معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

قوله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ، الإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة . { من قوة } ، أي : من الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل و السلاح .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغفار بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ثنا هارون بن معروف ثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ، ثمامة بن شفي أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، وهو على المنبر : ( { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ) .

وبهذا الإسناد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله عز وجل فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه ) .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد ابن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل ، عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا : " إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل " .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، ثنا حميد ابن زنجويه ، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، ثنا هشام الدستوائي عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح السلمي قال : حاصرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الطائف فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة ) ، قال : فبلغت يومئذ ستة عشر سهماً ، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر ) .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، ثنا أحمد بن منصور الرمادي ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن يحيى بن كثير ، عن زيد بن سلام ، عن عبد الله بن زيد الأزرق ، عن عقبة بن عامر الجهني ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة نفر : صانعه ، والممد به ، والرامي في سبيل الله ) .

وروى عن خالد بن زيد ، عن عقبة بن عامر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة : صانعه يحتسب في صنعته الخير ، والرامي به ومنبله ، وارموا واركبوا ، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ، كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته ، فإنه من الحق ، ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنه نعمة تركها ) أو قال ( كفرها ) . قوله تعالى : { ومن رباط الخيل } ، يعني : ربطها واقتناؤها للغزو . وقال عكرمة : القوة الحصون ، ومن رباط الخيل الإناث .

وروي عن خالد بن الوليد أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها . وعن أبي محيريز قال : كان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند الشنات والغارات .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، ثنا زكريا ، عن عامر ، ثنا عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم ) . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا علي بن حفص ، ثنا ابن المبارك ، ثنا طلحة بن أبي سعيد قال : سمعت سعيداً المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده ، فإن شبعه ، وريه ، وروثه ، وبوله في ميزانه يوم القيامة ) . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الخيل ثلاثة : هي لرجل أجر ، وهي لرجل ستر ، وهي لرجل وزر ، فأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفاً أو شرفين ، كانت آثارها وأوراثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات ، فهي لذلك الرجل أجر ، وأما التي هي له ستر : فرجل ربطها تغنياً وتعففاً ، ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها ، فيه له ستر ، وأما التي هي له وزر : فرجل ربطها فخراً ورياءً ، ونواءً لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر ) وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال : ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } .

قوله تعالى : { ترهبون به } ، تخوفون به .

قوله تعالى : { عدو الله ، وعدوكم وآخرين } ، أي : وترهبون آخرين .

قوله تعالى : { من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم } ، قال مجاهد ومقاتل وقتادة : هم بنو قريظة ، وقال السدي : هم أهل فارس ، وقال الحسن وابن زيد : هم المنافقون ، لا تعلمونهم ، لأنهم معكم يقولون : لا إله إلا الله ، وقيل : هم كفار الجن .

قوله تعالى : { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم } ، يوف لكم أجره .

قوله تعالى : { وأنتم لا تظلمون } ، لا تنقص أجوركم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

55

ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة ؛ فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها ؛ وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها ؛ وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية :

( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ، ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) .

فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد ؛ والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ؛ ويخص ( رباط الخيل )لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة . . ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا - والمهم هو عموم التوجيه :

( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) . .

إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في " الأرض " لتحرير " الإنسان " . . وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة : أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها ؛ فلا يصدوا عنها ، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها . . والأمر الثاني : أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على " دار الإسلام " التي تحميها تلك القوة . . والأمر الثالث : أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي ، وهو ينطلق لتحرير " الإنسان " كله في " الأرض " كلها . . والأمر الرابع : أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية ، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ؛ ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده ؛ ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه . .

إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب ، وتنظيماً للشعائر ، ثم تنتهي مهمته ! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة ؛ يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية . فلا مفر للإسلام - لإقرار منهجه الرباني - من تحطيم تلك القوى المادية ، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى ، وتقاوم المنهج الرباني . .

وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة . . ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني . ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد ! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ؛ ولا لتقرير سلطان زعيم ، أو دولة ، أو طبقة ، أو جنس ! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية . . إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير ، ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعبيد . .

هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع ؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي ! والجهاد الإسلامي .

ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة . فالنص يقول :

( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) . .

فهي حدود الطاقة إلى أقصاها . بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها . كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة :

( ترهبون به عدو الله وعدوكم ، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) . .

فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض . الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم ، أو لم يجهروا لهم بالعداوة ، واللّه يعلم سرائرهم وحقائقهم . وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم . والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء ، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ؛ ولتكون كلمة اللّه هي العليا ، وليكون الدين كله للّه .

ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالا ، وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل ، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله :

( وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) . .

وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله ، من كل غاية أرضية ، ومن كل دافع شخصي ؛ ومن كل شعور قومي أو طبقي ، ليتمحض خالصا للّه " في سبيل اللّه " لتحقيق كلمة اللّه ، ابتغاء رضوان اللّه .

ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الاولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن ، أو قوم على قوم ، أو جنس على جنس ، أو طبقة على طبقة . . ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . . والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب . إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين ، والضمير في قوله { لهم } عائد على الذين ينبذ إليهم العهد ، أو على الذين لا يعجزون على تأويل من تأول ذلك في الدنيا ، ويحتمل أن يعيده على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت ثم استمرت الآية في الأمة عامة ، إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار وقال عكرمة مولى ابن عباس : «القوة » ذكور الخيل و «الرباط » إناثها ، وهذا قول ضعيف ، وقالت فرقة : القوة الرمي واحتجت بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي{[5433]} » ثلاثاً ، وقال السدي : القوة السلاح ، وذهب الطبري إلى عموم اللفظة ، وذكر عن مجاهد أنه رئي يتجهز وعنده جوالق{[5434]} فقال : هذا من القوة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، و { الخيل } والمركوب في الجملة والمحمول عليه من الحيوان والسلاح كله والملابس الباهتة والآلات والنفقات كلها داخلة في القوة ، وأمر المسلمون بإعداد ما استطاعوا من ذلك ، ولما كانت الخيل هي أصل الحروب وأوزارها والتي عقد الخير في نواصيها وهي أقوى القوة وحصون الفرسان خصها الله بالذكر تشريفاً على قوله { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل }{[5435]} وعلى نحو قوله { فاكهة ونخل ورمان }{[5436]} وهذا كثير ، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً »{[5437]} هذا في البخاري وغيره ، وقال في صحيح مسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً » ، فذكرت التراب على جهة التحفي به إذ هو أعظم أجزاء الأرض مع دخوله في عموم الحديث الآخر ، ولما كانت السهام من أنجع ما ُيتعاطى في الحرب ، وأنكاه في العدو ، وأقربه تناولاً للأرواح ، خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر والتنبيه عليها ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد الثلاثة من المسلمين الجنة ، صانعة والذي يحتسب في صنعته والذي يرمي به »{[5438]} ، وقال عمرو بن عنبة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من رمى بسهم في سبيل الله أصاب العدو أو أخطأ فهو كعتق رقبة »{[5439]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ارموا واركبوا ، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا »{[5440]} و { رباط الخيل } جمع ربط ككلب وكلاب ، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة ، ويجوز أن يكون الرباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً ونحوه لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس{[5441]} ، وإن جعلناه مصدراً من رابط فكأن ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر له فترابط المؤمنون بعضهم بعضاً ، فإذا ربط كل واحد منهم فرساً لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط ، وذلك الذي حض في الآية عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :

«من ارتبط فرساً في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها »{[5442]} ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة «من رُبُط » بضم الراء والباء وهو جمع رباط ككتاب وكُتُب ، كذا نصبه المفسرون وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر{[5443]} .

