قوله تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة . { يأمرون بالمعروف } ، بالإيمان والطاعة والخير ، { وينهون عن المنكر } ، عن الشرك والمعصية وما لا يعرف في الشرع ، { ويقيمون الصلاة } ، المفروضة . { ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم }
وفي مقابل المنافقين والكفار ، يقف المؤمنون الصادقون . طبيعة غير الطبيعة ، وسلوكاً غير السلوك ، ومصيراً غير المصير :
( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ؛ ويطيعون اللّه ورسوله . أولئك سيرحمهم اللّه ، إن اللّه عزيز حكيم . وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، ومساكن طيبة في جنات عدن ، ورضوان من الله أكبر . ذلك هو الفوز العظيم ) .
إذا كان المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض . إذا كانوا جبلة واحدة وطبيعة واحدة . . فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض . إن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض . فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف . وطبيعة النفاق تأبى هذا كله ولو كان بين المنافقين أنفسهم . إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل ، وليسوا جماعة متماسكة قوية متضامنة ، على ما يبدو بينهم من تشابه في الطبيعة والخلق والسلوك . والتعبير القرآني الدقيق لا يغفل هذا المعنى في وصف هؤلاء وهؤلاء . .
( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) . .
( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) . .
إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة . طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل ، وطبيعة التضامن ، ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر .
( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) . . وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون . ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفاً واحداً . لا تدخل بينها عوامل الفرقة . وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولا بد عنصر غريب عن طبيعتها ، وعن عقيدتها ، هو الذي يدخل بالفرقة . ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها . السمة التي يقررها العليم الخبير
( بعضهم أولياء بعض ) . . يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإعلاء كلمة اللّه ، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض .
الفريضة التي تربط بين الجماعة المسلمة ، وتحقق الصورة المادية والروحية للولاية والتضامن ( ويطيعون اللّه ورسوله ) . .
فلا يكون لهم هوى غير أمر اللّه وأمر رسوله ، ولا يكون لهم دستور إلا شريعة اللّه ورسوله . ولا يكون لهم منهج إلا دين اللّه ورسوله ، ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى اللّه ورسوله . . وبذلك يوحدون نهجهم ويوحدونهدفهم ويوحدون طريقتهم ، فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم .
والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها ، إنما تكون في هذه الأرض أولاً ورحمة اللّه تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ؛ وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح . رحمة اللّه في اطمئنان القلب ، وفي الاتصال باللّه ، وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث . ورحمة اللّه في صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة واطمئنانه لرضاء اللّه .
إن هذه الصفات الأربع في المؤمنين : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لتقابل من صفات المنافقين : الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان اللّه وقبض الأيدي . . وإن رحمة اللّه للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار . . وإن تلك الصفات لهي التي وعد اللّه المؤمنين عليها بالنصر والتمكين في الأرض ليحققوها في وصايتهم الرشيدة على البشرية :
قادر على إعزاز الفئة المؤمنة ليكون بعضها أولياء بعض في النهوض بهذه التكاليف ، حكيم في تقدير النصر والعزة لها ، لتصلح في الأرض ، وتحرس كلمة اللّه بين العباد .
ولما فرغ من ذكر المنافقين بالأشياء التي ينبغي أن تصرف عن النفاق وتنهي عنه عقب ذلك بذكر المؤمنين بالأشياء التي ترغب في الإيمان وتنشط إليه تلطفاً منه تعالى بعباده لا رب غيره ، وذكرت هنا «الولاية » إذ لا ولاية بين المنافقين لا شفاعة لهم ولا يدعو بعضهم لبعض وكان المراد هنا الولاية في الله خاصة ، وقوله { بالمعروف } يريد بعبادة الله وتوحيده وكل ما اتبع ذلك ، وقوله { عن المنكر } يريد عن عبادة الأوثان وكل ما اتبع ذلك ، وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف فهو دعاء من الشرك إلى الإسلام وكل ما ذكر من النهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين ، وقال ابن عباس في قوله { ويقيمون الصلاة } هي الصلوات الخمس .
