اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَـٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ} (78)

قوله : { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ } " يُهْرَعُونَ " في محلِّ نصب على الحال . والعامَّةُ على " يُهْرَعُونَ " مبنياً للمفعول . وقرأ فرقة{[18907]} بفتح الياء مبنيّاً للفاعل من لغة " هَرَع " والإهراعُ : الإسْراعُ .

ويقالُ : هو المَشْيُ بين الهرولة والجمز .

وقال الهرويُّ : هَرَعَ وأهرع : استحث .

وقيل : " الإهراعُ : هو الإسْرَاع مع الرّعدة " .

قيل : هذا من باب ما جاء بصيغةِ الفاعلِ على لفظِ المفعولِ ، ولا يعرف له فاعل نحو : أولع فلان ، وأرْعِدَ زَيْدٌ ، وزُهي عمرٌو من الزهو .

وقيل : لا يجوزُ ورود الفاعل على لفظ المفعول ، وهذه الأفعالُ عرف فاعلوها . فتأويلُ أولع فلانٌ أي : أولعهُ حبُّه ، وأرْعدَ زيدٌ أي : أرعده غضبه ، وزُهي عَمْرٌو أي : جعله ما لهُ زاهياً ، وأهرع خوفه ، أو حرصه .

فصل

روي أنَّه لمَّا دخلت الملائكةُ دار لوط - عليه السلام - مضت امرأته فقالت لقومه : دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن منهم وجوهاً ولا أطيب منهم رائحة ف " جَاءَهُ قَوْمُهُ " مسرعين { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } أي : من قبل مجيئهم إلى لوطٍ كانوا يأتون الرِّجال في أدبارهم ، فقال لهم لوطٌ - عليه السلام - : حين قصدوا أضيافه فظنوا أنهم غلمان { يا قوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } يعني : بالتزويج .

قوله : { هؤلاء بَنَاتِي } جملةٌ برأسها ، و{ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } جملةٌ أخرى ، ويجُوزُ أن يكون " هؤلاءِ " مبتدأ ، و " بَنَاتِي " بدلٌ أو عطفُ بيان ، وهُنَّ مبتدأ ، و " أطْهَرُ " خبره ، والجملة خبر الأول . ويجوز أن يكون " هُنَّ " فصلاً ، و " أطْهَرُ " خبر : إمَّا ل " هَؤلاءِ " ، وإمَّا ل " بَنَاتِي " والجملةُ خبر الأوَّلِ .

وقرأ الحسنُ وزيدُ بنُ عليّ ، وسعيدُ بنُ جبير{[18908]} ، وعيسى بن عمر ، والسُّدي " أطْهَرَ " بالنَّصْب ، وخُرِّجَتْ على الحالِ ، فقيل : " هؤلاءِ " مبتدأ ، و " بَنَاتِي هُنَّ " جملة في محلِّ خبره ، و " أطْهَرَ " حال ، والعاملُ : إمَّا التَّنبيهُ وإمَّا الإشارةُ .

وقيل : " هُنَّ " فصلٌ بين الحالِ وصاحبها ، وجعل من ذلك قولهم : " أكثر أكْلِي التفاحة هي نضيجةً " ومنعه بعضُ النحويين ، وخرج الآية على أنَّ " لَكُم " خبر " هُنَّ " فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنويِّ ، وخرَّج المثل المذكور على أنَّ " نَضِيجَةٌ " منصوبة ب " كَانَ " مضمرة .

فصل

قال قتادةُ - رحمه الله - : " المرادُ بناته لصلبه " ، وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزاً كما زوَّج النبي - صلوات الله البرّ الرحيم وسلامه عليه دائماً أبداً - ابنته من عُتْبة بن أبي لهبٍ ، وزوج ابنته الأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي ، وكانا كافرين .

وقال الحسنُ بن الفضل : عرض بناته عليهم بشرط الإسلام{[18909]} .

وقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير : أراد نساءهم ، وأضاف إلى نفسه ؛ لأنَّ كُلَّ نبيٍّ أبو أمته{[18910]} وفي قراءة أبي بن كعب " { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [ الأحزاب : 6 ] وهو أب لهم " وهذا القول أولى ؛ لأنَّ إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفُجَّار أمر مستعبدٌ لا يليقُ بأهل المروءةِ ، فكيف بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ؟ وأيضاً فبناته من صلبه لا تكفي للجمع العظيم ، أمَّا بناتُ أمته ففيهن كفاية للكُلِّ ، وأيضاً : فلم يكن له إلاَّ بنتان ، وإطلاق البنات على البنتين لا يجوز ؛ لما ثبت أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة ؛ وقال بعضهم ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق .

فإن قيل : ظاهرُ قوله : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } يقتضي كون عملهم طاهراً ، ومعلوم أنَّهُ فاسدٌ ؛ ولأنه لا طهارة في نكاح الرَّجُل .

فالجوابُ : هذا جارٍ مجرى قولنا : الله أكبرُ ، والمرادُ : أنَّهُ كبيرٌ ، وكقوله : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } [ الصافات : 62 ] ولا خير فيها ، ولمَّا قال أبو سفيان يوم أحد اعْلُ هُبَلُ اعلُ هُبَلُ ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعلى وأجلُّ{[18911]} ولا مقاربة بين الله والصنم .

قوله : { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } قرأ أبُو عمرو{[18912]} ونافع بإثبات ياء الإضافة في " تُخْزُونِ " على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليها .

والضَّيفُ في الأصل مصدرٌ كقولك : رجالٌ صومٌ ، ثم أطلق على الطَّارق لميلانه إلى المُضِيف ، ولذلك يقعُ على المفردِ والمذكر وضدِّيهما بلفظٍ واحدٍ ، وقد يثنى فيقال : ضيفان ، ويجمع فيقال : أضياف وضُيُوف كأبيات وبُيُوت وضيفان كحوض وحِيضان .

والضَّيف قائمٌ هنا مقام الأضياف ، كما قام الطفل مقام الأطفال في قوله : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } [ النور : 32 ] .

فصل

قال ابنُ عباسٍ : المرادُ : خافوا الله ، ولا تفضحوني في أضيافي{[18913]} ، يريد : أنَّهُم إذا هجمُوا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحةُ .

وقيل : معناه لا تخجلوني فيهم ؛ لأنَّ مضيف الضَّيْفِ يلحقهُ الخجلُ من كُلِّ فعل قبيحٍ يتوجه إلى الضَّيف ، يقال : خزي الرجل إذا استحيا .

ثم قال : { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } أي : صالح سديدٌ يقول الحق ، ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي . وقال عكرمةُ : رجل يقول : لا إله إلاَّ الله{[18914]} .

وقال ابن إسحاق : رجل يأمُرُ بالمعروفِ ، وينهى عن المنكر{[18915]} .


[18907]:ينظر: المحرر الوجيز 3/194 والبحر المحيط 5/246.
[18908]:ينظر: المحرر الوجيز 3/194 والبحر المحيط 5/247 والدر المصون 4/118.
[18909]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/395).
[18910]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/83) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/620) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وذكره البغوي في "تفسيره" (2/395).
[18911]:أخرجه أحمد (1/463).
[18912]:وقرأ بها أيضا نافع في الوصل ينظر: إعراب القراءات السبع 1/297.
[18913]:ذكره الرازي في "تفسيره" (18/28).
[18914]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/395) عن عكرمة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/621) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن أبي حاتم والبيهقي في "الأسماء والصفات". وذكره أيضا عن عكرمة وعزاه إلى أبي الشيخ.
[18915]:انظر المصادر السابقة.