و{ ترهبون } معناه تفزعون وتخوفون ، والرهبة الخوف ، قال طفيل الغنوي : [ البسيط ]

ويلُ أم حيّ دفعتم في نحورهمُ*** بني كلاب غداة الرعب والرهب{[5444]}

ومنه راهب النصارى ، يقال رهب إذا خاف ، ف { ترهبون } معدى بالهمزة ، وقرأ الحسن ويعقوب «تُرَهّبون » بفتح الراء وشد الهاء معدى بالتضعيف ، ورويت عن أبي عمرو بن العلاء قال أبو حاتم : وزعم عمرو أن الحسن قرأ «يرهبون » بالياء من تحت وخففها ، فهو على هذا المعدى بالتضعيف ، وقرأ ابن عباس وعكرمة «تخزون به عدو الله » .

قال القاضي أبو محمد : ذكرها الطبري تفسيراً لا قراءة ، وأثبتها أبو عمرو الداني قراءة ، وقوله { عدو الله وعدوكم } ذكر الصفتين وإن كانت{[5445]} متقاربة إذ هي متغايرة المنحى ، وبذكرهما يتقوى الذم وتتضح وجوه بغضنا لهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «عدواً لله » بتنوين عدو وبلام في المكتوبة{[5446]} ، والمراد بهاتين الصفتين من قرب وصاقب{[5447]} من الكفار وكانت عداوته متحركة بعد ، ويجوز أن يراد بها جميع الكفار ويبين هذا من اختلافهم في قوله { وآخرين من دونهم } الآية ، قال مجاهد الإشارة بقوله { وآخرين } إلى قريظة ، وقال السدي : إلى أهل فارس ، وقال ابن زيد : الإشارة إلى المنافقين ، وقالت فرقة : الإشارة إلى الجن ، وقالت فرقة : هم كل عدو للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرد بهم من خلفهم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الخلاف إنما ينبغي أن يترتب على ما يتوجه من المعنى في قوله { لا تعلمونهم } فإذا حملنا قوله { لا تعلمونهم } على عمومه ونفينا علم المؤمنين بهذه الفرقة المشار إليها جملة واحدة كان العلم بمعنى المعرفة لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد لم يثبت من الخلاف في قوله { آخرين } إلا قول من قال الإشارة إلى المنافقين وقول من قال : الإشارة إلى الجن ، وإذا جعلنا قوله { لا تعلمونهم } محاربين أو نحو هذا مما تفيد به نفي العلم عنهم حسنت الأقوال ، وكان العلم متعدياً إلى مفعولين .

قال القاضي أبو محمد : هذا الوجه أشبه عندي ، ورجح الطبري أن الإشارة إلى الجن وأسند في ذلك ما روي من أن صهيل الخيل ينفر الجن وأن الشيطان لا يدخل داراً فيها فرس الجهاد ونحو هذا ، وفيه على احتماله نظر ، وكان الأهم في هذه الآيات أن يبزر معناها في كل ما يقوي المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين هي النافعة للإسلام وأهله ورهبة الجن وفزعهم لا غناء له في ظهور الإسلام ، بل هو تابع لظهور الإسلام وهو أجنبي جداً والأولى أن يتأول المسلمين إذا ظهروا وعزوا هابهم من جاورهم من العدو المحارب لهم ، فإذا اتصلت حالهم تلك بمن بعد من الكفار داخلته الهيبة وإن لم يقصد المسلمون إرهابهم فأولئك هم الآخرون{[5448]} ، ويحسن أن يقدر قوله { لا تعلمونهم } بمعنى لا تعلمونهم فازعين راهبين ولا تظنون ذلك بهم ، والله تعالى يعلمهم بتلك الحالة ، ويحسن أيضاً أن تكون الإشارة إلى المنافقين على جهة الطعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كل من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية ، ولفزعهم ورهبتهم غناء كثير في ظهور الإسلام وعلوه ، وقوله { من دونهم } بمنزلة قولك دون أن يكون هؤلاء ف «دون » في كلام العرب و «من دون » يقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي هي فيها القول ، ومنه المثل : " وأمر دون عبيدة الوذم " {[5449]} تفضل تعالى بعدة المؤمنين على إنفاقهم في سبيل الله بأن النفقة لا بد أن توفى أي تجازى ويثاب عليها ، ولزوم هذا هو في الآخرة ، وقد يمكن أن يجازي الله تعالى بعض المؤمنين في الدنيا مجازاة مضافة إلى مجازاة الآخرة .


