الآية 31 : وعلى هذا {[13866]} يخرج قوله : ]وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن( .
وقوله تعالى : ]ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر[ روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ( أنه ){[13867]} قال ]إلا ما ظهر[ الرداء من الثياب .
وعن ابن عباس رضي الله عنه ( أنه ){[13868]} قال ]إلا ما ظهر منها( : الكحل والخاتم ، وفي رواية أخرى : الكف والخاتم .
وعن عائشة رضي الله عنها ( أنها ){[13869]} قالت : ]إلا ما ظهر منها( : القلب ، والفتخه ، وهي خاتم إصبع الرجل .
وعن عبد الله بن الزبير ( قوله : الزينة ){[13870]} زينتان : زينة باطنة ، لا يراها إلا الزوج ( كالإكليل والسوار والخاتم . وأما الزينة الظاهرة فالثياب ){[13871]} .
فإن كان التأويل ما روي عن ابن مسعود ( حين خص الرداء من الثياب ){[13872]} ففيه دلالة ألا يحل النظر إلى امرأة أجنبية وإن كان ما قال ابن عباس ففيه دلالة حل النظر إلى وجه المرأة لا بشهوة .
وإن كان ما قالت عائشة من القلب والفتحة ففيه دلالة جواز النظر إلى الكفين والقدمين لأنهما ظاهرتان باديتان .
ألا ترى أنهما من الظواهر في فرض غسل الوضوء ؟ وإن كان ذلك ففيه دلالة جواز صلاتها مع ظهور القدم .
وجائز أن يكون النظر إلى وجه المرأة حلالا إذا لم يكن بشهوة . لكن غض البصر وترك النظر أوفق وأزكى كقوله : ]يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن[ أنهن حرائر ]فلا يؤذين[ ( الأحزاب : 59 ) كما يؤذى الإماء .
والذي يدل أن للمرأة ألا تغطي وجهها ، ولا ينبغي للرجل أن يتعمد النظر إلى وجه المرأة إلا عند الحاجة إليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه " إنما لك الأولى وليست لك الآخرة " ( الترمذي : 2777 ) وفي بعضها " الأولى لك والآخرة عليك " ( بنحوه الترمذي : 2777 ) لأنه كأنه إنما يتعمد النظر في الثانية لشهوة تحدث في قلبه .
وإذنه للذي تريد أن يتزوج امرأة أن ينظر إليها يدل على أن نظر الرجل إلى وجه المرأة غير حرام ، لأنه لو كان حراما لم يأذن فيه للنبي لأحد .
ونرى ، والله أعلم ، أن النظر إلى وجه المرأة ليس بحرام إذا{[13873]} لم يقع في قلب الرجل من ذلك شهوة . فإذا وجد لذلك شهوة ، ولم يأمن أن ( يؤدي به ){[13874]} ذلك إلى ما يكره ، فمحظور عليه أن ينظر إليها إلا أن يريد به معرفتها والنكاح ، فإنه قد رخص في ذلك .
روي أن المغيرة ( بن شعبة ){[13875]} أراد أن يتزوج امرأة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم{[13876]} " اذهب ، فانظر إليها ، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " ( أحمد : 4/245 ) .
وقال في بعض الأخبار : " إذا خطب أحدكم المرأة فلا بأس أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها ، للخطبة ، وإن كانت لا تعلم " ( بنحوه أحمد : 3/360 ) .
وأحسن للشابة وأفضل لها أن تستر وجهها ويديها عن الرجال ، ليس أن ذلك حرام{[13877]} ولكن لما يخاف في ذلك من حدوث الشهوة ووقوع الفتنة بهن .
فإذا لم يكن للناظر في ذلك شهوة بأن كان شيخا كبيرا ، أو كانت المرأة دميمة أو عجوزا ، فإنه لا يحظر النظر إلى وجوه أمثالهن ، ولا ينظر إلى{[13878]} ما سوى ذلك .
وأصله قول الله تعالى : ]قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين[ ( الأحزاب : 59 ) .