قال القاضي أبو محمد : وبحسب هذا تكون { الزكاة } المفروضة ، والمدح عندي بالنوافل أبلغ ، إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرض ، وقوله { ويطيعون الله ورسوله } جامع للمندوبات ، والسين في قوله { سيرحمهم } مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تنعم برجائه ، وفضله تعالى زعيم بالإنجاز .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأما المؤمنون والمؤمنات، وهم المصدّقون بالله ورسوله وآيات كتابه، فإن صفتهم أن بعضهم أنصار بعض وأعوانهم. "يَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ "يقول: يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله، وبما جاء به من عند الله. "وَيُقيِمُونَ الصّلاةَ" يقول: ويؤدّون الصلاةَ المفروضة. "وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ" يقول: ويعطون الزكاة المفروضة أهلَها. "وَيُطيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ" فيأتمرون لأمر الله ورسوله وينتهون عما نهيناهم عنه. "أُولَئِكَ سَيرْحَمُهُمُ اللّهُ" يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم الذين سيرحمهم الله، فينقذهم من عذابه ويدخلهم جنته، لا أهل النفاق والتكذيب بالله ورسوله، الناهون عن المعروف، الآمرون بالمنكر، القابضون أيديهم عن أداء حقّ الله من أموالهم. "إنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" يقول: إن الله ذو عزّة في انتقامه ممن انتقم من خلقه على معصيته وكفره به، لا يمنعه من الانتقام منه مانع ولا ينصره منه ناصر، حكيم في انتقامه منهم في جميع أفعاله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) على الإيجاب و الإخبار أن الدين الذي اعتقدوا وتمسكوا به يوجب لهم الولاية ويصير بعضهم أولياء بعض كقوله: (إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) الآية [آل عمران: 103] وقوله (إنما المؤمنون إخوة) [الحجرات: 10] ونحوه، فهي أخوة الدين وولايته. ويحتمل قوله: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) على الأمر؛ أي اتخذوا بعضكم أولياء بعض ولا تتخذوا غيركم أولياء،كقوله: (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) [المائدة: 51]. وقوله: (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) [الممتحنة: 1] نهى المؤمنين أن يتخذوا أولياء من غيرهم فكأنه أمر أن يتخذ المؤمنون بعضهم بعضا أولياء، ولا يتخذوا من غيرهم. ثم تحتمل الولاية وجهين: أحدهما: ولاية روحانية وهي ولاية في الدين توجب مراعاة حقوق تحدث بالدين الذي جمعهم وحفظها.
والثانية: ولاية نفسانية هي الولاية التي تكون في الأنفس والأموال من نحو ولاية النكاح والميراث وغيره؛ فهذه الولاية هي الولاية النفسانية التي كانت بالرحم و النسب فإذا اجتمعوا في دين واحد وجبت تلك الولاية لهم، وهو الولاية نفسها. والولاية الروحانية هي المحبة والمودة...
وقوله تعالى: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) يحتمل المعروف الذي توجبه العقول، وهو التوحيد لله والإيمان به، (وينهون عن المنكر) ينهون عما تنكره العقول، وهو الشرك بالله والتكذيب له. وهذا الأمر بالمعروف والنهي والمنكر هو في ما بين الكفرة، يأمرهم المؤمنون بذلك، ويدعونهم إلى ذلك، وينهون عن ضد ذلك. وإن كان في ما بين المؤمنين، فهو أمر شرع، يأمر بعضهم بعضا بما جاء به الشرع، وينهاه عن ما لم يجئ به الشرع، أو يأمر بعضهم بعضا بكل خير وبر وينهى عن كل شر ومعصية.
وقوله تعالى: (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) في كل أمره ونهيه.
(أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ) وعد أنه يرحمهم.
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قيل: (عزيز) ترى آثار عزه في كل شيء (حكيم) ترى آثار رحمته وتدبيره في كل شيء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لما ذكر الله تعالى المنافقين ووصفهم بأن بعضهم من بعض بالاتفاق والتعاضد اقتضى أن يذكر المؤمنين ويصفهم بضد أوصافهم، فقال تعالى "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض "أي يلزم كل واحد منهم نصرة صاحبه وأن يواليه... وإذا قلنا: المؤمن ولي الله معناه أنه ينصر أولياء الله وينصر دينه، والله وليه بمعنى أولى بتدبيره وتصريفه وفرض طاعته عليه.
ثم قال "يأمرون بالمعروف" يعني المؤمنين يأمرون بما أوجب الله فعله أو رغب فيه عقلا أو شرعا وهو المعروف "وينهون عن المنكر" وهو ما نهى الله تعالى عنه وزهد فيه إما عقلا أو شرعا. ويضيفون إلى ذلك إقامة الصلاة أي إتيانها بكمالها والمداومة عليها ويخرجون زكاة أموالهم حسب ما أوجبها الله عليهم، ويضعونها حيث أمر الله بوضعها فيه، "ويطيعون الله ورسوله" أي يمتثلون أمرهما ويتبعون إرادتهما ورضاهما.
