معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَـٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ} (78)

قوله تعالى : { وجاءه قومه يهرعون إليه } ، قال ابن عباس وقتادة : يسرعون إليه . وقال مجاهد : يهرولون ، وقال الحسن : مشي بين مشيتين . وقال شمر بن عطية : بين الهرولة والجمز . { ومن قبل } ، أي : من قيل مجيئهم إلى لوط ، { كانوا يعملون السيئات } ، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم . { قال } ، لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان ، { يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } ، يعني : بالتزويج ، وفى أضيافه ببناته ، وكان في ذلك الوقت ، تزويج المسلمة من الكافر جائزا كما زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته من عتبة بن لهب ، وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي ، وكانا كافرين . وقال الحسين بن الفضل : عرض بناته عليهم بشرط الإسلام . وقال مجاهد و سعيد بن جبير : قوله : { هؤلاء بناتي } ، أراد : نساءهم ، وأضاف إلى نفسه لأن كل نبي أو أمته . وفى قراءة أبي بن كعب : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب-6 ] وهو أب لهم . وقيل : ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على التحقيق ، ولم يرضوا هذا . { فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي } ، أي : خافوا الله ولا تخزون في ضيفي ، أي : لا تسوؤني ولا تفضحوني في أضيافي . { أليس منكم رجل رشيد } ، صالح سديد . قال عكرمة : رجل يقول لا إله إلا الله . وقال ابن إسحاق : رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَـٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ} (78)

69

( وجاءه قومه يهرعون إليه ) .

أي يسرعون في حالة تشبه الحمى .

( ومن قبل كانوا يعملون السيئات ) . .

وكان هذا ما ساء الرجل بضيوفه ، وما ضيق بهم ذرعه ، وما دعاه إلى توقع يوم عصيب !

ورأى لوط ما يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين إلى داره ، يهددونه في ضيفه وكرامته . فحاول أن يوقظ فيهم الفطرة السليمة ، ويوجههم إلى الجنس الآخر الذي خلقه الله للرجال ، وعنده منه في داره بناته ، فهن حاضرات ، حاضرات اللحظة إذا شاء الرجال المحمومون تم الزواج على الفور ، وسكنت الفورة المحمومة والشهوة المجنونة !

( قال : يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم . فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي . أليس منكم رجل رشيد ؟ ) .

( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) . .

أطهر بكل معاني الطهر . النفسي والحسي . فهن يلبين الفطرة النظيفة ، ويثرن مشاعر كذلك نظيفة . نظافة فطرية ونظافة أخلاقية ودينية . ثم هن أطهر حسيا . حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة الناشئة مكمنا كذلك طاهرا نظيفا .

( فاتقوا الله ) . .

قالها يلمس نفوسهم من هذا الجانب بعد أن لمسها من ناحية الفطرة .

( ولا تخزون في ضيفي ) . .

قالها كذلك يلمس نخوتهم وتقاليد البدو في إكرام الضيف إطلاقا .

( أليس منكم رجل رشيد ؟ ) . .

فالقضية قضية رشد وسفه إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة . . ولكن هذا كله لم يلمس الفطرة المنحرفة المريضة ، ولا القلوب الميتة الآسنة ، ولا العقول المريضة المأفونة . وظلت الفورة المريضة الشاذة في اندفاعها المحموم :

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَـٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ} (78)

وقوله تعالى : { وجاءه قومه } الآية ، روي أن امرأة لوط الكافرة لما رأت ، الأضياف ورأت جمالهم وهيئتهم خرجت حتى أتت مجالس قومها فقالت لهم : إن لوطاً أضاف الليلة فتية ما رئي مثلهم جمالاً وكذا وكذا ، فحينئذ جاءوا { يهرعون إليه } ، ومعناه يسرعون ، والإهراع هو : أن يسرع أمر بالإنسان حتى يسير بين الخبب والجمز{[6444]} ، فهي مشية الأسير الذي يسرع به ، والطامع المبادر إلى أمر يخاف فوته ، ونحو هذا ؛ يقال هرع الرجل وأهرعه طمع أو عدو أو خوف ونحوه .