ومما يدل على أن الوجه والكفين جائز ألا يكونا{[13879]} بعورة : بأن المرأة ، لا تصلي وعورتها مكشوفة ، ويجوز أن تصلي ووجهها ويداها ورجلاها مكشوفة . فإذا كان كذلك دل ذلك على أن النظر إلى ذلك جائز ، إذا لم يكن ذلك لشهوة ، دخل في ذلك معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " العينان تزنيان " لأن زناء العين لا يكون إلا بالنظر للشهوة . فإذا كان لشهوة دخل في ذلك معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الوجه والكفين ، ليسا بعورة ما روي عن عائشة أنها{[13880]} قالت : " دخلت علي أختي أسماء ، وعليها ثياب شامية رقاق ، وهي اليوم عندكم صفاق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه ثياب ، لا تحبها سورة النور ، فأمر بها ، فأخرجت ، فقلت : يا رسول الله زارتني أختي ، فقلت لها ما قلت : فقال يا عائش إن الحرة إذا حاضت لا ينبغي أن يُرى إلا وجهها وكفاها " ( بنحوه أبو داود : 4104 ) فإن تبت هذا فإنه يبين ما ذكرنا ، والله أعلم/366- ب/ . وقوله تعالى : ]يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن[ قد ذكرنا أن المرأة يكون لها النظر إلى الرجال من غير محرمها كما يكره للرجل ( النظر ){[13881]} على المرأة الأجنبية .
ألا ترى أنه " روي أن ( عبد الله ابن مكتوم المؤذن الأعمى ، دخل ){[13882]} على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أزواجه عنده : عائشة وأخرى . فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوما ، فقالتا : ( يا رسول الله أليس هو أعمى ؟ ){[13883]} فقال لهما : أفعمياوان أنتما ؟ ألستما تبصرانه " ( الترمذي : 2778 ) أو كلاما ){[13884]} نحو هذا . فدل انه ما ذكرنا .
وعلى ذلك أخبار : روي عن خالد بن معدان ( أنه ){[13885]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة ، تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبيت في مكان ، تسمع نفس رجل ، ليس بمحرم . ولا يحل لامرئ ، يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت في مكان ، يسمع نفس امرأة ، ليست بمحرمة " ( بنحوه البخاري : 3006 ) .
وفي بعض الأخبار أنه قال {[13886]} : " ولا يرخص للمرأة أن ترى غير ذي محرم منها إلا الوجه والكف وما ظهر ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على كوع عائشة ، وقال هذ " ( بنحوه أبو داوود : 4104 ) .
وعن الحسن أنه قال في قوله تعالى : ]إلا ما ظهر منها[ : الوجه وما ظهر من الثياب .
فإن ثبت ما ذكرنا من المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين{[13887]} رخص النظر إلى الوجه والكف لقوله : " إلا الوجه والكف " استثناء الوجه والكف من بين سائر الجوارح ، كان ذلك تفسيرا لقوله " إلا ما ظهر منها " كأنه قال ]ولا يبدين زينتهن [ للأجنبيين ]إلا ما ظهر منها[ وهو الكحل والخاتم .
ثم الكحل ( يكون ){[13888]} في الوجه ، والخاتم في اليد . فذكر الزينة يكون كناية عن مواضعها لأن النظر إلى الزينة ( حلال لكل أحد إذا كان المراد بالزينة ){[13889]} الحلي . وما ذكره القوم يدل أن المراد بذكر الزينة مواضع الزينة لا نفس الزينة والحلي .
ثم رخص للأجنبيين النظر إلى بعض الزينة ، وهو ما ظهر منها من الوجه والكف ، ولم يرخص ما خفي منها وما بطن ، ثم استثنى المحارم منها ( ورخص لهم النظر ){[13890]} إلى ذلك بقوله ]ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن[ إلى آخر ما ذكر .
ثم مواضع الزينة الخفية ، منها الصدر ، ومنها الأذنان ، وهما في الرأس ، ومنها الساق .
