قوله تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } عما لا يحل لهن { ويحفظن فروجهن } عمن لا يحل . وقيل أيضاً : يحفظن فروجهن يعني : يسترنها حتى لا يراها أحد . وروي عن أم سلمة : " أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه ، وذلك بعدما أمرنا بالحجاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتجبا منه ، فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه " قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } يعني : لا يظهرن زينتهن لغير محرم ، وأراد بها الزينة الخفية ، وهما زينتان خفية وظاهرة ، فالخفية : مثل الخلخال ، والخضاب في الرجل ، والسوار في المعصم ، والقرط والقلائد ، فلا يجوز لها إظهارها ، ولا للأجنبي النظر إليها ، والمراد من الزينة موضع الزينة . قوله تعالى : { إلا ما ظهر منها } أراد به الزينة الظاهرة . واختلف أهل العلم في هذه الزينة الظاهرة التي استثناها الله تعالى : قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي : هو الوجه والكفان . وقال ابن مسعود : هي الثياب بدليل قوله تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } وأراد بها الثياب . وقال الحسن : الوجه والثياب . وقال ابن عباس : الكحل والخاتم والخضاب في الكف . فما كان من الزينة الظاهرة جاز للرجل الأجنبي النظر إليه إذا لم يخف فتنة وشهوة ، فإن خاف شيئاً منها غض البصر ، وإنما رخص في هذا القدر أن تبديه المرأة من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة ، وسائر بدنها عورة يلزمها ستره . قوله عز وجل : { وليضربن بخمرهن } أي : ليلقين بمقانعهن ، { على جيوبهن } وصدورهن ليسترن بذلك شعورهن وصدورهن وأعناقهن وأقراطهن . قالت عائشة : رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله عز وجل : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن مروطهن فاختمرن بها . { ولا يبدين زينتهن } يعني : الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب ، وهو ما عدا الوجه والكفين { إلا لبعولتهن } قال ابن عباس ومقاتل : يعني لا يضعن الجلباب ولا الخمار إلا لبعولتهن ، أي إلا لأزواجهن ، { أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن } فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة ، ولا ينظرون إلى ما بين السرة والركبة ، ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره له النظر إلى فرجها . قوله تعالى : { أو نسائهن } أراد أنه يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة إلا ما بين السرة والركبة كالرجل المحرم ، هذا إذا كانت المرأة مسلمة ، فإن كانت كافرة فهل يجوز للمسلمة أن تنكشف لها ؟ اختلف العلم فيه ، فقال بعضهم : يجوز كما يجوز أن تنكشف للمرأة المسلمة لأنها من جملة النساء ، وقال بعضهم : لا يجوز لأن الله تعالى قال : أو نسائهن والكافرة ليست من نسائنا ولأنها أجنبية في الدين ، وكانت أبعد من الرجل الأجنبي . كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات . قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانهن } اختلفوا فيها ، فقال قوم : عبد المرأة محرم لها ، فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً ، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة ، كالمحارم وهو ظاهر القرآن . وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة ، وروي ثابت عن أنس { عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك " . وقال قوم : هو كالأجنبي معها ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وقال : المراد من الآية الإماء دون العبيد . وعن ابن جريج أنه قال : ( أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن ) أنه لا يحل لامرأة مسلمة أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المرأة المشركة أمةً لها . قوله عز وجل : { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو بكر غير بنصب الراء على القطع لأن التابعين معرفة وغير نكرة . وقيل : بمعنى إلا فهو استثناء ، معناه : يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة . وقرأ الآخرون بالجر على نعت التابعين والإربة والأرب : الحاجة . والمراد بالتابعين غير أولي الإربة هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ، ولا حاجة لهم في النساء ، وهو قول مجاهد وعكرمة والشعبي . وعن ابن عباس أنه الأحمق العنين . وقال الحسن : هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن . وقال سعيد بن جبير : هو المعتوه ، وقال عكرمة : المجبوب . وقيل : هو المخنث . وقال مقاتل : الشيخ الهرم والعنين والخصي والمجبوب ونحوه .