ثم قال "أولئك سيرحمهم الله" يعني المؤمنين الذين وصفهم أن ستنالهم في القيامة رحمته. ثم أخبر عن نفسه فقال "إن الله عزيز حكيم" فالعزيز معناه قادر لا يغلبه أحد من الكفار والمنافقين، حكيم في عقاب المنافقين وإثابة المؤمنين وغير ذلك من الأفعال. وإنكار المنكر يجب بلا خلاف سمعا، وعليه الإجماع، وكذلك الأمر بالمعروف واجب... وفي الآية دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الأعيان لأن الله تعالى جعل ذلك من صفات المؤمنين، ولم يخص قوما دون قوم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يُعين بعضُهم بعضاً على الطاعات، ويتواصَوْن بينهم بترك المحظورات؛ فَتَحَابُّهم في الله، وقيامُهم بحقِّ الله، وصحبتُهم لله، وعداوتُهم لأجْلِ الله؛ تركوا حظوظَهم لحقِّ الله؛ وآثروا على هواهم رِضاءَ الله. أولئك الذين عَصَمَهم اللهُ في الحالِ، وسيرحمهم في المآل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} في مقابلة قوله في المنافقين: {بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ}. {سَيَرْحَمُهُمُ الله} السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك يوماً، تعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونحوه {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً}... {عَزِيزٌ} غالب على كل شيء قادر عليه، فهو يقدر على الثواب والعقاب {حَكِيمٌ} واضع كلا موضعه على حسب الاستحقاق...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما فرغ من ذكر المنافقين بالأشياء التي ينبغي أن تصرف عن النفاق وتنهى عنه، عقب ذلك بذكر المؤمنين بالأشياء التي ترغب في الإيمان وتنشط إليه تلطفاً منه تعالى بعباده لا رب غيره، وذكرت هنا «الولاية» إذ لا ولاية بين المنافقين ولا شفاعة لهم ولا يدعو بعضهم لبعض، وكان المراد هنا الولاية في الله خاصة، وقوله: {بالمعروف} يريد بعبادة الله وتوحيده وكل ما اتبع ذلك، وقوله {عن المنكر}: يريد عن عبادة الأوثان وكل ما اتبع ذلك...
اعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف المنافقين بالأعمال الفاسدة والأفعال الخبيثة، ثم ذكر عقيبه أنواع الوعيد في حقهم في الدنيا والآخرة، ذكر بعده في هذه الآية كون المؤمنين موصوفين بصفات الخير وأعمال البر، على ضد صفات المنافقين، ثم ذكر بعده في هذه الآية أنواع ما أعد الله لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم، فأما صفات المؤمنين فهي قوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}. فإن قيل: ما الفائدة في أنه تعالى قال في صفة المنافقين و {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} وههنا قال في صفحة المؤمنين: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فلم ذكر في المنافقين لفظ {من} وفي المؤمنين لفظ {أولياء}. قلنا: قوله في صفة المنافقين {بعضهم من بعض} يدل على أن نفاق الأتباع، كالأمر المتفرع على نفاق الأسلاف، والأمر في نفسه كذلك، لأن نفاق الأتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر، وبسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة، أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل والعادة، بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية، فلهذا السبب قال تعالى في المنافقين: {بعضهم من بعض} وقال في المؤمنين: {بعضهم أولياء بعض}.
واعلم أن الولاية ضد العداوة، وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأصل في لفظ الولاية القرب، ويتأكد ذلك بأن ضد الولاية هو العداوة، ولفظة العداوة مأخوذة من عدا الشيء إذا جاوز عنه. واعلم أنه تعالى لما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض، ذكر بعده ما يجري مجرى التفسير والشرح له فقال: {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله} فذكر هذه الأمور الخمسة التي بها يتميز المؤمن من المنافق، فالمنافق على ما وصفه الله تعالى في الآية المتقدمة يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، والمؤمن بالضد منه. والمنافق لا يقوم إلى الصلاة إلا مع نوع من الكسل والمؤمن بالضد منه. والمنافق يبخل بالزكاة وسائر الواجبات كما قال: {ويقبضون أيديهم} والمؤمنون يؤتون الزكاة، والمنافق إذا أمره الله ورسوله بالمسارعة إلى الجهاد فإنه يتخلف بنفسه ويثبط غيره كما وصفه الله بذلك، والمؤمنون بالضد منهم. وهو المراد في هذه الآية بقوله: {ويطيعون الله ورسوله}.
