معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

قوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم } ، أي : مالوا إلى الصلح .

قوله تعالى : { فاجنح لها } ، أي : مل إليها وصالحهم ، روي عن قتادة والحسن : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }

قوله تعالى : { وتوكل على الله } ثق بالله .

قوله تعالى : { إنه هو السميع العليم } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

55

والحكم الثالث في هذه النصوص هو الحكم المتعلق بمن يريدون المهادنة والموادعة للمعسكر الإسلامي ؛ ويجنحون إلى السلم والمسالمة ؛ وتدل ظواهرهم وأفعالهم على رغبتهم في السلم حقاً :

( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ، وتوكل على الله . إنه هو السميع العليم ) .

والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح ، تعبير لطيف ، يلقي ظل الدعة الرقيق . فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم ، ويرخي ريشه في وداعة ! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر . وفي التوكل عليه الكفاية والأمان .

وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله [ ص ] وموقفه كذلك منهم ، أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم ، يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله [ ص ] ولم يقاتله ؛ وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية ، ولا للدولة المسلمة . وقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يترك هذا الفريق ، وأن يقبل مهادنته ومسالمته [ وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد ، أو كان له عهد غير موقت ، مدة أربعة أشهر ، يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه ] ومن ثم فهو ليس حكماً نهائياً على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجرداً عن هذه الملابسات ، ومجرداً كذلك عن النصوص التالية له في الزمن ، وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله [ ص ] .

ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه . فقد عمل رسول الله [ ص ] به - حتى نزلت سورة براءة - ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة . .

ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائياً ودائماً ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية . . ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي ؛ فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة ، وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر ؛ ولم تكن أحكام الجزية موجودة . والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي ، أن يقال : إن هذا الحكم ليس نهائياً ؛ وأنه عدل أخيراً بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة [ التوبة ] والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام : إما محاربين يحاربون . وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله . وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا . . وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي . وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية ، وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم ورواه الإمام أحمد :

قال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن يزيد ، عن أبيه ، عنيزيد بن الخطيب الأسلمي - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله [ ص ] إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، وبمن معه من المسلمين خيراً ، وقال : " اغزوا باسم الله . في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال ، أو خلال ، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية . فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " . .

والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين ، مع ذكر الجزية . . والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح ؛ وبعد الفتح لم تعد هجرة [ بالقياس إلى الجماعة المسلمة الاولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن ] والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة ؛ وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية . فقبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس ، وهم مثلهم في الشرك ؛ ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم . وهو فيما ذكر قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد [ أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك ، وروى غيره عن أبي حنيفة ] :

وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه ، أن قول الله تعالى :

( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ، إنه هو السميع العليم ) . .

لا يتضمن حكماً مطلقاً نهائياً في الباب ، وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة . إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد تعاهد ، أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين . وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة . فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية - وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم - أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا ؛ ليكون الدين كله لله .

ولقد استطردت - بعض الشيء - في هذا البيان وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن " الجهاد في الإسلام " ؛ فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم ؛ ويستكثرون على دينهم - الذي لا يدركون حقيقته - أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث : الإسلام ، أو الجزية ، أو القتال ، وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه ؛ وأهله - الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعوراً جدياً - ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى ؛ كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة ؛ ولا حول لهم في الأرض ولا قوة . . وعندئذ يعمد أولئك الكتاب إلى لَيِّ أعناق النصوص ليؤلوها تأويلاً يتمشى مع ضغط الواقع وثقله ؛ ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته !

إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية ، فيجعلون منها نصوصاً نهائية ؛ وإلى النصوص المقيدة بحالات خاصة ، فيجعلون منها نصوصاً مطلقة الدلالة ؛ حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوصالمقيدة المرحلية ! وذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين ، وعن دار الإسلام عندما تهاجم ! وأن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسالمة . والمسالمة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام ! إن الإسلام - في حسهم - يتقوقع ، أو يجب أن يتقوقع داخل حدوده - في كل وقت - وليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه ، ولا بالخضوع لمنهج الله ، اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان ! أما القوة المادية - الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس - فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه ، فيتحرك حينئذ للدفاع !

ولو أراد هؤلاء المهزومون روحياً وعقلياً أمام ضغط الواقع الحاضر ، أن يلتمسوا في أحكام دينهم ما يواجه هذا الواقع - دون ليّ لأعناق النصوص - لوجدوا فيه هذه الواقعية الحركية في أحكامه وتصرفاته المرحلية التي كان يواجه بها ضغط الواقع المشابه لما نواجهه نحن اليوم ؛ ولاستطاعوا أن يقولوا : إنه في مثل هذه الحال كان الإسلام يتصرف على هذا النحو ، ولكن هذه ليست هي القواعد الدائمة ؛ إنما هي الأحكام والتصرفات التي تواجه الضرورة .

وهذه أمثلة ونماذج من الأحكام والتصرفات المرحلية في أوقات الضرورات :

لقد عقد رسول الله [ ص ] أول مقدمه المدينة مع اليهود حول المدينة والمشركين عهداً على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة . مع التسليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة رسول الله [ ص ] والتعهد منهم بالدفاع عن المدينة معه ضد قريش ، والكف عن مناصرة أي مهاجم للمدينة ، أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من رسول الله [ ص ] وفي الوقت ذاته أمره الله أن يقبل السلم ممن يجنحون إلى السلم ، وإن كانوا لا يعقدون معه عهداً ، وأن يوادعهم ما وادعوه . . . ثم تغير هذا كله فيما بعد كما ذكرنا .

ولما كانت غزوة الخندق ؛ وتجمع المشركون على المدينة ؛ ونقضت بنو قريظة العهد ؛ وخاف رسول الله [ ص ] على المسلمين ؛ عرض على عيينة بن حصن الفزاري ، والحارث بن عوف المري رئيس غطفان الصلح على ثلث ثمار المدينة ، وأن ينصرفا بقومهما ويدعا قريشاً وحدها . وكانت هذه المقالة من رسول الله [ ص ] لهما مراوضة ولم تكن عقداً . فلما رأى رسول الله [ ص ] منهما أنهما قد رضيا ، استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا : يا رسول الله ، هذا أمر تحبه فنصنعه لك ? أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ? او أمر تصنعه لنا ? فقال : " بل أمر أصنعه لكم ، فان العرب قد رمتكم عن قوس واحدة " فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان ، ولا نعبد الله ولا نعرفه ، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة ، إلا شراء أو قرى . فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فسر بذلك رسول الله [ ص ] وقال : " أنتم وذاك " وقال لعيينة والحارث : " انصرفا ، فليس لكما عندنا إلا السيف " . . فهذا الذي فكر فيه رسول الله [ ص ] إجراء لمواجهة الضرورة . . وليس حكماً نهائياً . .

وعقد رسول الله مع مشركي قريش صلح الحديبية - وهم على شركهم - بشروط لم يسترح إليها المسلمون ، وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض ، وأن يرجع عنهم عامه ذلك ، حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثاً ، وألا يدخلها إلا بسلاح الراكبوالسيوف في القرب ، وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردوه ، ومن أتاه من أصحاب المشركين رده . . . وقد رضي رسول الله [ ص ] بما ألهمه الله - هذه الشروط ، التي تبدو في ظاهرها مجحفة ، لأمر يريده الله ألهم به رسوله . . وفيها متسع - على كل حال - لمواجهة الظروف المشابهة ؛ تتصرف من خلاله القيادة المسلمة . .

إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائماً بوسائل مكافئة ، وهو منهج متحرك مرن ، ولكنه متين واضح ، والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى ليّ أعناق النصوص وتأويلها تأويلات تأباها ! وإنما المطلوب هو تقوى الله ، والتحرج من تطويع دينه لواقع الشر الجاهلي ، والهزيمة به والوقوف به موقف الدفاع ، وهو دين مسيطر حاكم ، يلبي - وهو في مركز الاستعلاء والمبادأة - كل حاجات الواقع وضروراته والحمد للّه .

وعندما أمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يقبل موادعة من وادعوه ، وأن يجنح للسلم معهم متى جنحوا إليه ؛ وجهه إلى التوكل عليه ، وطمأنه إلى إحاطته سبحانه بسرائر القوم المخبوءة :

( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ، إنه هو السميع العليم ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

وقوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } الآية ، الضمير في { جنحوا } هو للذين نبذ إليهم على سواء ، وجنح الرجل إلى الأمر إذا مال إليه وأعطى يده فيه ، ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة{[5450]} وللخباء جناح وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير وقال ذو الرمة :

إذا مات فوق الرحل أحييت روحه*** بذكراك والعيس المراسيل جنح{[5451]}

وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه{[5452]} على الأرض ومنه قول النابغة : [ الطويل ]

جوانح قد أيقنَّ أن قبيله*** إذا ما التقى الجمعان أول غالب{[5453]}

أي موائل ، وقال لبيد : [ الوافر ]

جنوح الهالكيِّ على يديه*** مكبّاً يجتلي نُقَبَ النصال{[5454]}

وقرأ جمهور الناس «للسَّلم » بفتح السين وشدها وقرأ عاصم في رواية بكر «للسِّلم » بكسرها وشدها هما لغتان في المسالمة ، ويقال أيضاً «السَّلَم » بفتح السين واللام ولا أحفظها قراءة ، وقرأ جمهور الناس «فاجنَح » بفتح النون وهي لغة تميم ، وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنُح » وهي لغة قيس بضم النون ، قال أبو الفتح وهذه القراءة هي القياس ، لأن فعل إذا كان غير متعد فمستقبله{[5455]} يفعل بضم العين أقيس قعد يقعد أقيس من جلس يجلس ، وعاد الضمير في { لها } مؤنثاً إذ السلم بمعنى المسالمة والهدنة ، وقيل السلم مؤنثة كالحرب ذكره النحاس ، وقال أبو حاتم يذكر السلم ، وقال قتادة والحسن بن أبي الحسن وعكرمة وابن زيد : هذه الآية منسوخة بآيات القتال في براءة{[5456]} .

قال القاضي أبو محمد : وقد يحتمل ألا يترتب نسخها بأن يعني بهذه من تجوز مصالحته وتبقى تلك في براءة في عبدة الأوثان وإلى هذا ذهب الطبري وما قالته الجماعة صحيح أيضاً إذا كان الجنوح إلى سلم العرب مستقراً في صدر الإسلام فنسخت ذلك آية براءة ونبذت إليهم عهودهم ، وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون }{[5457]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد من أن يقوله ابن عباس رضي الله عنه ، لأن الآيتين مبينتان ، وقوله { وتوكل على الله } أمر في ضمنه وعد .