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أحمد بن الحسين الحيري ، أنبأنا محمد ابن أحمد بن محمد بن معقل بن محمد الميداني ، أنبأنا محمد بن يحيى ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : " كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث ، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أرى هذا يعلم ما ها هنا لا يدخلن عليكن هذا ، فحجبوه " . { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } أراد بالطفل الأطفال ، يكون واحداً وجمعاً ، أي : لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها . وقيل : لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر ، وهو قول مجاهد . وقيل : لم يطيقوا أمر النساء . وقيل : لم يبلغوا حد الشهوة . { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها ليسمع صوت خلخالها أو يتبين خلخالها ، فنهيت عن ذلك . { وتوبوا إلى الله جميعاً } من التقصير الواقع في أمره ونهيه . وقيل : راجعوا طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة ، { أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } قرأ ابن عامر : ( آيه ) المؤمنون وبآية الساحر وآيه الثقلان بضم الهاء فيهن ، ويقف بلا ألف على الخط ، وقرأ الآخرون بفتح الهاءات على الأصل .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، أنبأنا وهب بن جرير ، أنبأنا شعبة عن عمرو بن مرة ، عن أبي بردة أنه سمع الأغر يحدث عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس توبوا إلى الله ، فإني أتوب إليه في يوم مائة مرة " .
أخبرنا أبو الحسن عن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن حريم الشاشي ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن حميد الليثي ، حدثني ابن أبي شيبة ، أنبأنا عبد الله بن تمير ، عن مالك بن مغول ، عن محمد بن سوقة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : " إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول : رب اغفر لي ، وتب علي ، إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة " . وجملة الكلام في بيان العورات : أنه لا يجوز للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل ، وعورته ما بين السرة والركبة ، وكذلك المرأة مع المرأة ، ولا بأس بالنظر إلى سائر البدن إذا لم يكن خوف فتنة . وقال مالك وابن أبي ذئب : الفخذ ليس بعورة لما روي عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال : " أجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم فرساً في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم " . وأكثر أهل العلم على أن الفخذ عورة .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الفضل الحزقي ، أنبأنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنبأنا علي بن حجر ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن أبي كثير ، عن محمد بن جحش قال : " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان ، قال : يا معمر غط فخذيك ، فإن الفخذين عورة " وروي عن ابن عباس وجرهد بن خويلد ، كان من أصحاب الصفة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الفخذ عورة " . قال محمد بن إسماعيل : وحديث أنس أسند ، وحديث جرهد أحوط . أما المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبيةً حرةً : فجميع بدنها في حق الأجنبي عورة ، ولا يجوز النظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين ، وإن كانت أمة : فعورتها مثل عورة الرجل ، ما بين السرة إلى الركبة ، وكذلك المحارم بعضهم مع بعض . والمرأة في النظر إلى الرجل الأجنبي كهو معها . ويجوز للرجال أن ينظر إلى جميع بدن امرأته وأمته التي تحل له ، وكذلك هي منه إلا نفس الفرج فإنه يكره النظر إليه ، وإذا زوج الرجل أمته حرم عليه النظر إلى عورتها كالأمة الأجنبية ، وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظرن إلى ما دون السرة وفوق الركبة " .
( وقل للمؤمنات : يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ) . .
فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة ، أو الهاتفة المثيرة ، تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال . ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب ، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف ، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة !
( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) . .
والزينة حلال للمرأة ، تلبية لفطرتها . فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة ، وأن تبدو جميلة . والزينة تختلف من عصر إلى عصر ؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد ، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله ، وتجليته للرجال .
والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية ؛ ولكنه ينظمها ويضبطها ، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد - هو شريك الحياة - يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه . ويشترك معه في الاطلاع على بعضها ، المحارم والمذكورون في الآية بعد ، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع .
فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين ، فيجوز كشفه . لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله [ صلى الله عليه وسلم ] لأسماء بنت أبي بكر : " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض ، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا - وأشار إلى وجهه وكفيه " .
( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) . .