ثم لما ذكر صفات المؤمنين بين أنه كما وعد المنافقين نار جهنم فقد وعد المؤمنين الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة، فلذلك قال: {أولئك سيرحمهم الله}... ثم قال: {إن الله عزيز حكيم} وذلك يوجب المبالغة في الترغيب والترهيب لأن العزيز هو من لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة، والحكيم هو المدبر أمر عباده على ما يقتضيه العدل والصواب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين سبحانه أن المنافقين بعضهم من بعض وما توعدهم به وما استتبعه من تهديدهم بإهلاك من شابهوه، وختم بما سبب هلاكهم من إصرارهم وعدم اعتبارهم، عطف ببيان حال المؤمنين ترغيباً في التوبة طمعاً في مثل حالهم فقال: {والمؤمنون} {والمؤمنات} أي بما جاءهم عن ربهم {بعضهم أولياء} ولم يقل: من، كما قال في المنافقين: من {بعض} دلالة على أن أحداً منهم لم يقلد أحداً في أصل الإيمان ولا وافقه بحكم الهوى، بل كلهم مصوبون بالذات وبالقصد الأول إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل القطعي على حسب فهم كل أحد منهم، فذلك دليل على صحة إيمانهم ورسوخهم في تسليمهم وإذعانهم؛ ثم بين ولا يتهم بأنهم يد واحدة على من سواهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فقال: {يأمرون} أي كلهم على وجه التعاضد والتناصر {بالمعروف} وهو كل ما عرفه الشرع وأجازه {وينهون} أي كذلك {عن المنكر} لا يحابون أحداً. ولما ذكر الدليل القطعي على صحة الإيمان، أتبعه أفضل العبادات فقال: {ويقيمون الصلاة} أي يوجدونها على صفة تقتضي قيامها بجميع أركانها وشروطها وحدودها مراقبة لربهم واستعانة بذلك على جميع ما ينوبهم {ويؤتون الزكاة} أي مواساة منهم لفقرائهم صلة للخلائق بعد خدمة الخالق، وذلك مواز لقوله في المنافقين {ويقبضون أيديهم} ولما خص أمهات الدين، عم بياناً لأنهم لا ينسون الله طرفة عين بل يذكرونه في كل حال بقوله: {ويطيعون الله} أي الملك الأعظم الذي لا ملك سواه {ورسوله} إشارة إلى حسن سيرتهم وجميل عشرتهم. ولما ذكر مكارم أفعالهم، أتبعه حسن مآلهم فقال: {أولئك} أي العظماء الشأن {سيرحمهم الله} أي المستجمع لصفات الكمال بوعد لا خلف فيه، وهذا مع الجملة قبله مواز لقوله في المنافقين {نسوا الله فنسيهم} وهو إشارة إلى أن الطريق وعر والأمر شديد عسر، فالسائر مضطر إلى الرحمة، وهي المعاملة بعد الغفران بالإكرام، لا قدرة له على قطع مفاوز الطريق إلا بها، ولا وصول له أصلاً من غير سببها. ولما بين أن حال المؤمنين مبني على الموالاة وكانت الموالاة فقيرة إلى الإعانة قال: {إن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {عزيز} أي غالب غير مغلوب بوجه، فهو قادر على نصر من يوالي حزبه وأن ينيله من ثمرات الرحمة ما يريد من غير أن يقدر أحد على أن يحول بينه وبين شيء من ذلك {حكيم} أي فلا يقدر أحد على نقض ما يحكمه وحل ما يبرمه، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين لا يزالون منصورين على كل مفسد ما داموا على هذه الخلال من الموالاة وما معها من حميد الخصال...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... ولاية المؤمنين والمؤمنات بعضهم لبعض في هذه الآية تعم ولاية النصرة، وولاية الأخوة والمودة، ولكن نصرة النساء تكون فيما دون القتال بالفعل، فللنصرة أعمال كثيرة، مالية وبدنية وأدبية، وكان نساء النبي صلى الله عليه سلم ونساء أصحابه يخرجن مع الجيش يسقين الماء ويجهزن الطعام، ويضمدن جراح الجرحى... ونكتة الفرق بين المؤمنين والمنافقين في الوصف المتقابل هنا أن المنافقين لا ولاية بينهم بأخوة تبلغ فضيلة الإيثار، ولا تناصر يبلغ الإقدام على القتال، لأن النفاق شكوك وذبذبة من لوازمهما الجبن والبخل، وهما الخلقان المانعان من التناصر ببذل النفس والمال، بل قصاراه التعاون بالكلام وما لا يشق من الأعمال. وإنما تكون ولاية التناصر بالقتال لأصحاب العقائد الثابتة، والملة الراسخة، سواء كانت حقاً أو باطلة، ولذلك أثبتها القرآن لليهود والنصارى بعض كل منهما لبعض، وللكفار على الإطلاق، ولم يثبتها للمنافقين الخلص بعضهم مع بعض، بل كذب منافقي المدينة في وعدهم لليهود حلفائهم بنصرهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا قاتلوهم في قوله: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} [الحشر: 11، 12]. فهذا ما يتعلق بالمقابلة بين المؤمنين والمنافقين في علاقة بعضهم ببعض، وخلاصته أن المنافقين يشبه بعضهم بعضاً في شكهم وارتيابهم ونفاقهم وآثاره من قول وعمل، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض في الولاية العامة من أخوة ومودة وتعاون وتراحم، حتى شبه النبي صلى الله عليه وسلم جماعتهم بالجسد الواحد، وبالبنيان يشد بعضه بعضا، وولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل، والملة والوطن، وإعلاء كلمة الله عز وجل، وفي آثار ذلك من القول والعمل المضاد لما عليه المنافقون وهو ما يبينه بياناً مستأنفاً بقوله: {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} كما أن المنافقين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وهاتان الصفتان من أخص صفات المؤمنين التي يمتازون بها على المنافقين وعلى غيرهم من الكفار، وهما سياج حفظ الفضائل، ومنع فشو الرذائل، فراجع مزاياهما في تفسير {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [آل عمران: 104]، وقد فضل الله تعالى بهما أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم في قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110] الآية، وورد في فرضيتهما وفوائدهما آيات أخرى وأحاديث حكيمة. {ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} أي يؤدون الصلاة المفروضة وما شاءوا من التطوع على أقوم وجه وأكمله في شروطها وأركانها وآدابها ولا سيما الخشوع لله تعالى وكثرة ذكره فيها، وما يوجبه الإيمان من حضور القلب في مناجاته، ويعطون الزكاة المفروضة عليهم لمن فرضت لهم في الآية الستين من هذه السورة وما وفقوا له من التطوع. وفائدة إقامة هذين الركنين من أركان الإسلام مع الإخلاص في الإيمان قد بينه الله تعالى في قوله: {إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين} [المعارج: 19 26] الآيات، فالصلاة والزكاة علاج لما في جبلة الإنسان من الهلع والجبن الحاجم له عن الإقدام في الدفاع عن الحق وإعلاء كلمة الله، ومن الشح الصادّ له عن الإنفاق في سبيل الله، ولذلك كان المنافقون أجبن الناس وأبخلهم. وقد جعل الله تعالى هذه الأربع غاية للإذن للمؤمنين بقتال من يقاتلونهم ويعادونهم في الدين، وسبباً لنصرهم وتمكينهم في الأرض بالملك والسيادة، إذ قال بعد أول ما نزل من الإذن لهم في القتال {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج: 41]، وبهذه الصفات فتح المسلمون الفتوحات، ودانت لهم الأمم طوعاً، وبتركها سلب أكثر ملكهم، والباقي على وشك الزوال إن لم يتوبوا إلى ربهم، ويرجعوا إلى هداية دينهم، ولا سيما إقامة هذه الأركان منه. وإقامة المؤمنين للصلاة يقابل في صفات المنافقين نسيانهم لله عز وجل، لأن روح الصلاة مراقبة الله تعالى وذكره بالقلب واللسان، ولا فائدة لها بدون ذلك كما قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45]، أي إن ذكره الذي شرعت الصلاة له هو أكبر من كل شيء، إذ به يستحكم للمؤمن ملكة المراقبة لله تعالى في جملة أحواله وأعماله، فينتهي عن الفحشاء والمنكر، وتزكوا نفسه، وتعلو همته، وتكمل شجاعته، ويتم سخاؤه، ونجدته، ولذلك قال: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 14، 15] وقال لموسى عليه السلام {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14]. وإيتاء المؤمنين للزكاة يقابل في صفات المنافقين قوله: {ويقبضون أيديهم}، ولقد كان المنافقون يصلون، ولكنهم لم يكونوا يقيمون الصلاة، وكانوا يزكون وينفقون، ولكن خوفاً أو رياء لا طاعة لله، وقد تقدم في هذا السياق {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54]، وتقدم في سورة النساء {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [النساء: 141]، ومن لم يتدبر هذه الآيات كلها والمقارنة بين صلاة المؤمنين وصلاة المنافقين وزكاتهما لا يفقه حكمة الله تعالى في هذين الركنين اللذين هما أعظم أركان الإسلام، وهذا الفقه لا يجده طالبه فيما يسميه الناس كتب الفقه، وإن زعم الخاسرون الجاهلون أنها تغني عن هداية كتاب الله تعالى، وأنه لم يبق للمسلمين فائدة منه إلا التعبد بتلاوته، والتبرك بمصاحفه، وكذا اتجار بعض حفاظ ألفاظه بتغنيهم به!! ثم قال: {ويطيعون الله ورسوله} أي يستمرون على الطاعة، بترك ما نهوا عنه وفعل ما أمروا به بقدر الاستطاعة، وهو يقابل وصفه المنافقين بأنهم هم الفاسقون، فإن الفسق هو الخروج من حظيرة الطاعة كما تقدم، وقوله تعالى: {أولئك سيرحمهم الله} يقابل نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه لهم كما علم مما فسرناهما به آنفاً. والمراد أنه تعالى يتعهد المؤمنين والمؤمنات برحمته الخاصة المستمرة في مستقبل أمرهم في الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته وطاعة رسوله، وقد قال المحققون من علماء العربية: إن السين في مثل {سيرحمهم} لتأكيد الإثبات كما أن «لن» لتأكيد النفي، وكلتاهما للمستقبل. وقوله: {إن الله عزيز حكيم} تذييل لتعليل هذا الوعد المؤكد، وهو أنه تعالى عزيز لا يمتنع عليه شيء من وعده ولا من وعيده، وحكيم لا يضع شيئاً منهما إلا في موضعه، ولولا أن الوعد هنا للمقابلة بالوعيد الذي قبله لكان المناسب أن يقال: إن الله غفور رحيم. ولما ذكر صفاتهم ورحمته لهم بالإجمال، بين ما وعدهم من الجزاء المفسر لرحمته المؤكدة بالتفصيل، في مقابلة ما أوعد به المنافقين وإخوانهم الكفار تفسيراً لنسيانه لهم، فقال: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي مقابل المنافقين والكفار، يقف المؤمنون الصادقون. طبيعة غير الطبيعة، وسلوكاً غير السلوك، ومصيراً غير المصير: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة؛ ويطيعون اللّه ورسوله. أولئك سيرحمهم اللّه، إن اللّه عزيز حكيم. وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومساكن طيبة في جنات عدن، ورضوان من الله أكبر. ذلك هو الفوز العظيم). إذا كان المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض. إذا كانوا جبلة واحدة وطبيعة واحدة.. فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. إن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض. فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف. وطبيعة النفاق تأبى هذا كله ولو كان بين المنافقين أنفسهم. إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل، وليسوا جماعة متماسكة قوية متضامنة، على ما يبدو بينهم من تشابه في الطبيعة والخلق والسلوك. والتعبير القرآني الدقيق لا يغفل هذا المعنى في وصف هؤلاء وهؤلاء.. (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض).. (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض).. إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة. طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل، وطبيعة التضامن، ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر. (يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).. وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون. ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفاً واحداً. لا تدخل بينها عوامل الفرقة. وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولا بد عنصر غريب عن طبيعتها، وعن عقيدتها، هو الذي يدخل بالفرقة. ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها. السمة التي يقررها العليم الخبير (بعضهم أولياء بعض).. يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلاء كلمة اللّه، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض. (ويقيمون الصلاة).. الصلة التي تربطهم باللّه. (ويؤتون الزكاة).. الفريضة التي تربط بين الجماعة المسلمة، وتحقق الصورة المادية والروحية للولاية والتضامن (ويطيعون اللّه ورسوله).. فلا يكون لهم هوى غير أمر اللّه وأمر رسوله، ولا يكون لهم دستور إلا شريعة اللّه ورسوله. ولا يكون لهم منهج إلا دين اللّه ورسوله، ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى اللّه ورسوله.. وبذلك يوحدون نهجهم ويوحدون هدفهم ويوحدون طريقتهم، فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم. (أولئك سيرحمهم اللّه).. والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها، إنما تكون في هذه الأرض أولاً ورحمة اللّه تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح. رحمة اللّه في اطمئنان القلب، وفي الاتصال باللّه، وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث. ورحمة اللّه في صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة واطمئنانه لرضاء اللّه. إن هذه الصفات الأربع في المؤمنين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، لتقابل من صفات المنافقين: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان اللّه وقبض الأيدي.. وإن رحمة اللّه للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار.. وإن تلك الصفات لهي التي وعد اللّه المؤمنين عليها بالنصر والتمكين في الأرض ليحققوها في وصايتهم الرشيدة على البشرية: إن اللّه عزيز حكيم.. قادر على إعزاز الفئة المؤمنة ليكون بعضها أولياء بعض في النهوض بهذه التكاليف، حكيم في تقدير النصر والعزة لها، لتصلح في الأرض، وتحرس كلمة اللّه بين العباد...
