مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَـٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ} (78)

قوله تعالى { وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد }

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أنه لما دخلت الملائكة دار لوط عليه السلام مضت امرأته عجوز السوء فقالت لقومه دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن وجوها ولا أنظف ثيابا ولا أطيب رائحة منهم { فجاءه قومه يهرعون إليه } أي يسرعون ، وبين تعالى أن إسراعهم ربما كان لطلب العمل الخبيث بقوله : { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } نقل أن القوم دخلوا دار لوط وأرادوا أن يدخلوا البيت الذي كان فيه جبريل عليه السلام ، فوضع جبريل عليه السلام يده على الباب ، فلم يطيقوا فتحه حتى كسروه ، فمسح أعينهم بيده فعموا ، فقالوا : يا لوط قد أدخلت علينا السحرة وأظهرت الفتنة ، ولأهل اللغة في { يهرعون } قولان :

القول الأول : أن هذا من باب ما جاءت صيغة الفاعل فيه على لفظ المفعول ولا يعرف له فاعل نحو : أولع فلان في الأمر ، وأرعد زيد ، وزهى عمرو من الزهو .

والقول الثاني : أنه لا يجوز ورود الفاعل على لفظ المفعول ، وهذه الأفعال حذف فاعلوها فتأويل أولع زيد أنه أولعه طبعه وأرعد الرجل أرعده غضبه وزهى عمرو معناه جعله ماله زاهيا وأهرع معناه أهرعه خوفه أو حرصه ، واختلفوا أيضا فقال بعضهم : الإهراع هو الإسراع مع الرعدة . وقال آخرون : هو العدو الشديد .

أما قوله تعالى : { قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } ففيه قولان : قال قتادة : المراد بناته لصلبه . وقال مجاهد وسعيد بن جبير : المراد نساء أمته ؛ لأنهن في أنفسهن بنات ولهن إضافة إليه بالمتابعة وقبول الدعوة . قال أهل النحو : يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، لأنه كان نبيا لهم فكان كالأب لهم . قال تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } وهو أب لهم وهذا القول عندي هو المختار ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفجار أمر متبعد لا يليق بأهل المروءة فكيف بأكابر الأنبياء ؟ الثاني : وهو أنه قال : { هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } فبناته اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم . أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل . الثالث : أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان ، وهما : زنتا ، وزعورا ، وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة ، فأما القائلون بالقول الأول فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما دعا القوم إلى الزنا بالنسوان بل المراد أنه دعاهم إلى التزوج بهن ، وفيه قولان : أحدهما : أنه دعاهم إلى التزوج بهن بشرط أن يقدموا الإيمان . والثاني : أنه كان يجوز تزويج المؤمنة من الكافر في شريعته ، وهكذا كان في أول الإسلام بدليل أنه عليه السلام زوج ابنته زينب من أبي العاص بن الربيع وكان مشركا وزوج ابنته من عتبة بن أبي لهب ثم نسخ ذلك بقوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } وبقوله : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } واختلفوا أيضا ، فقال الأكثرون : كان له بنتان ، وعلى هذا التقدير ذكر الاثنتين بلفظ الجمع ، كما في قوله : { فإن كان له إخوة } { فقد صغت قلوبكما } وقيل : إنهن كن أكثر من الإثنتين .

أما قوله تعالى : { هن أطهر لكم } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : ظاهر قوله : { هن أطهر لكم } يقتضي كون العمل الذي يطلبونه طاهرا ومعلوم أنه فاسد ولأنه لا طهارة في نكاح الرجل ، بل هذا جار مجرى قولنا : الله أكبر ، والمراد أنه كبير ولقوله تعالى : { أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم } ولا خير فيها ولما قال أبو سفيان : اعل أحدا واعل هبل قال النبي : " الله أعلى وأجل " ولا مقاربة بين الله وبين الصنم .

المسألة الثانية : روي عن عبد الملك بن مروان والحسن وعيسى بن عمر أنهم قرؤوا { هن أطهر لكم } بالنصب على الحال كما ذكرنا في قوله تعالى : { وهذا بعلي شيخا } إلا أن أكثر النحويين اتفقوا على أنه خطأ قالوا لو قرئ { هؤلاء بناتي هن أطهر } كان هذا نظير قوله : { وهذا بعلي شيخا } إلا أن كلمة «هن » قد وقعت في البين وذلك يمنع من جعل أطهر حالا وطولوا فيه . ثم قال : { فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو ونافع ولا تخزوني بإثبات الياء على الأصل ، والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليه .

المسألة الثانية : في لفظ { لا تخزوني } وجهان : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تفضحوني في أضيافي ، يريد أنهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة . والثاني : لا تخزوني في ضيفي أي لا تخجلوني فيهم ، لأن مضيف الضيف يلزمه الخجالة من كل فعل قبيح يوصل إلى الضيف يقال : خزي الرجل إذا استحيا .

المسألة الثالثة : الضيف ههنا قائم مقام الأضياف ، كما قام الطفل مقام الأطفال . في قوله تعالى : { أو الطفل الذين لم يظهروا } ويجوز أن يكون الضيف مصدرا فيستغني عن جمعه كما يقال : رجال صوم . ثم قال : { أليس منكم رجل رشيد } وفيه قولان : الأول : { رشيد } بمعنى مرشد أي يقول الحق ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي . والثاني : رشيد بمعنى مرشد ، والمعنى : أليس فيكم رجل أرشده الله تعالى إلى الصلاح . وأسعده بالسداد والرشاد حتى يمنع عن هذا العمل القبيح ، والأول أولى .