والقراءة المشهورة : «يُهرعون » بضم الياء أي يهرعون الطمع ، وقرأت فرقة : «يَهرعون » بفتح الياء ، من هرع ، ومن هذه اللفظة قول مهلهل : [ الوافر ]

فجاءوا يَهرعون وهم أسارى*** تقودُهم على رغم الأنوف{[6445]}

وقوله : { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } ، أي كانت عادتهم إتيان الفاحشة في الرجال ، فجاءوا إلى الأضياف لذلك فقام إليهم لوط مدافعاً ، وقال : { هؤلاء بناتي } فقالت فرقة أشار إلى بنات نفسه وندبهم في هذه المقالة إلى النكاح ، وذلك على أن كانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة ، أو على أن في ضمن كلامه أن يؤمنوا . وقالت فرقة : إنما كان الكلام مدافعة لم يرد إمضاؤه ، روي هذا القول عن أبي عبيدة ، وهو ضعيف ، وهذا كما يقال لمن ينهى عن مال الغير : الخنزير أحل لك من هذا وهذا التنطع ليس من كلام الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ، وقالت فرقة : أشار بقوله : { بناتي } إلى النساء جملة إذ نبي القوم أب لهم ، ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم }{[6446]} وهو أب لهم وأشار أيضاً لوط - في هذا التأويل - إلى النكاح{[6447]} .

وقرأت فرقة - هي الجمهور - «هن أطهرُ » برفع الراء على خبر الابتداء ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر ومحمد بن مروان وسعيد بن جبير : «أطهرَ » بالنصب قال سيبويه : هو لحن ، قال أبو عمرو بن العلاء : احتبى فيه ابن مروان في لحنه{[6448]} ، ووجهه عند من قرأ به النصب على الحال بأن يكون { بناتي } ابتداء و { هن } خبره ، والجملة خبر { هؤلاء } .

قال القاضي أبو محمد : وهو إعراب مروي عن المبرد ، وذكره أبو الفتح وهو خطأ في معنى الآية ، وإنما قوم اللفظ فقط والمعنى إنما هو في قوله : { أطهر } وذلك قصد أن يخبر به فهي حال لا يستغنى عنها - كما تقدم في قوله : { وهذا بعلي شيخاً } [ هود : 72 ] ، والوجه أن يقال : { هؤلاء بناتي } ابتداء وخبر ، و { هن } فصل و { أطهر } حال وإن كان شرط الفصل أن يكون بين معرفتين ليفصل الكلام من النعت إلى الخبر ، فمن حيث كان الخبر هنا في { أطهر } ساغ القول بالفصل ، ولما لم يستسغ ذلك أبو عمرو ولا سيبويه لحنا ابن مروان ، وما كانا ليذهب عليهما ما ذكر أبو الفتح ، و «الضيف » : مصدر يوسف به الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث{[6449]} ؛ ثم وبخهم بقوله : { أليس منكم رجل رشيد } أي يزعكم ويردكم .