...وبعد أن ذكر الحق فضائح المنافقين ومعايبهم، وحنثهم فيما يحلفون، وخلفهم فيما يعاهدون، أراد أن يجعل تقابلا بينهم وبين المؤمنين والمؤمنات، لكن التقابل هذا اختلف في شيء، لأنه سبحانه قال في المنافقين: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} وحين تكلم عن المؤمنين قال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فالمنافقون والمنافقات وصفهم الحق {بعضهم من بعض} أي أنهم كلهم متشابهون وسلوكهم مبني على التقليد والإتباع، فهم يقلدون بعضهم بعضا. وبما أنهم قد أقاموا عقيدتهم على الشر، فكلهم شر، ولا يوجد بينهم من ينصحهم بالخير أو يحاول ردهم عن النفاق، بل هم يمضون في تيار الشر إلى آخر مدى. أما المؤمن فعقيدته مبنية على الاقتناع وعلى الخير، فإن وجد من مؤمن شر، فوليه من المؤمنين يبعده عن الشر ويرده إلى طريق الخير، ذلك لأن النفس البشرية لها أغيار متعددة، ولا يسلك كل مؤمن السلوك الملتزم تمام الالتزام بمنهج الله في كل شيء، بل هناك خصلة ضعف في كل نفس بشرية، فإن وجد في المؤمن ضعف فأولياؤه من المؤمنين يبينون له نقطة ضعفه ويبصرونه وينصحون له، وهكذا نجد أنه في المجتمع المؤمن، كل واحد يرد الآخر في نقطة ضعفه، وكل منهم ينصح الآخر ويعظه، ليكتمل إيمان الجميع، ومن يقصر في شيء يجد القريب منه، وهو يسد الطارئة في سلوكه. أما المنفقون فيصفهم الحق {بعضهم من بعض} أي: أنهم جميعا من بعض، فلا يتناهون عن منكر فعلوه، ولا يوجد بينهم ناصح. وقول الحق سبحانه وتعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} لم يبين لنا من المولى ومن الموالي، فكل مؤمن هو ولي وهو موال، لأن الولاية مأخوذة من "يليه"، أي صار قريبا، وضدها عاداه أي بعد عنه... فإذا كنت ضعيفا في أمر ما، فأخي المؤمن ينصرني فيه، فإن صار هو ضعيف في شيء أنصره نفيه، فنتفاعل ونتكامل ويصبح كل منا وليا وموالي...فأنت وليي، أي قريب مني تنصرني في ضعفي، وأنا وليك، أي قريب منك، أنصرك في ضعفك لأننا أبناء أغيار، وكل واحد منا فيه نقطة ضعف تختلف عن نقطة ضعف الآخر... ويقول الحق: {ويقيمون الصلاة ويأتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله} وقد ذكر الحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وهذه كلها طاعة لله بإقامة أركان الإسلام، فلم يقل سبحانه: {ويطيعون الله}؟. نقول: الله سبحانه ينبهنا إلى أركان الإسلام الخمسة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا، هذه الأركان ليست هي كل الإسلام. بل هي القواعد التي بني عليها الإسلام، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس). إذن: فهذه الأعمدة أو الأسس التي بني عليها الإسلام. ولكن الإسلام هو كل حركة في الحياة تصلح ولا تفسد، وتسعد ولا تشقي، ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن نفهم أن الإسلام ليس فقط بالأسس التي وضعت، ولكن لابد من طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمرنا به في كل حركة الحياة. وحركات الحياة كلها متكاملة، وإذا نظرت للشيء الذي تستفيد به تجده وليد حركات متعاقبة ممن سبقوك حتى آدم عليه السلام...فأنت لا تستطيع الانقطاع للعبادة إلا إذا استفدت بحركة غيرك، وكل عمل ذكرت فيه الله هو عبادة، وكل حركة في الحياة تعينك على أداء العبادة هي العبادة... إذن: كان من الضروري أن يقول {ويطيعون الله ورسوله}. بعد {ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة}... فبعد أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة عليهم أن يطيعوا الله في الإسلام الذي بني على هذه الأركان. ثم يقول الحق: {أولئك سيرحمهم الله} وأولئك إشارة إلى كل المؤمنين والمؤمنات الذين هم أولياء بعض، والذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة، والذين يؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسول، هؤلاء سيرحمهم الله. وأيهما أبلغ: أن يقال أولئك يرحمهم الله، أو يقال سيرحمهم الله؟ الأبلغ أن يقال: {سيرحمهم الله} لأن السين تهتك ستار الزمن، وبذلك يحيا المؤمن دائما في رحمة الله التي لا تنقطع... وقول الحق سبحانه وتعالى: {سيرحمهم الله} تعطى أن صفة الرحمة في حق الله سبحانه وتعالى أعلى من صفة الرحمة في المخلوق، لأن التراحم من الخلق على قدر الأسباب، أما الرحمة من الحق سبحانه فتكون بصفات الكمال التي لا تتناهى ولا تنتهي...