[5433]:- أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم القراب في كتاب فضل الرمي، والبيهقي في شعب الإيمان. (الدر المنثور).
[5434]:- الجوالق بضم الجيم وبسكرها: الغرارة. (المعجم الوسيط).
[5435]:- من الآية (98) من سورة (البقرة).
[5436]:-من الآية (68) من سورة (الرحمن).
[5437]:- رواه ابن ماجة عن أبي هريرة، وأبو داود عن أبي ذر، هكذا قال السيوطي في "الجامع الصغير" ورمز له بالضعف.
[5438]:- لفظه كما أثبته في "الجامع الصغير" هو: (إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله). وقال إن الإمام أحمد رواه في مسنده، وكذلك رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. ثم رمز له السيوطي بالضعف.
[5439]:-رواه في "الجامع الصغير" بلفظ: (من رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر) ثم رمز إلى أن رواته هم الترمذي، والنسائي، والحاكم في مستدركه- عن أبي نجيح. ورمز له بعد ذلك بأنه صحيح.
[5440]:-هذا جزء من حديث رمز له الإمام السيوطي في "الجامع الصغير" بأنه حديث حسن، وقد رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان- عن عقبة بن عامر- والحديث بتمامه هو: (ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته، فإنهن من الحق، ومن ترك الرمي بعدما علمه فقد كفر الذي علمه).
[5441]:- قال أبو حيان في "البحر المحيط" تعليقا على ذلك: "ليس بصحيح، بل لها مصادر منقاسة ذكرها النحويون".
[5442]:- هذا جزء من حديث طويل رواه الدارمي في (اللباس)، ورواه الإمام أحمد في مسنده عن سهل بن الحنظلية، قال الراوي عن سهل وكان جليسا لأبي الدرداء: كان بدمشق رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: ابن الحنظلية...إلى أن قال: ثم مرّ بنا يوما آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك: قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المتفق على الخيل في سبيل الله كباسط يديه بالصدقة لا يقبضها).
[5443]:-عقب أبو حيان في "البحر" على ذلك بقوله: "ولا يتعين كونه مصدرا، ألا ترى إلى قول أبي زيد: إنه من الخيل الخمس فما فوقها".
[5444]:-هذا البيت واحد من ثلاثة أبيات قالها طفيل الغنوي يمدح بها بني جعفر بن كلاب، وهو يصفهم بالشجاعة وبأن من عاداهم فلأمه الويل والثكل. ويُروى: "لله قوم دفعتم في جنوبهم"، وأشار محقق الديوان إلى أن هذه الرواية الثانية في النقائض، وقال محقق تفسير الطبري: "ورأيناها ثمة"- والويل هو الهلاك والعذاب.
[5445]:- يريد: وإن كانت الصفات متقاربة فإنها متغايرة في المعنى، وظاهر اللفظ يقتضي التثنية ولكنا وجدنا النص هكذا في الأصول.
[5446]:- المكتوبة هي لفظ الجلالة.
[5447]:- صاقبه صقابا ومصاقبة: قاربه وواجهه، يقال: جار مصاقب.
[5448]:- قال القرطبي بعد نقل هذه الآراء: "ولا ينبغي أن يقال فيهم شيء، لأن الله سبحانه قال: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} فكيف يدعي أحد علما بهم، إلا أن يصح حديث جاء في ذلك".
[5449]:- تقدمت الإشارة إلى هذا المثل عند تفسير قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} الآية (28) من سورة (آل عمران). وأمرّ: أحكم، والوذم: سير تشدّ به أذن الدلو، وجمعه أوذم وأوذام. ويضرب هذا المثل لمن يحكم الأمر دونه. (مجمع الأمثال للميداني 2/285)
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

عطف جملة : { وأعدوا } على جملة : { فإما تثقفنهم في الحرب } [ الأنفال : 57 ] أو على جملة : { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا } [ الأنفال : 59 ] ، فتفيد مفاد الاحتراس عن مُفادها ، لأنّ قوله : { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا } يُفيد توهيناً لشأن المشركين ، فتعقيبه بالأمر بالاستعداد لهم : لئلا يحسب المسلمون أنّ المشركين قد صاروا في مكنتهم ، ويلزم من ذلك الاحتِراسسِ أنّ الاستعداد لهم هو سبب جعْل اللَّهِ إيّاهم لا يُعجزون اللَّهَ ورسوله ، لأنّ الله هيّأ أسباب استئصالهم ظاهرها وباطنها .