[6444]:-الخبب: ضرب من العدو، تقول: خبّ الفرس يخب (بالضم) خبا وخببا وخبيبا إذا راوح بين يديه ورجليه، أي: قام على إحداهما مرة وعلى الأخرى مرة، ويقال: أخبّ الفرس صاحبه، وجاءوا مخبّين. والجمز: سير سريع قريب من العدو، وقد يكون فيه وثب، أما الهرع والهُراع والإهراع فهو شدّة السّوق وسرعة العدو. تأمل هذا وهو عن اللسان والصحاح والتاج وتأمل تفرقة ابن عطية بين الأنواع الثلاثة، وانظر الهامش التالي.
[6445]:- الذي في اللسان أن الإهراع هو سرعة السير مع رعدة أو خوف أو حرص أو غضب أو حُمّى، واستشهد بهذه الآية، ونقل عن الكسائي قوله: الإهراع: إسراع في رعدة، وقال المهلهل: فجاءوا... البيت. ونقل عن الليث قوله: يُهرعون وهم أسارى: يساقون ويُعجلون. والرّغم: الذلة، وأصل الرغم: التراب، ويقال في الكناية عن الذلة والإكراه: رغم أنفه، أي: ذلّ، وفي حديث معقل بن يسار: "رغم أنفي لأمر الله". والعرب تقول: أهرعوا وهُرعوا فهم مهرعون ومهروهون.
[6446]:- من الآية (6) من سورة (الأحزاب).
[6447]:- أقوى الآراء في قول لوط: [بناتي] أنه على المجاز، وذلك لأمور كثيرة، منها أنه لم يكن له إلا بنتان على الحقيقة وهذا بلفظ الجمع، ومنها أنه لا يمكن أن يزوج ابنتيه من جميع قومه، ومنها أنه في منزلة الأب للقوم جميعا وله أن يعبر عن هذه الأبوة، والنبي الكريم لا يريد بعرض البنات إلا الزواج، فهو يوجه أبناء قومه إلى الأسلوب الصحيح في التعامل مع الغريزة الجنسية.
[6448]:- معنى (احتبى): أنه جلس في اللحن بكامله، وتفسير البحر للكلمة أنه (تربّع في اللحن).
[6449]:- وعليه قول الشاعر: لا تعدمي الدهر شفار الجازر *** للضيف، والضيف أحق زائر وكلمة (ضيف) في ذلك مثل (عدل)، تقول: رجل عدل وقوم عدل، ومثل قولك: رجال صوم وفطر وزور.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَـٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ} (78)

أي جاءه بعضُ قومه . وإنما أسند المجيء إلى القوم لأن مثل ذلك المجيء دأبهم وقد تمالؤوا على مثله ، فإذا جاء بعضهم فسيعقبه مجيء بعض آخر في وقت آخر . وهذا من إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضها ، كقول الحارث بن وعلة الجرمي :

قومي همُ قتلوا أمَيْمة أخي *** فإذا رميتُ يصيبني سهمي

و { يُهرعون } بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبني للمفعول فسّروه بالمشي الشبيه بمشي المدفوع ، وهو بين الخبب والجَمْز ، فهو لا يكون إلا مبنيّاً للمفعول لأن أصله مشي الأسير الذي يُسرَع به . وهذا البناء يقتضي أن الهَرْع هو دفع الماشي حين مشيه ؛ إلاّ أن ذلك تنوسِيَ ، وبقي أهرع بمعنى سار سيراً كسير المدفوع ، ولذلك قال جمع من أهل اللغة : إنّه من الأفعال التي التزموا فيها صيغة المفعول لأنها في الأصل مسندة إلى فاعلٍ غير معلوم . وفسّره في « الصحاح » و« القاموس » بأنه الارتعاد من غضب أو خوف ، وعلى الوجهين فجملة { يهرعون } حال .

وقد طوى القرآن ذكر الغرض الذي جاؤوا لأجله مع الإشارة إليه بقوله : { ومن قبل كانوا يعملون السيّئات } فقد صارت لهم دأباً لا يسعون إلاّ لأجله .

وجملة { قال يا قوم } إلخ مستأنفة بيانياً ناشئاً عن جملة { وجاءه قومه } ، إذ قد علم السامع غرضهم من مجيئهم ، فهو بحيث يسأل عمّا تلقّاهم به .

وبادرهم لوط عليه السّلام بقوله : { يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } . وافتتاح الكلام بالنّداء وبأنّهم قومه ترقيق لنفوسهم عليه ، لأنّه يعلم تصلبهم في عادتهم الفظيعة كما دلّ عليه قولهم : { لقد علمتَ ما لنا في بناتك من حق } [ هود : 79 ] ، كما سيأتي .

والإشارة ب { هؤلاء } إلى { بناتي } . و { بناتي } بدل من اسم الإشارة ، والإشارة مستعملة في العَرض ، والتقديرُ : فخذوهن .

وجملة { هنّ أطهر لكم } تعليل للعرض . ومعنى { هنّ أطهر } أنهنّ حلال لكم يَحُلْنَ بينكم وبين الفاحشة ، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة قصد به قوّة الطهارة .

و { هؤلاء } إشارة إلى جمع ، إذ بُيّنَ بقوله : { بناتي } .

