البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (60)

{ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر استئثاره بالعلم التام للكليات والجزئيات ذكر استئثاره بالقدرة التامّة تنبيهاً على ما تختص به الإلهية وذكر شيئاً محسوساً قاهراً للأنام وهو التوفي بالليل والبعث بالنهار وكلاهما ليس للإنسان فيه قدرة ، بل هو أمر يوقعه الله تعالى بالإنسان والتوفي عبارة في العرف عن الموت وهنا المعني به النوم على سبيل المجاز للعلاقة التي بينه وبين الموت وهي زوال إحساسه ومعرفته وفكره .

ولما كان التوفي المراد به النوم سبباً للراحة أسنده تعالى إليه وما كان بمعنى الموت مؤلماً قال :

{ قل يتوفاكم ملك الموت } و { توفته رسلنا } { تتوفاهم الملائكة } والظاهر أن الخطاب عام لكل سامع .

وقال الزمخشري : الخطاب للكفرة وخص الليل بالنوم والبعث بالنهار وإن كان قد ينام بالنهار ويبعث بالليل حملاً على الغالب ، ومعنى { جرحتم } كسبتم ومنه جوارح الطير أي كواسبها واجترحوا السيئات اكتسبوها والمراد منها أعمال الجوارح ومنه قيل للأعضاء جوارح .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من الجرح كأن الذنب جرح في الدين والعرب تقول : وجرح اللسان كجرح اليد .

وقال مكي : أصل الاجتراح عمل الرجل بجارحة من جوارحه يده أو رجله ثم كثر حتى قيل لكل مكتسب مجترح وجارح ، وظاهر قوله : { ما جرحتم } العموم في المكتسب خيراً كان أو شراً .

وقال الزمخشري : ما كسبتم من الآثام ؛ انتهى ، وهو قول ابن عباس .

وقال قتادة : ما عملتم .

وقال مجاهد : ما كسبتم والبعث هنا هو التنبه من النوم والضمير في { فيه } عائد على { النهار } قاله مجاهد وقتادة والسدي ، عاد عليه لفظاً والمعنى في يوم آخر كما تقول : عندي درهم ونصفه وقال عبد الله بن كثير يعود على التوفي أي يوقظكم في التوفي أي في خلاله وتضاعيفه .

وقيل : يعود على الليل .

وقال الزمخشري : ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ، ومن أجله ، كقولك : فيم دعوتني فتقول : في أمر كذا ؛ انتهى .

وحمله على البعث من القبور ينبو عنه قوله : { ليقضى أجل مسمى } لأن المعنى والله أعلم أنه تعالى يحييهم في هاتين الحالتين من النوم واليقظة ليستوفوا ما قدر لهم من الآجال والأعمار المكتوبة ، وقضاء الأجل فصل مدّة العمر من غيرها ومسمى في علم الله أو في اللوح المحفوظ أو عند تكامل الخلق ونفخ الروح ، ففي الصحيح أن الملك يقول عند كمال ذلك .

فما الرزق فما الأجل .

وقال الزمخشري : هو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم { ثم إليه مرجعكم } هو المرجع إلى موقف الحساب { ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } في ليلكم ونهاركم ؛ انتهى .

وقال غيره : كابن جبير : مرجعكم بالموت الحقيقي .

ولما ذكر تعالى النوم واليقظة كان ذلك تنبيهاً على الموت والبعث وإن حكمهما بالنسبة إليه تعالى واحد فكما أنام وأيقظ يميت ويحيي .

وقرأ طلحة وأبو رجاء ليقضي أجلاً مسمى بنى الفعل للفاعل ونصب أجلاً أي ليتم الله آجالهم كقوله : { فلما قضى موسى الأجل } وفي قراءة الجمهور ، ويحتمل أن يكون الفاعل المحذوف ضميره أو ضميرهم .