والجيب فتحة الصدر في الثوب . والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر . ليداري مفاتنهن ، فلا يعرضها للعيون الجائعة ؛ ولا حتى لنظرة الفجاءة ، التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها ، ولكنها قد تترك كمينا في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة !
إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء !
والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي . وقلوبهن مشرقة بنور الله ، لم يتلكأن في الطاعة ، على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال . وقد كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة ! - تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء . وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها ، وأقرطة أذنيها . فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، كن كما قالت عائشة رضي الله عنها - : " يرحم الله نساء المهاجرات الأول . لما أنزل الله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن )شققن مروطهن فاختمرن بها . . وعن صفية - بنت شيبة قالت : بينما نحن عند عائشة . قالت : فذكرن نساء قريش وفضلهن . فقالت عائشة - رضي الله عنها - إن لنساء قريش لفضلا . وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، وأشد تصديقا لكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل . لما نزلت في سورة النور : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن )انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ؛ ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قرابته . فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل ، فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه . فأصبحن وراء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان " .
لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي ، وطهر إحساسه بالجمال ؛ فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب ، بل الطابع الإنساني المهذب . . وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان ؛ مهما يكن من التناسق والاكتمال . فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف ، الذي يرفع الذوق الجمالي ، ويجعله لائقا بالإنسان ، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال .
وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات . على الرغم من هبوط الذوق العام ، وغلبة الطابع الحيواني عليه ؛ والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة ! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات ، في مجتمع يتكشف ويتبرج ، وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان !
هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة . . ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة . فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم :
الآباء والأبناء ، وآباء الأزواج وأبناؤهم ، والإخوة وأبناء الإخوة ، وأبناء الأخوات . . كما يستثني النساء المؤمنات : ( أو نسائهن )فأما غير المسلمات فلا . لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن ، وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها . وفي الصحيحين : " لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها " . . أما المسلمات فهن أمينات ، يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن جسم امرأة مسلمة وزينتها . . ويستثني كذلك ( ما ملكت أيمانهن )قيل من الإناث فقط ، وقيل : ومن الذكور كذلك . لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته . والأول أولى ، لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان ، مهما يكن له من وضع خاص ؛ في فترة من الزمان . . ويستثني ( التابعين غير أولي الإربة من الرجال ) . . وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون . . وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة . لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء . . ويستثني ( الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) . . وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس . فإذا ميزوا ، وثار فيهم هذا الشعور - ولو كانوا دون البلوغ - فهم غير داخلين في هذا الاستثناء .
وهؤلاء كلهم - عدا الأزواج - ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها ، إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة . لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء . فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء .
ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء ، فقد مضت الآية تنهي المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة ، وتهيج الشهوات الكامنة ، وتوقظ المشاعر النائمة . ولو لم يكشفن فعلا عن الزينة :
( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) . .
وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها . فإن الخيال ليكون أحيانا أقوى في إثارة الشهوات من العيان . وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها ، أو حليها ، أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته . كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم ، أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم - وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم - وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى العطر من بعيد ، قد يثير حواس رجال كثيرين ، ويهيج أعصابهم ، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها ردا . والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله . لأن منزله هو الذي خلق ، وهو الذي يعلم من خلق . وهو اللطيف الخبير .
وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله ؛ ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن :
( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) .
بذلك يثير الحساسية برقابة الله ، وعطفه ورعايته ، وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق ، الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله ، وبتقواه . .
{ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال . { ويحفظن فروجهن } بالتستر أو التحفظ عن الزنا ، وتقديم الغض لأن النظر بريد الزنا . { ولا يبدين زينتهن } كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدى له . { إلا ما ظهر منها } عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن في سترها حرجا ، وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية ، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة . { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } سترا لأعناقهن . وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وهشام بضم الجيم . { ولا يبدين زينتهن } كرره لبيان من يحل الإبداء ومن لا يحل له . { إلا لبعولتهن } فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج بكره . { أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن } لكثرة مداخلتهم عليهن واحتياجهن إلى مداخلتهم وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب ، ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وإنما لم يذكر الأعمام والأخوال لأنهم في معنى الإخوان أولان الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا أن يصفوهن لأبنائهم { أو نسائهن } يعني المؤمنات فإن الكافرات لا يتحرجن عن وصفهن للرجال أو النساء كلهن ، وللعلماء في ذلك خلاف ، { أو ما ملكت أيمانهن } يعم الإماء والعبيد ، لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد وهبه لها وعليها ثوب ، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال عليه الصلاة والسلام إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك " . وقيل المراد بها الإماء وعبد المرأة كالأجنبي منها . { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } أي أولي الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهم والممسوحون ، وفي المحبوب والخصي خلاف وقيل البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئا من أمور النساء ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر غير بالنصب على الحال . { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الاطلاع ، أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف . { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } ليتقعقع خلخالخها فيعلم أنها ذات خلخال فإن ذلك يورث ميلا في الرجال ، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة وأدل على المنع من رفع الصوت . { وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون } إذ لا يكاد يخلو أحد منكم من تفريط سيما في الكف عن الشهوات ، وقيل توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية فإنه وإن جب بالإسلام لكنه يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر ، وقرأ ابن عامر " آيه المؤمنون " وفي " الزخرف " { يا أيه الساحر } وفي " الرحمن " { أيه الثقلان } بضم الهاء في الوصل في الثلاثة والباقون بفتحها ، ووقف أبو عمرو والكسائي عليهن بالألف ، ووقف الباقون بغير الألف { لعلكم تفلحون } بسعادة الدارين .
{ وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النسآء } .
أردف أمر المؤمنين بأمر المؤمنات لأن الحكمة في الأمرين واحدة ، وتصريحاً بما تقرر في أوامر الشريعة المخاطب بها الرجال من أنها تشمل النساء أيضاً . ولكنه لما كان هذا الأمر قد يظن أنه خاص بالرجال لأنهم أكثر ارتكاباً لضده وقع النص على هذا الشمول بأمر النساء بذلك أيضاً .
وانتقل من ذلك إلى نهي النساء عن أشياء عرف منهن التساهل فيها ونهيهن عن إظهار أشياء تعوّدْن أن يحببن ظهورها وجمعها القرآن في لفظ الزينة بقوله : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } .
والزينة : ما يحصل به الزين . والزين : الحسن ، مصدر زانه . قال عمر بن أبي ربيعة :
يقال : زين بمعنى حسن ، قال تعالى : { زين للناس حب الشهوات } في سورة آل عمران ( 14 ) وقال : { وزيناها للناظرين } في سورة الحجر ( 16 ) .
والزينة قسمان خِلقية ومكتسبة . فالخلقية : الوجه والكفان أو نصف الذراعين ، والمكتسبة : سبب التزين من اللباس الفاخر والحلي والكحل والخضاب بالحناء . وقد أطلق اسم الزينة على اللباس في قوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] وقوله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } في سورة الأعراف ( 32 ) ، وعلى اللباس الحسن في قوله { قال موعدكم يوم الزينة } [ طه : 59 ] . والتزين يزيد المرأة حسناً ويلفت إليها الأنظار لأنها من الأحوال التي لا تقصد إلا لأجل التظاهر بالحسن فكانت لافتة أنظار الرجال ، فلذلك نهى النساء عن إظهار زينتهن إلا للرجال الذين ليس من شأنهم أن تتحرك منهم شهوة نحوها لحرمة قرابة أو صهر .
واستثني ما ظهر من الزينة وهو ما في ستره مشقة على المرأة أو في تركه حرج على النساء وهو ما كان من الزينة في مواضع العمل التي لا يجب سترها مثل الكحل والخضاب والخواتيم .