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إن الله عزيز حكيم} ومعنى عزيز: أنه غالب على أمره، وما يريد يقع، ولا يُغلَب. ولكن إياك أن تفهم أن ذلك عن جبروت ظالم، لا، لأنه سبحانه لا يظلم أحدا، لكن الله عزيز حكيم، وعزته ليس فيها ظلم ولا طغيان، ولكنها بحكمة إلهية...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
مرّ في الآيات السابقة ذكر بعض الصفات المشتركة بين المنافقين، الرجال منهم والنساء، وتلخصت في خمس صفات: الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، والبخل وعدم الإِنفاق، ونسيان الله سبحانه وتعالى، ومخالفة وعصيان أوامر الله.
وتذكر هذه الآيات صفات وعلامات المؤمنين والمؤمنات، وتتلخص في خمس صفات أيضاً، فتقابل كل صفة منها صفة من صفات المنافقين، واحدة بواحدة، لكنّها في الاتجاه المعاكس.
وتشرع الآية بذكر صفات المؤمنين والمؤمنات، وتبدأ ببيان أنّ بعضهم لبعض ولي وصديق (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض).
إنّ أوّل ما يلفت النظر أن كلمة (أولياء) لم تُذكر أثناء الكلام عن المنافقين، بل ورد (بعضهم من بعض) التي توحي بوحدة الأهداف والصفات والأعمال، ولكنّها تشير ضمناً إِلى أن هؤلاء المنافقين وإن كانوا في صف واحد ظاهراً ويشتركون في البرامج والصفات، إلاّ أنهم يفتقدون روح المودة والولاية لبعضهم البعض، بل إنّهم إذا شعروا في أي وقت بأنّ منافعهم ومصالحهم الشخصية قد تعرضت للخطر فلا مانع لديهم من خيانة حتى أصدقائهم فضلا عن الغرباء، وإلى هذه الحالة تشير الآية (14) من سورة الحشر: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى).
وبعد بيان هذه القاعدة الكلية، تشرع ببيان الصفات الجزئية للمؤمنين:
ففي البداية تبيّن أن هؤلاء قوم يدعون الناس إلى الخيرات (يأمرون بالمعروف).
إنّهم ينهون الناس عن الرذائل والمنكرات (وينهون عن المنكر).
إنّهم بعكس المنافقين الذين كانوا قد نسوا الله، فإنّهم يقيمون الصلاة، ويذكرون الله فتحيا قلوبهم وتشرف عقولهم (ويقيمون الصلاة).
إنّهم على عكس المنافقين والذين كانوا يبخلون بأموالهم ينفقون أموالهم في سبيل الله وفي مساعدة عباد الله وبناء المجتمع وإصلاح شؤونه، ويؤدون زكاة أموالهم (ويؤتون الزكاة).
إنّ المنافقين فسّاق ومتمردون، وخارجون من دائرة الطاعة لأوامر الله، أمّا المؤمنون فهم على عكسهم تماماً، إذ (ويطيعون الله رسوله).
أمّا ختام الآية فإنّه يتحدث عن امتيازات المؤمنين، والمكافأة والثواب الذي ينتظرهم، وأوّل ما تعرضت لبيانه هو الرحمة الإِلهية التي تنتظرهم ف (أُولئك سيرحمهم الله).
إنّ كلمة (الرحمة) التي ذكرت هنا لها مفهوم واسع، ويدخل ضمنه كل خير وبركة وسعادة، سواء في هذه الحياة أو في العالم الآخر، وهذه الجملة في الواقع جاءت مقابلة لحال المنافقين الذين لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته.
ولا شك أنّ وعد الله للمؤمنين قطعي ويقيني لأنّ الله قادر وحكيم، ولا يمكن للحكيم أن يعد بدون سبب، وليس الله القادر بعاجز عن الوفاء بوعده حين وعد (إنّ الله عزيز حكيم).