وقد رُويَ أنه لم يكن له إلاّ ابنتان ، فالظّاهر أن إطلاق البنات هنا من قبيل التشبيه البليغ ، أي هؤلاء نساؤهن كبناتي . وأراد نساءً من قومه بعدد القوم الذين جاءوا يُهرعون إليه . وهذا معنى ما فسر به مجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وهو المناسب لجعلهنّ لقومه إذ قال : { هنّ أطهر لكم } ، فإن قومه الذين حضروا عنده كثيرون ، فيكون المعنى : هؤلاء النساء فتَزَوّجوهنّ . وهذا أحسن المحامل .

وقيل : أراد بنات صلبه ، وهو رواية عن قتادة . وإذ كان المشهور أنّ لوطاً عليه السّلام له ابنتان صار الجمع مستعملاً في الاثنين بناء على أن الاثنين تعامل معاملة الجمع في الكلام كقوله تعالى : { فقد صَغَت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] .

وقيل : كان له ثلاث بنات .

وتعترض هذا المَحمل عقبتان :

الأولى : أنّ القوم كانوا عدداً كثيراً فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاث ؟ .

الثانية : أن قوله : { هؤلاء بناتي } عرض عليهم كما علمت آنفاً ، فكيف كانت صفة هذه التخلية بين القوم وبين البنات وهم عدد كثير ، فإن كان تزويجاً لم يكفين القوم وإن كان غير تزويج فما هو ؟ .

والجواب عن الأول : أنه يجوز أن يكون عدد القوم الذين جاؤوه بقدر عدد بناته أو أن يكون مع بناته حتى من قومه . وعن الثاني : أنه يجوز أن يكون تصرف لوط عليه السّلام في بناته بوصف الأبوة ، ويجوز أن يكون تصرفاً بوصف النبوءة بالوحي للمصلحة أن يكون من شرع لوط عليه السّلام إباحة تمليك الأب بناته إذا شاء ، فإن كان أولئك الرهط شركاء في ملك بناته كان استمتاع كل واحد بكل واحدة منهنّ حلالاً في شريعته على نحو ما كان البغاء من بقايا الجاهلية في صدر الإسلام قبل أن ينسخ .

وأما لحاق النسب في أولاد من تحمل منهنّ فيجوز أن يكون الولد لاحقاً بالذي تُليطه أمه به من الرجال الذين دخلوا عليها ، كما كان الأمر في البغايا في صدر الإسلام ، ويجوز أن لا يلحق الأولاد بآباء فيكونوا لاحقين بأمّهاتهم مثل ابن الزنى وولد اللّعان ، ويكون هذا التحليل مباحاً ارتكاباً لأخف الضررين ، وهو ممّا يشرع شرعاً مؤقتاً مثل ما شرع نكاح المتعة في أوّل الإسلام على القول بأنه محرّماً وهو قول الجمهور .

وقد اشتغل المفسرون عن تحرير هذا بمسألة تزويج المؤمنات بالكفّار وهو فضول .

وفرع على قوله : { هنّ أطهر لكم } أن أمرهم بتقوى الله لأنّهم إذا امتثلوا ما عرض لهم من النساء فاتّقوا الله .

وقرأ الجمهور { ولا تخزون } بحذف ياء المتكلم تخفيفاً . وأثبتها أبو عمرو .

والخزي : الإهانة والمذلة . وتقدم آنفاً . وأراد مذلته .

و { في } للظرفية المجازيّة . جعل الضيف كالظرف ، أي لا تجعلوني مخزياً عند ضيفي إذ يلحقهم أذى في ضيافتي ، لأنّ الضيافة جوار عند ربّ المنزل ، فإذا لحقت الضيف إهانة كانت عاراً على ربّ المنزل .

والضيف : الضائف ، أي النازل في منزل أحد نزولاً غير دائم ، لأجل مرور في سفر أو إجابة دعوة .

وأصل ضيف مصدر فعل ضاف يضيف ، ولذلك يطلق على الواحد وأكثر ، وعلى المذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وقد يعامل معاملة غير المصدر فيجمع كما قال عمرو بن كلثوم :

نزلتم منزل الأضياف منّا

وقد ظن لوط عليه السّلام الملائكة رجالاً مارّين ببيته فنزلوا عنده للاستراحة والطعام والمبيت .