وقال ابن العربي : إن الزينة نوعان : خلقية ومصطنعة . فأما الخلقية : فمعظم جسد المرأة وخاصة : الوجه والمعصمين والعضدين والثديين والساقين والشعر . وأما المصطنعة : فهي ما لا يخلو عنه النساء عرفاً مثل : الحلي وتطريز الثياب وتلوينها ومثل الكحل والخضاب بالحناء والسواك . والظاهر من الزينة الخلقية ما في إخفائه مشقة كالوجه والكفين والقدمين ، وضدها الخفية مثل أعالي الساقين والمعصمين والعضدين والنحر والأذنين . والظاهر من الزينة المصطنعة ما في تركه حرج على المرأة من جانب زوجها وجانب صورتها بين أترابها ولا تسهل إزالته عند البدوّ أمام الرجال وإرجاعه عند الخلو في البيت ، وكذلك ما كان محل وضعه غير مأمور بستره كالخواتيم بخلاف القرط والدمالج .
واختلف في السوار والخلخال والصحيح أنهما من الزينة الظاهرة وقد أقر القرآن الخلخال بقوله : { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } كما سيأتي . قال ابن العربي : روى ابن القاسم عن مالك : ليس الخضاب من الزينة اه ولم يقيده بخضاب اليدين . وقال ابن العربي : والخضاب من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين .
فمعنى { ما ظهر منها } ما كان موضعه مما لا تستره المرأة وهو الوجه والكفان والقدمان .
وفسر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله وفسر ما ظهر بالوجه والكفين قيل والقدمين والشعر . وعلى هذا التفسير فالزينة الظاهرة هي التي جعلها الله بحكم الفطرة بادية يكون سترها معطلاً الانتفاع بها أو مدخلاً حرجاً على صاحبتها وذلك الوجه والكفان ، وأما القدمان فحالهما في الستر لا يعطل الانتفاع ولكنه يعسره لأن الحفاء غالب حال نساء البادية . فمن أجل ذلك اختلف في سترهما الفقهاء ؛ ففي مذهب مالك قولان : أشهرهما أنها يجب ستر قدميها ، وقيل : لا يجب ، وقال أبو حنيفة : لا يجب ستر قدميها ، أما ما كان من محاسن المرأة ولم يكن عليها مشقة في ستره فليس مما ظهر من الزينة مثل النحر والثدي والعضد والمعصم وأعلى الساقين ، وكذلك ما له صورة حسنة في المرأة وإن كان غير معرى كالعجيزة والأعكان والفخذين ولم يكن مما في إرخاء الثوب عليه حرج عليها . وروى مالك في « الموطأ » عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة " قال ابن عبد البر : أراد اللواتي يلبسن من الثياب الخفيف الذي يصف ولا يستر ، أي هن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة اه . وفي نسخة ابن بشكوال من « الموطأ » عن القنازعي قال فسر مالك : إنهن يلبسن الثياب الرقاق التي لا تسترهن اه . وفي سماع ابن القاسم من « جامع العتبية » قال مالك : بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي . قال ابن رشد في « شرحه » : هي ثياب ضيقة تلتصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة لابستها من نحافتها ، وتبدي ما يستحسن منها ، امتثالاً لقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } اه . وفي روايات ابن وهب من « جامع العتبية » قال مالك في الإماء يلبسن الأقبية : ما يعجبني فإذا شدته عليها كان إخراجاً لعجزتها .
وجمهور الأئمة على أن استثناء إبداء الوجه والكفين من عموم منع إبداء زينتهن يقتضي إباحة إبداء الوجه والكفين في جميع الأحوال لأن الشأن أن يكون للمستثنى جميع أحوال المستثنى منه . وتأوله الشافعي بأنه استثناء في حالة الصلاة خاصة دون غيرها وهو تخصيص لا دليل عليه .
ونُهِين عن التساهل في الخِمرة . والخمار : ثوب تضعه المرأة على رأسها لستر شعرها وجيدها وأذنيها وكان النساء ربما يسدلن الخمار إلى ظهورهن كما تفعل نساء الأنباط فيبقى العنق والنحر والأذنان غير مستورة فلذلك أُمرْنَ بقوله تعالى : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } .
والضرب : تمكين الوضع وتقدم في قوله تعالى : { إن الله لا يستحيِ أن يضرب مثلاً } في سورة البقرة ( 26 ) .
والمعنى : ليشددن وضع الخمر على الجيوب ، أي بحيث لا يظهر شيء من بشرة الجيد .