[5450]:- الحُشوة بضم الحاء وبكسرها: الأمعاء.
[5451]:- الرّحل: ما يوضع فوق ظهر البعير للركوب عليه. والعيس: الإبل البيض، والمراسيل: سهلة السير التي تعطيك ما عندها عفوا دون إجهاد لها أو لك، وجنّح: مائلة صدورها إلى الأرض، وقيل: مائلة في سيرها من النشاط، يريد أنه يغني بأشعاره فيحي روحه.
[5452]:- الإطناب: جمع طنب بضمتين، والطنب: حبل الخباء، يقال: خباء مطنب ورواق مطنّب، أي مشدود بالأطناب.
[5453]:- البيت في وصف الطيور التي تتبع الجيش، ويوضح هذا البيت الذي قبله، وفيه يقول: إذا ما غزا بالجيش أبصرت فوقه عصائب طير تهتدي بعصائب والقبيل: الجماعة من قوم شتى تكون من الثلاثة فصاعدا، وقد فسر ابن عطية رحمه الله كلمة "جوانح".
[5454]:- البيت مع الأبيات السابقة عليه في وصف ثور وحشي ناشط كثير الحركة ضلّ عن القطيع الذي كان يرعى معه، وبات في حمى بعض الأشجار يحرك قرنه كلما تحركت أغصان الشجر أو قطرت على ظهره، وقد أكبّ كما يكبّ الصيقل الذي يشحذ السيوف، ومعنى جنوح: إكباب، أي أكبّ مثل إكباب، والهالكي: الصيقلي الذي يشحذ السيوف على يديه أو يصنعها، ويجلتى: يجلو، والنقب: الصدأ الذي ظهر في النصال. والصورة التي عرضها لبيد في هذه الأبيات وما تبعها من معركة بين الثور والكلاب من روائع الصور في الشعر العربي.
[5455]:- أي: مضارعه.
[5456]:- كقوله تعالى في الآية (5): {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله في الآية (36): {وقاتلوا المشركين كافة}.
[5457]:- من الآية (35) من سورة (محمد).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

انتقال من بيان أحوال معاملة العدوّ في الحرب : من وفائهم بالعهد ، وخيانتهم ، وكيف يحلّ المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم ، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين ، والأمر بالاستعداد لهم ؛ إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة ، وكفّوا عن حالة الحرب . فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم .

والجنوح : المَيْل ، وهو مشتقّ من جناح الطائِر : لأنّ الطائِر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه ، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه ، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش :

قد أيقنَّ أنّ قبيلَه *** إذا ما التقى الجمعان أوَّلُ غالب

فمعنى { وإن جنحوا للسلم } إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه ، كما يميل الطائِر الجانح . وإنّما لم يقل : وإن طلبوا السلم فأجبهم إليهم ، للتنبيه على أنّه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب ، لأنّهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيداً ، فهذا مقابل قوله : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } [ الأنفال : 58 ] فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم .

واللام في قوله : { للسلم } واقعة موقع ( إلى ) لتقوية التنبيه على أنّ ميلهم إلى السلم ميل حق ، أي : وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره ، لأنّ حقّ { جَنح } أن يعدّى ب ( إلى ) لأنّه بمعنى مال الذي يعدّى بإلى فلا تكون تعديته باللام إلاّ لغرض ، وفي « الكشّاف » : أنّه يقال جنح له وإليه .

والسلم بفتح السين وكسرها ضدّ الحرب . وقرأه الجمهور بالفتح ، وقرأه حمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف بكسر السين وحقّ لفظه التذكير ، ولكنّه يؤنّث حملاً على ضدّه الحرب وقد ورد مؤنّثاً في كلامهم كثيراً .

والأمر بالتوكّل على الله ، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم ، ليكون النبي صلى الله عليه وسلم معتمداً في جميع شأنه على الله تعالى ، ومفوّضاً إليه تسيير أموره ، لتكون مدّة السلم مدّة تقوّ واستعداد ، وليكفيه الله شرّ عدوّه إذا نقضوا العهد ، ولذلك عُقب الأمر بالتوكّل بتذكيره بأنّ الله السميع العليم ، أي السميع لكلامهم في العهد ، العليمُ بضمائرهم ، فهو يعاملهم على ما يعلم منهم . وقوله : { فاجنح لها } جيء بفعل { اجنح } لمشاكلة قوله { جنحوا . . . } .

وطريق القصر في قوله : { هو السميع العليم } أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم ، أي : فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم . وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله تعالى عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكّل عليه لا على غيره . وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدوّ : دليل بَيِّن على أنّ التوكّل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء ، فتعاطي الأسباب فيما هي من مقدور الناس ، والتوكّل فيما يخرج عن ذلك .