والاستفهام في { أليس منكم رجل رشيد } إنكار وتوبيخ لأنّ إهانة الضيف مسبّة لا يفعلها إلاّ أهل السفاهة .

وقوله : { منكم } بمعنى بعضكم أنكر عليهم تمالؤهم على الباطل وانعدام رجل رشيد من بينهم ، وهذا إغراء لهم على التعقل ليظهر فيهم من يتفطّن إلى فساد ما هم فيه فينهاهم ، فإنّ ظهور الرشيد في الفئة الضالة يفتح باب الرشاد لهم . وبالعكس تمالؤُهم على الباطل يزيدهم ضراوة به .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَـٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ} (78)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وجاءه قومه يهرعون إليه}، يعني يسرعون إليه مشاة إلى لوط، {ومن قبل} أن نبعث لوطا، {كانوا يعملون السيئات} يعني نكاح الرجال، و {قال} لوط: {يا قوم هؤلاء بناتي}...فتزوجوهما {هن أطهر لكم} يعني أحل لكم من إتيان الرجال، {فاتقوا الله} في معصيته، {ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد} يقول: ما منكم رجل مرشد...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وجاء لوطا قومه يستحثون إليه يَرْعَدون مع سرعة المشي مما بهم من طلب الفاحشة، يقال: أُهْرِع الرجل من برد أو غضب أو حُمّى: إذا أُرعد، وهو مُهْرِع إذا كان مُعْجَلاً حريصا... عن مجاهد، في قول الله:"يُهْرَعُونَ إلَيْهِ" قال: يُهَرْوِلون، وهو الإسراع في المشي...

عن الضحاك: "وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إلَيْهِ "قال: يسعون إليه...

عن قتادة، قال: فأتوه يُهرعون إليه، يقول: سراعا إليه...

وقوله: "وَمِنْ قبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السّيّئاتِ" يقول: من قبل مجيئهم إلى لوط كانوا يأتون الرجال في أدبارهم...

وقوله: "قالَ يا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَناتي" يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه لما جاءوا يراودونه عن ضيفه: هؤلاء يا قوم بناتي يعني نساء أمته فانكِحوهن ف "هُنّ أطْهَرُ لَكُمْ"... عن قتادة: "هَؤُلاءِ بَناتي هُنّ أطْهَرُ لَكُمْ" قال: أمرهم لوط بتزويج النساء، وقال: هن أطهر لكم...

عن مجاهد: "هَؤُلاءِ بَناتي هُنّ أطْهَرُ لَكُمْ" قال: لم يكن بناته، ولكن كن من أمته، وكلّ نبيّ أبو أمته... أمرهم أن يتزوّجوا النساء، لم يعرض عليهم سفاحا... عن قتادة...: أمرهم أن يتزوّجوا النساء، وأراد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يقيَ أضيافه ببناته...

وقوله: "فاتّقُوا اللّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي" يقول: فاخشوا الله أيها الناس، واحذروا عقابه في إتيانكم الفاحشة التي تأتونها وتطلبونها.

"وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي" يقول: وَلا تُذِلّوني بأن تركبوا مني في ضيفي ما يكرهون أن تركبوه منهم. والضيف في لفظ واحد في هذا الموضع بمعنى جمع، والعرب تسمي الواحد والجمع ضيفا بلفظ واحد كما قالوا: رجل عدل، وقوم عدل.

وقوله: "ألَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ" يقول: أليس منكم رجل ذو رشد يَنْهَي من أراد ركوب الفاحشة من ضيفي، فيحول بينهم وبين ذلك؟...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

" أليس منكم رجل رشيد "خرج مخرج الإنكار عليهم وإن كان لفظه لفظ الاستفهام. والرشيد هو الذي يعمل بما يقتضيه عقله، لأنه يدعو إلى الحق، ومنه الإرشاد في الطرق، فقال: أما منكم من يدعو إلى الحق ويعمل به. ونقيض الرشد الغي...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

" أليس منكم رجل رشيد "يرتدي جلبابَ الحشمة، ويؤثِر حقَّ الله على ما هو مقتضى البشرية، ويرعى حق الضيافة، ويترك معصية الله؟...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{يُهْرَعُونَ} يسرعون كأنما يدفعون دفعاً. {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء... {فاتقوا الله} بإيثارهن عليهم {وَلاَ تخزوني} ولا تهينوني ولا تفضحوني، من الخزي، أو ولا تخجلوني، من الخزاية وهي الحياء {فِي ضَيْفِي} في حق ضيوفي فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي الرجل، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} رجل واحد يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... {هؤلاء بناتي} فقالت فرقة أشار إلى بنات نفسه وندبهم في هذه المقالة إلى النكاح، وذلك على أن كانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة، أو على أن في ضمن كلامه أن يؤمنوا. وقالت فرقة: إنما كان الكلام مدافعة لم يرد إمضاءه، روي هذا القول عن أبي عبيدة، وهو ضعيف، وهذا كما يقال لمن ينهى عن مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا وهذا التنطع ليس من كلام الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وقالت فرقة: أشار بقوله: {بناتي} إلى النساء جملة إذ نبي القوم أب لهم، ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} "وهو أب لهم "وأشار أيضاً لوط -في هذا التأويل- إلى النكاح...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} يرشدهم إلى نسائهم، فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد [للرجال والنساء]، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة، كما قال لهم في الآية الأخرى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165، 166]، وقوله في الآية الأخرى: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر: 70] أي: ألم ننهك عن ضيافة الرجال {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 71، 72]...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وجاءه قومه يهرعون إليه} أي جاءوه يهرولون متهيجة أعصابهم كأن سائقا يسوقهم، قال في المصباح المنير: هرع وأهرع بالبناء فيهما للمفعول إذا أعجل على الإسراع، أي حمل على العجل به اه. وقال الكسائي والفراء وغيرهما: لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة من برد أو غضب أو حمى اه. وينبغي أن يزاد عليه أو شهوة شديدة، وقال مجاهد: هو مشي بين الهرولة والعدو. {ومن قبل كانوا يعملون السيئات} ومن قبل هذا المجيء كانوا يعملون السيئات الكثيرة وشرها أفظع الفاحشة وأنكر في الفطرة البشرية والشرائع الإلهية والوضعية، وهي إتيان الرجال شهوة من دون النساء، ومجاهرتهم بها في أنديتهم كأنها من الفضائل، يتسابقون إليها ويتبارون فيها، كما حكى الله عنه من قوله بعد رميهم بالفاحشة {أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر} [العنكبوت: 29] فماذا فعل لوط، وبم واجههم وعارضهم؟

{قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم} فتزوجوهن، قيل أراد بناته من صلبه، وأنه سمح بتزويجهم بهن بعد امتناع لصرفهم عن أضيافه، وقيل أراد بنات قومه في جملتهن، لأن النبي في قومه كالولد في عشيرته، قاله ابن عباس {رضي الله عنه] ومجاهد وسعيد بن جبير، ويدخل فيه نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدات للزواج، يعني أن الاستمتاع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط، فإنه يكبح جماح الشهوة مع الأمن من الفساد، وصيغة التفضيل هنا للمبالغة في الطهر فلا مفهوم لها، وهذا كثير في اللغة ويقول النحويون فيه: إن أفعل التفضيل على غير بابه، والظاهر أنه يأمرهم في هذه الحال الذي هاجت فيه شهوتهم واشتد سبقهم، أن يأتوا نساءهم كما ورد في الإرشاد النبوي لمن رأى امرأة أعجبته أن يأتي امرأته في تلك الحالة التي هاجته فيها رؤيتها.

وزعم بعض المفسرين أنه عليه السلام عرض على هؤلاء الفساق المجرمين بناته أن يستمتعوا بهن كما يشاءون، ومثل هذا في سفر التكوين [19: 8] وفيه أنهما اثنتان، ولا يعقل أن يقع هذا الأمر من أي رجل صالح فضلا عن نبي مرسل، ولا يصح في مثله أن يعبر عنه بأنه أطهر لهم، فغسل الدم بالبول ليس من الطهارة في شيء، وإن كان يعتقد أنهم لا يجيبونه إلى هذا الفعل، بل الذنب في هذه الحال أكبر، لأنه أمر بالمنكر، وخروج عن الحكم الشرعي، إيثارا للتجمل الشخصي، وهو لا يتعارض مع قوله لهم بعده {فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي} فإن الزنا ليس من التقوى بل هو هدم لها، وإنما معنى هذا الأمر والنهي: فاجمعوا بما أمرتكم به بين تقوى الله باجتناب الفاحشة، وبين حفظ كرامتي وعدم إذلالي وامتهاني بفضيحتي في ضيفي فإن فضيحة الضيف فضيحة للمضيف وإهانة له، ولفظ الضيف يطلق على الواحد والمثنى والجمع.

{أليس منكم رجل رشيد} ذو رشد يعقل هذا فيرشدكم إليه؟

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وجاءه قومه يهرعون إليه). أي يسرعون في حالة تشبه الحمى. (ومن قبل كانوا يعملون السيئات).. وكان هذا ما ساء الرجل بضيوفه، وما ضيق بهم ذرعه، وما دعاه إلى توقع يوم عصيب! ورأى لوط ما يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين إلى داره، يهددونه في ضيفه وكرامته. فحاول أن يوقظ فيهم الفطرة السليمة، ويوجههم إلى الجنس الآخر الذي خلقه الله للرجال، وعنده منه في داره بناته، فهن حاضرات، حاضرات اللحظة إذا شاء الرجال المحمومون تم الزواج على الفور، وسكنت الفورة المحمومة والشهوة المجنونة! (قال: يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم. فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي. أليس منكم رجل رشيد؟). (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم).. أطهر بكل معاني الطهر. النفسي والحسي. فهن يلبين الفطرة النظيفة، ويثرن مشاعر كذلك نظيفة. نظافة فطرية ونظافة أخلاقية ودينية. ثم هن أطهر حسيا. حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة الناشئة مكمنا كذلك طاهرا نظيفا. (فاتقوا الله).. قالها يلمس نفوسهم من هذا الجانب بعد أن لمسها من ناحية الفطرة. (ولا تخزون في ضيفي).. قالها كذلك يلمس نخوتهم وتقاليد البدو في إكرام الضيف إطلاقا. (أليس منكم رجل رشيد؟).. فالقضية قضية رشد وسفه إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة.. ولكن هذا كله لم يلمس الفطرة المنحرفة المريضة، ولا القلوب الميتة الآسنة، ولا العقول المريضة المأفونة. وظلت الفورة المريضة الشاذة في اندفاعها المحموم...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

أي: يسرعون إليه في تدافق، والإنسان إذا لم يكن قد مرن على الشر وله به دربة، يكون مترددا خائفا، أما من له دربة فهو يقبل على الشر بجرأة ونشاط...

وقوله تعالى: {يهرعون إليه}: يبين أنهم أقبلوا باندفاع، كأنهم يعشقون ما يذهبون إليه؛ لأن كلا منهم له دربة على ذلك الفعل المشين، أو أن كلا منهم ذاهب إلى ما يحب دون تهيب، باندفاع من نفسه ودفع من غيره... وقوم لوط كانوا على دربة بتلك الفاحشة. يقول الحق سبحانه عنهم: {ومن قبل كانوا يعملون السيئات}: أي: أن هذه المسألة عندهم كانت محبوبة، ولهم دربة عليها وخفيفة على قلوبهم، ولا حياء يمنعهم عنها. فالحياء يعني أن بعض الناس يعمل السيئة ويخشى الآخرون أن يفعلوها، لكن إذا ما كانوا كلهم يحبون تلك السيئة، فلن يخجل أحد من الآخر. وماذا يكون موقف لوط- عليه السلام- في هذا اليوم العصيب؟ لقد أقبلوا عليه بسرعة، وفي كوكبة واندفاع، وهو يعلم نياتهم ويعلم سوابقهم، وفكر لوط- عليه السلام- في أن يصرفهم انصرافا من جنس اندفاعهم...

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

من الهداية: -فضيلة إكرام الضيف وحمايته من كل ما يسوءه.- فظاعة العادات السيئة وما تحدثه من تغير في الإِنسان. -بذل ما يمكن لدفع الشر لوقاية لوط ضيفه.- أسوأ الحياة أن لا يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.