والباء في قوله { بخمرهن } لتأكيد اللصوق مبالغة في إحكام وضع الخمار على الجيب زيادة على المبالغة المستفادة من فعل { يضربن } .
والجُيوب : جمع جيب بفتح الجيم وهو طوق القميص مما يلي الرقبة . والمعنى : وليضعن خمرهن على جيوب الأقمصة بحيث لا يبقى بين منتهى الخمار ومبدأ الجَيب ما يظهر منه الجيد .
وقوله : { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } أعيد لفظ { ولا يبدين زينتهن } تأكيداً لقوله { ولا يبدين زينتهن } المتقدم وليبني عليه الاستثناء في قوله : { إلا لبعولتهن } إلخ الذي مقتضى ظاهره أن يعطف على { إلا لبعولتهن } لبعد ما بين الأول والثاني ، أي ولا يبدين زينتهن غير الظاهرة إلا لمن ذُكروا بعد حرف الاستثناء لشدة الحرج في إخفاء الزينة غير الظاهرة في أوقات كثيرة ، فإن الملابسة بين المرأة وبين أقربائها وأصهارها المستثنين ملابسة متكررة فلو وجب عليها ستر زينتها في أوقاتها كان ذلك حرجاً عليها .
وذكرت الآية اثني عشر مستثنى كلهم ممن يكثر دخولهم . وسكتت الآية عن غيرهم ممن هو في حكمهم بحسب المعنى . وسنذكر ذلك عند الفراغ من ذكر المصرح بهم في الآية .
والبعولة : جمع بعل . وهو الزوج ، وسيد الأَمَة . وأصل البعل الرب والمالك ( وسمي الصنم الأكبر عند أهل العراق القدماء بعْلاً وجاء ذكره في القرآن في قصة أهل نينوى ورسولهم إلياس ) ، فأطلق على الزوج لأن أصل الزواج ملك وقد بقي من آثار الملك فيه الصداق لأنه كالثمن . ووزن فعولة في الجموع قليل وغير مطرد وهو مزيد التاء في زنة فعول من جموع التكسير .
وكل من عد من الرجال الذين استُثْنوا من النهي هم من الذين لهم بالمرأة صلة شديدة هي وازع من أن يهموا بها . وفي سماع ابن القاسم من كتاب « الجامع من العتبية » : سئل مالك عن الرجل تضع أم امرأته عنده جلبابها قال : لا بأس بذلك . قال ابن رشد في « شرحه » : لأن الله تعالى قال : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } الآية ، فأباح الله تعالى أن تضع خمارها عن جيبها وتبدي زينتها عند ذوي محارمها من النسب أو الصهر اهـ . أي قاس مالك زوج بنت المرأة على ابن زوج المرأة لاشتراكهما في حُرمة الصهر .
والإضافة في قوله : { نسائهن } إلى ضمير { المؤمنات } : إن حملت على ظاهر الإضافة كانت دالة على أنهن النساء اللاتي لهن بهن مزيد اختصاص فقيل المراد نساء أُمَّتِهن ، أي المؤمنات ، مثل الإضافة في قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } [ البقرة : 282 ] ، أي من رجال دينكم . ويجوز أن يكون المراد أو النساء . وإنما أضافهن إلى ضمير النسوة إتباعاً لبقية المعدود .
قال ابن العربي : إن في هذه الآية خمسة وعشرين ضميراً فجاء هذا للإتباع اهـ . أي فتكون الإضافة لغير داع معنوي بل لداع لفظي تقتضيه الفصاحة مثل الضميرين المضاف إليهما في قوله تعالى : { فألهمها فجورها وتقواها } [ الشمس : 8 ] أي ألهمها الفجور والتقوى . فإضافتهما إلى الضمير إتباع للضمائر التي من أول السورة : { والشمس وضحاها } [ الشمس : 1 ] وكذلك قوله فيها : { كذبت ثمود بطغواها } [ الشمس : 11 ] أي بالطغوى وهي الطغيان فذكر ضمير ثمود مستغنى عنه لكنه جيء به لمحسن المزاوجة{[286]} .
ومن هذين الاحتمالين اختلف الفقهاء في جواز نظر النساء المشركات والكتابيات إلى ما يجوز للمرأة المسلمة إظهاره للأجنبي من جسدها . وكلام المفسرين من المالكية وكلام فقهائهم في هذا غير مضبوط . والذي يستخلص من كلامهم قول خليل في « التوضيح » عند قول ابن الحاجب : وعورة الحرة ما عدا الوجه والكفين . ومقتضى كلام سيدي أبي عبد الله بن الحاج{[287]} : أما الكافرة فكالأجنبية مع الرجال اتفاقاً ا ه .
وفي مذهب الشافعي قولان : أحدهما : أن غير المسلمة لا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين ورجحه البغوي وصاحب « المنهاج » البيضاوي واختاره الفخر في « التفسير » . ونقل مثل هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس ، وعلله ابن عباس بأن غير المسلمة لا تتورع عن أن تصف لزوجها المسلمة . وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح : « أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين فامنعْ من ذلك وحُلْ دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عِرْيَة المسلمة » .
القول الثاني : أن المرأة غير المسلمة كالمسلمة ورجحه الغزالي .
ومذهب أبي حنيفة كذلك فيه قولان : أصحهما أن المرأة غير المسلمة كالرجل الأجنبي فلا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين والقدمين ، وقيل : هي كالمرأة المسلمة .
وأما ما ملكت أيمانهن فهو رخصة لأن في ستر المرأة زينتها عنهم مشقة عليها . لكثرة ترددهم عليها . ولأن كونه مملوكاً لها وازع له ولها عن حدوث ما يحرم بينهما ، والإسلام وازع له من أن يصف المرأة للرجال .
وأما التابعون غير أولي الإربة من الرجال فهم صنف من الرجال الأحرار تشترك أفراده في الوصفين وهما التبعية وعدم الإربة .
فأما التبعية فهي كونهم من أتباع بيت المرأة وليسوا ملك يمينها ولكنهم يترددون على بيتها لأخذ الصدقة أو للخدمة .
والإربة : الحاجة . والمراد بها الحاجة إلى قربان النساء . وانتفاء هذه الحاجة تظهر في المجبوب والعنين والشيخ الهرم فرخص الله في إبداء الزينة لنظر هؤلاء لرفع المشقة عن النساء مع السلامة الغالبة من تطرق الشهوة وآثارها من الجانبين .
واختلف في الخصي غير التابع هل يلحق بهؤلاء على قولين مرويين عن السلف .
وقد روي القولان عن مالك . وذكر ابن الفرس : أن الصحيح جواز دخوله على المرأة إذا اجتمع فيه الشرطان التبعيّة وعدم الإربة . وروي ذلك عن معاوية بن أبي سفيان .
وأما قضية ( هيتٍ ) المخنث أو المخصي{[288]} ونهى النبي صلى الله عليه وسلم نساءه أن يدخلن عليهن فتلك قضية عين تعلقت بحالة خاصة فيه . وهي وصفه النساء للرجال فتقصى على أمثاله . ألا ترى أنه لم ينه عن دخوله على النساء قبل أن يسمع منه ما سمع .
وقرأ الجمهور : { غير أولي الإربة } بخفض { غير } . وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بنصب { غير } على الحال .
والطفل مفرد مراد به الجنس فلذلك أجري عليه الجمع في قوله : { الذين لم يظهروا } وذلك مثل قوله : { ثم نخرجكم طفلاً } [ الحجّ : 5 ] أي أطفالاً .
ومعنى : { لم يظهروا على عورات النساء } لم يطلعوا عليها . وهذا كناية عن خلو بالهم من شهوة النساء وذلك ما قبل سن المراهقة .
ولم يذكر في عداد المستثنيات العم والخال فاختلف العلماء في مساواتهما في ذلك : فقال الحسن والجمهور : هما مساويان لمن ذكر من المحارم وهو ظاهر مذهب مالك إذ لم يذكر المفسرون من المالكية مثل ابن الفرس وابن جزي عنه المنع . وقال الشعبي بالمنع وعلل التفرقة بأن العم والخال قد يصفان المرأة لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم . وهذا تعليل واهٍ لأن وازع الإسلام يمنع من وصف المرأة .