والإعداد التهيئة والإحضار ، ودخل في { ما استطعتم } كلّ ما يدخل تحت قدرة الناس اتّخاذه من العُدّة .

والخطاب لجماعة المسلمين ووُلاَة الأمر منهم ، لأنّ ما يراد من الجماعة إنّما يقوم بتنفيذه وُلاَة الأمور الذين هم وكلاء الأمّة على مصالحها .

والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها وقد تقدّمت آنفاً عند قوله : { إن الله قوي شديد العقاب } [ الأنفال : 52 ] وعند قوله تعالى : { فخذها بقوة } وتطلق القوة مجازاً على شدّة تأثير شيء ذي أثر ، وتطلق أيضاً على سبب شدّة التأثير ، فقوة الجيش شدة وقعه على العدوّ ، وقوته أيضاً سلاحه وعتاده ، وهو المراد هنا ، فهو مجاز مرسل بواسطتين ، فاتّخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية ، واتّخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوّة في جيوش عصرنا . وبهذا الاعتبار يُفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال « ألاَ إنّ القوة الرمي » قالها ثلاثاً ، أي أكمل أفراد القوة آلةُ الرمي ، أي في ذلك العصر . وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي .

وعطف { رباط الخيل } على { القوة } من عطف الخاصّ على العام ، للاهتمام بذلك الخاصّ .

و { الرباط } صيغة مفاعلة أُتِيَ بها هنا للمبالغة لتدلّ على قصد الكثرة من ربط الخيل للغزو ، أي احتباسها وربطها انتظاراً للغزو عليها ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم « من ارتبط فرساً في سبيل الله كان روثُها وبولها حسنات له » الحديث . يقال : ربط الفرس إذا شدّه في مكان حفظه ، وقد سَمَّوا المكان الذي ترتبط فيه الخيل رباطاً ، لأنّهم كانوا يحرسون الثغور المخوفة راكبين على أفراسهم ، كما وصف ذلك لبيد في قوله :

ولقد حمَيت الحَي تحملُ شِكَّتي *** فُرُطٌ وِشَاحِي إنْ ركبتُ زمامُها

إلى أن قال :

حتّى إذا ألْقَتْ يداً في كافــر *** وأجَنَّ عوراتِ الثغور ظَلامها

أسْهلتُ وانتصبت كجِذْع مُنيفة *** جرداءَ يَحْصَر دونها جُرَّامها

ثم أُطلق الرباط على مَحرس الثغر البحري ، وبه سَمَّوا رِباط ( دمياط ) بمصر ، ورباط ( المُنستير ) بتونس ، ورباط ( سَلا ) بالمغرب الأقصى .

وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } في سورة [ آل عمران : 200 ] .

وجملة : ترهبون به عدو الله وعدوكم } إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً ، ناشئاً عن تخصيص الرباط بالذكر بعد ذكر ما يعمّه ، وهو القوة ، وإمّا في موضع الحال من ضمير { وأعدّوا } .

وعدو الله وعدوهم : هم المشركون فكان تعريفهم بالإضافة ، لأنّها أخصر طريق لِتعريفهم ، ولما تتضمنه من وجه قتالهم وإرهابهم ، ومن ذمّهم ، أن كانوا أعداء ربّهم ، ومن تحريض المسلمين على قتالهم إذ عُدُّوا أعداءً لهم ، فهم أعداء الله ؛ لأنّهم أعداء توحيده وهم أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم لأنّهم صارحوه بالعداوة ، وهم أعداء المسلمين ، لأن المسلمين أولياء دين الله والقائمون به وأنصاره ، فعطف { وعَدوَّكم } على { عدوَّ الله } من عطف صفة موصوف واحد مثل قول الشاعر ، وهو من شواهد أهل العربية :

إلى الملك القرم وابن الهما *** م ولَيْثِ الكتيبة في المزدحم

والإرهاب جعل الغير راهباً ، أي خائفاً ، فإنّ العدوّ إذَا علم استعداد عدوّه لقتاله خافه ، ولم يجرأ عليه ، فكان ذلك هناء للمسلمين وأمناً من أن يغزوهم أعداؤهم ، فيكون الغزو بأيديهم : يَغزون الأعداء متى أرادوا ، وكانَ الحال أوفق لهم ، وأيضاً ذا رهبوهم تجنّبوا إعانة الأعداء عليهم .