واعلم أنّ ضمير جمع الغائبين في قوله : { وإن جنحوا للسلم } وقع في هذه الآية عقب ذكر طوائف في الآيات قبلَها ، منهم مشركون في قوله تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } [ الأنفال : 48 ] ، ومنهم من قيل : إنّهم من أهل الكتاب ، ومنهم من تردّدت فيهم أقوال المفسّرين : قيل : هم من أهل الكتاب ، وقيل : هم من المشركين ، وذلك قوله : { إن شر الدوآب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم } [ الأنفال : 55 ، 56 ] الآية . قيل : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، وقيل : هم من المشركين ، فاحتمل أن يكون ضمير { جنحوا } عائداً إلى المشركين . أو عائداً إلى أهل الكتاب ، أو عائداً إلى الفريقين كليهما .

فقيل : عاد ضمير الغيبة في قوله : { وإن جنحوا للسلم } إلى المشركين ، قاله قتادة ، وعكرمة ، والحسن ، وجابر بن زيد ، ورواه عطاء عن ابن عبّاس ، وقيل : عاد إلى أهل الكتاب ، قاله مجاهد .

فالذين قالوا : إنّ الضمير عائِد إلى المشركين ، قالوا : كان هذا في أوّل الأمر حين قلّة المسلمين ، ثم نسخ بآية سورة براءة ( 5 ) { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } الآية . ومن قالوا الضمير عائد إلى أهل الكتاب قالوا هذا حكم باق ، والجنوح إلى السلم إمّا بإعطاء الجزية أو بالموادعة .

والوجه أن يعود الضمير إلى صنفي الكفار : من مشركين وأهل الكتاب ، إذ وقع قبله ذكر الذين كفروا في قوله : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } [ الأنفال : 55 ] فالمشركون من العرب لا يقبل منهم إلاّ الإسلام بعد نزول آية براءة ، فهي مخصّصة العمومَ الذي في ضمير { جنحوا } أو مبيّنة إجمالَه ، وليست من النسخ في شيء . قال أبو بكر بن العربي : « أما من قال إنها منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] فدعوى ، فإنّ شروط النسخ معدومة فيها كما بيّنّاه في موضعه » .

وهؤلاء قد انقضى أمرهم . وأمّا المشركون من غيرهم ، والمجوس ، وأهل الكتاب ، فيجري أمر المهادنة معهم على حسب حال قوّة المسلمين ومصالحهم وأنّ الجمع بين الآيتين أوْلى : فإن دَعَوا إلى السلم قبل منهم ، إذا كان فيه مصلحة للمسلمين . قال ابن العربي : فإذا كان المسلمون في قوّة ومنعة وعدّة :

فلاَ صلح حتى تُطعَن الخيل بالقنا *** وتضربَ بالبيض الرقاقِ الجماجمُ

وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به أو ضرّ يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدىء المسلمون به إذا احتاجوا إليه ، وأن يجيبوا إذا دُعوا إليه . قد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبر ، ووادع الضمري ، وصالح أكيد رَدُومة ، وأهلَ نجران ، وهادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نَقضوا عهده » .

أمّا ما همّ به النبي صلى الله عليه وسلم من مصالحة عُيَينة بن حصن ، ومن معه ، على أن يعطيهم نصف ثِمار المدينة فذلك قدْ عدَل عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قال سعد بن عبادة ، وسعد بن مُعاذ ، في جماعةِ الأنصار : لا نعطيهم إلاّ السيف .

فهذا الأمر بقبول المهادنة من المشركين اقتضاه حال المسلمين وحاجتهم إلى استجمام أمورهم وتجديد قوتهم ، ثم نسخ ذلك ، بالأمر بقتالهم المشركين حتى يؤمنوا ، في آيات السيف . قال قتادة وعِكرمة : نَسختْ براءة كلّ مواعدة وبقي حكم التخيير بالنسبة لمن عدا مشركي العرب على حسب مصلحة المسلمين .