في حديث الشفاعة.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

نعلم جميعا أن النوم ليس عملية اختيارية، وفي بعض الأحيان نرى من يسلط الله عليه الهموم فلا يعرف النوم طريقا إلى جفونه. ونعلم أن النوم عملية قسرية يخلقها الله في الإنسان لتردعه عن الحركة بعد أن يستنفد كل قدرته على التحرك. والنوم لون من الردع الذاتي. ولماذا جعل الحق النوم كالوفاة؟. يعرف البعض أن الوفاة في معناها هي فصل الروح عن الجسد. وكأن الحق يقول لنا: إياكم أن تظنوا أن وجود الروح في الجسد هو الذي يعطي للإنسان الحياة والحركة والتصرف، لا، إنني سأحتفظ بالروح في الجسد ولا أقدره على التصرف الاختياري، ذلك حتى لا تفتتنوا في الروح؛ لأن هناك أجهزة لا دخل لاختيارك فيها مثل نبض القلب والتنفس؛ وغير ذلك من حركات أجهزة الجسم. وضرب لنا الحق المثل بأهل الكهف الذين أنامهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا: {ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25)} (سورة الكهف). والنوم – إذن – نعمة من الله جعلها في التكوين الذاتي، ولذلك إذا أردت أن تنام فليس ذلك بمقدورك ولكنه بمقدور الحق. إنه يقال عن النوم: ضيف إن طلبته عنتك – أي أتعبك – وإن طلبك أراحك. ويأتي النوم للمتعب حتى ولو نام على حصى، وقد لا يأتي النوم لمن يتهيأ له ولو كان على فراش من حرير. والحق سبحانه يقول: {ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23)} (سورة الروم) النوم – إذن – آية كاملة بمفردها، ولا يأتي النوم بالليل فقط، ولكن يأتي بالنهار أيضا؛ لأن هناك أعمالا تتطلبها حركة الوجود ويقوم بها أناس في أثناء الليل؛ ذلك ينامون بالنهار. ويتوفانا سبحانه بالليل ويعلم ما جرحنا في أثناء النهار، ثم يرسلنا إلى أجل يعلمه هو سبحانه، ثم يبعثنا في يوم القيامة لينبئنا بكل أعمالنا. وسمى الحق النوم وفاة، وسمى الاستيقاظ بعثا؛ لأن الإنسان في مثل هذه الأحوال لا يملك حركته الاختيارية. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما وقف ليعلن بعثته بعد ثلاث سنوات من الدعوة سرا: {إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد} إنكم لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتجزون بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا، وإنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا).