الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (60)

قوله تعالى : " وهو الذي يتوفاكم بالليل " أي ينيمكم فيقبض نفوسكم التي بها تميزون ، وليس ذلك موتا حقيقة بل هو قبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت . والتوفي استيفاء الشيء . وتوفي الميت استوفى عدد أيام عمره ، والذي ينام كأنه استوفى حركاته في اليقظة . والوفاة الموت . وأوفيتك المال ، وتوفيته{[6425]} ، واستوفيته إذا أخذته أجمع . وقال الشاعر{[6426]} :

إن بني الأدْرَدِ ليسوا من أحدْ *** ولا توفاهم قريش في العددْ

ويقال : إن الروح إذا خرج من البدن في المنام تبقى فيه الحياة ؛ ولهذا تكون فيه الحركة والتنفس ، فإذا انقضى عمره خرج روحه وتنقطع حياته ، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس . وقال بعضهم . لا تخرج منه الروح ، ولكن يخرج منه الذهن . ويقال : هذا أمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى . وهذا أصح الأقاويل ، والله أعلم . " ثم يبعثكم فيه " أي في النهار ؛ ويعني اليقظة . " ليقضى أجل مسمى " أي ليستوفي كل إنسان أجلا ضرب له . وقرأ أبو رجاء وطلحة بن مصرف " ليقضي أجلا مسمى " أي عنده . " جرحتم " كسبتم ، وقد تقدم في ( المائدة ){[6427]} . وفي الآية تقديم وتأخير ، والتقدير وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه ، فقدم الأهم الذي من أجله وقع البعث في النهار . وقال ابن جريج " ثم يبعثكم فيه " أي في المنام . ومعنى الآية : إن إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم فإنه أحصى كل شيء عددا وعلمه وأثبته ، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة ، ثم يرجعون إليه فيجازيهم . وقد دل على الحشر والنشر بالبعث ؛ لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر .


[6425]:في ز، ل: توفيت الشيء.
[6426]:هو منظور الوبري.
[6427]:راجع ج 6 ص 66.