والظاهر أن سكوت الآية عن العم والخال ليس لمخالفة حكمهما حكم بقية المحارم ولكنه اقتصار على الذين تكثر مزاولتهم بيت المرأة ، فالتعداد جرى على الغالب . ويلحق بهؤلاء القرابة من كان في مراتبهم من الرضاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " . وجزم بذلك الحسن ، ولم أر فيه قولاً للمالكية . وظاهر الحديث أن فيهم من الرخصة ما في محارم النسب والصهر .
{ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } .
الضرب بالأرجل إيقاع المشي بشدة كقوله : يضرب في الأرض .
روى الطبري عن حضرمي : أن امرأة اتخذت بُرتين ( تثنية بُرَة بضم الباء وتخفيف الراء المفتوحة ضرب من الخَلْخَال ) من فضة واتخذت جَزْعاً في رجليها فمرت بقوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية .
والتحقيق أن من النساء من كن إذا لبسن الخلخال ضربن بأرجلهن في المشي بشدة لتسمع قعقعة الخلاخل غنجاً وتباهياً بالحسن فنهين عن ذلك مع النهي عن إبداء الزينة .
قال الزجاج : سماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من النظر للزينة فأما صوتُ الخلخال المعتادُ فلا ضير فيه .
وفي أحاديث ابن وهب من « جامع العتبية » : سئل مالك عن الذي يكون في أرجل النساء من الخلاخل قال : « ما هذا الذي جاء فيه الحديث وتركُه أحب إليّ من غير تحريم » .
قال ابن رشد في « شرحه« : أراد أن الذي يحرمُ إنما هو أن يقصدْنَ في مشيهن إلى إسماع قعقعة الخلاخل إظهاراً بهن من زينتهن .
وهذا يقتضي النهي عن كل ما من شأنه أن يُذَكِّرَ الرجل بلهو النساء ويثير منه إليهن من كل ما يُرى أو يسمع من زينة أو حركة كالتثني والغناء وكلم الغَزَل . ومن ذلك رقص النساء في مجالس الرجال ومن ذلك التلطخ بالطيب الذي يغلب عبيقه . وقد أومأ إلى علة ذلك قوله تعالى : { ليعلم ما يخفين من زينتهن } ولعن النبي صلى الله عليه وسلم المستوشمات والمتفلجات للحسن .
قال مكي بن أبي طالب ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه الآية جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع وسماها أبو بكر ابن العربي : آية الضمائر .
{ وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
أعقبت الأوامر والنواهي الموجهة إلى المؤمنين والمؤمنات بأمر جميعهم بالتوبة إلى الله إيماء إلى أن فيما أمروا به ونهوا عنه دفاعاً لداع تدعو إليه الجبلة البشرية من الاستحسان والشهوة فيصدر ذلك عن الإنسان عن غفلة ثم يتغلغل هو فيه فأمروا بالتوبة ليحاسبوا أنفسهم على ما يفلت منهم من ذلك اللمم المؤدي إلى ما هو أعظم .
والجملة معطوفة على جملة : { قل للمؤمنين } [ النور : 30 ] . ووقع التفات من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خطاب الأمة لأن هذا تذكير بواجب التوبة المقررة من قبل وليس استئناف تشريع .
ونبه بقوله : { جميعاً } على أن المخاطبين هم المؤمنون والمؤمنات وإن كان الخطاب ورد بضمير التذكير على التغليب ، وأن يؤملوا الفلاح إن هم تابوا وأنابوا .
وتقدم الكلام على التوبة في سورة النساء ( 17 ) عند قوله تعالى : { إنما التوبة على الله . } وكتب في المصحف { أيه } بهاء في آخره اعتباراً بسقوط الألف في حال الوصل مع كلمة { المؤمنون } . فقرأها الجمهور بفتح الهاء بدون ألف في الوصل . وقرأها أبو عامر بضم الهاء إتباعاً لحركة ( أيّ ) . ووقف عليها أبو عمرو والكسائي بألف في آخرها . ووقف الباقون عليها بسكون الهاء على اعتبار ما رسمت به .