والمراد ب { الآخرين من دونهم } أعداء لا يعرفهم المسلمون بالتعيين ولا بالإجمال ، وهم من كان يضمر للمسلمين عداوة وكيداً ، ويتربّص بهم الدوائر ، مثل بعض القبائل . فقوله : { لا تعلمونهم } أي لم تكونوا تعلمونهم قبل هذا الإعلام ، وقد علمتموهم الآن إجمالاً ، أو أريد : لا تعلمونهم بالتفصيل ، ولكنّكم تعلمُون وجودهم إجمالاً مثل المنافقين ، فالعلم بمعنى المعرفة ، ولهذا نصب مفعولاً واحداً .

وقوله : { من دونهم } مؤذن بأنّهم قبائل من العرب كانوا ينتظرون ما تنكشف عنه عاقبة المشركين من أهل مكة من حربهم مع المسلمين ، فقد كان ذلك دأب كثير من القبائل كما ورد في السيرة ، ولذلك ذكر { من دونهم } بمعنى : من جهات أخرى ، لأنّ أصل ( دون ) أنّها للمكان المخالف ، وهذا أولى من حمله على مطلق المغايرة التي هي من إطلاقات كلمة ( دون ) لأنّ ذلك المعنى قد أغنى عنه وصفهم ب { آخرين } .

وجملة { اللَّه يعلمهم } تعريض بالتهديد لهؤلاء الآخرَين ، فالخبر مستعمل في معناه الكنائي ، وهو تعقُّبهم والإغراءُ بهم ، وتعريض بالامتنان على المسلمين بأنّهم بمحل عناية الله فهو يُحصي أعداءهم وينبّههم إليهم .

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي : للتقوّي ، أي تحقيق الخبر وتأكيده ، والمقصود تأكيد لازم معناه ، أمّا أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد إذ لا ينكره أحد ، وأمّا حمل التقديم هنا على إرادة الاختصاص فلا يحسن للاستغناء عن طريق القصر بجملة النفي في قوله : { لا تعلمونهم } فلو قيل : ويعلّمهم الله لحصل معنى القصر من مجموع الجملتين .

وإذ قد كان إعداد القوَّةِ يستدعي إنفاقاً ، وكانت النفوس شحيحة بالمال ، تكفّل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه ، فقال : { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم } فسبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمته .

والتوفية : أداء الحقّ كاملاً ، جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله ، وجعل على الإنفاق جزاء ، فسمّى جزاءَه توفية على طريقة الاستعارة المكنية ، وتدلّ التوفية على أنّه يشمل الأجرَ في الدنيا مع أجر الآخرة ، ونقل ذلك عن ابن عباس .

وتعدية التوفية إلى الإنفاق بطريق بناء للفعل للنائب ، وإنّما الذي يوفّى هو الجزاء على الإنفاق في سبيل الله ، للإشارة إلى أنّ الموفَّى هو الثواب . والتوفية تكون على قدر الإنفاق وأنّها مثله ، كما يقال : وفَّاه دينه ، وإنّما وفّاه مماثلاً لديْنه . وقريب منه قولهم : قَضى صلاة الظهر ، وإنّما قضى صلاة بمقدارها فالإسناد : إمّا مجاز عقلي ، أو هو مجاز بالحذف .

والظلم : هنا مستعمل في النقص من الحقّ ، لأنّ نقص الحقّ ظلم ، وتسمية النقص من الحقّ ظلماً حقيقة . وليس هو كالذي في قوله تعالى : { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً } [ لكهف : 33 ] .