ثم جمع بين الأب ومن سمى معه وبين الزوج في النظر إلى زينة المرأة . ولا خلاف في أن الأب ، لا يجوز أن ينظر من عورات ابنته إلا إلى رأسها ، وفي الرأس الأذنان ، وقد يكون فيهما القرطان{[13891]} ، ونحوه .
وإذا جاز له أن ينظر إلى رأسها ، ولا خمار عليها ، فله أن ينظر على صدرها ، وهو موضع الزينة ، لأنه مما يغطيه الخمار ، وينظر إلى ذراعها وموضع الخلخال من قدميها ورجليها ، وهي{[13892]} مواضع الزينة الباطنة التي لا يجوز للأجنبي أن ينظر إليها .
ثم النظر إلى الوجه أحق أن يحرم النظر إليه للأجنبي من الرأس وغيره من مواضع الزينة لأن الوجه يجمع فيه جميع المحاسن ، وغيره من مواضع الزينة ، ليس فيها محاسن . لكن إنما حرم النظر إلى هذه المواضع لأنها عورة في نفسها ، فالنظر إلى العورة حرام للأجنبي ، ولأن النظر إليها ؛ أعني مواضع الزينة ، لا يكون إلا للشهوة ، والنظر إلى الشهوة حرام{[13893]} .
فأما المحارم منها فإنهم لا ينظرون إلى هذه المواضع منها لشهوة ، ولا يقصدون به ذلك البتة ، فأبيح لهم النظر إليها . وكل من يخشى من المحارم النظر إليها لشهوة لا ينظر إليها ، وكذلك الأجنبي ( حين أبيح له ){[13894]} النظر إلى الزينة الظاهرة ، فإن خشي به الشهوة لم ينظر إليها وضرورة{[13895]} ثم غيرها من العجزة ، لا يحل لأحد النظر إليها : للأب وغيره إلا للزوج خاصة أو للمولى إلى مملوكته ، وهو ما قال : ]والذين هم لفروجهم حافظون[ ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين[ ( المؤمنون : 5 و6 ) .
استثنى الأزواج والموالي من بين غيرهم لأن النظر إلى ذلك لا يكون إلا للشهوة ، لا تقع فيه حاجة ، فلا يباح ذلك إلا لمن له قضاء الشهوة والوطء ، وهو الزوج والمولى .
فانقسمت العورة إلى جهتين : جهة تحل للمحارم النظر إليها لحاجة وضرورة ، تقع لهم ، وجهة لا تحل لهم إلا للأزواج لما لا تقع لهم حاجة ولا ضرورة بالنظر إلى ذلك .
ألا ترى أن الأمة ينظر ( الأجنبي{[13896]} ) إلى شعرها وذراعيها وساقيها وصدرها إذا أراد شراءها ؟ فلا ينظر إلى ما سوى ذلك . فإذا جاز للأجنبي أن ينظر إليه من الأمة جاز لمحرمها النظر إلى ذلك من المرأة للحاجة التي ذكرنا .
ثم ذكر في الآية المحارم جميعا إلا الأعمام والأخوال . قال بعضهم : إنما لم يذكرهم{[13897]} في هذه الآية لأنها تحل لبنيهم{[13898]} بالنكاح ، فكره أن ( يصفوها لبنيهم ){[13899]} ولهذا كره ( في ما كره من المرأة ){[13900]} المسلمة إبداء الزينة الخفية للكافرة من اليهودية والنصرانية لما لعلها تصف ذلك للمشركين ، فيرغبون فيها ، ويتكلفون ذلك ، وصرف قوله : ]أو نسائهن[ إلى{[13901]} المسلمات .
لكن جائز عندنا أن العم والخال إنما لم يذكرهما للكثرة والتطويل لما يكره ذلك ، أو لما ذكر من أجناسهم وأمثالهم فذكر الرخصة في أمثالهم كافية .
وقوله تعالى ]أو نسائهن[ يحتمل وجوها : يحتمل النساء ( اللواتي ){[13902]} يختلطن بهن أو نساء قرابتهن أو النساء اللاتي{[13903]} توافقن في دينهن وهن المسلمات على ما قاله أولئك .
وقوله تعالى ]أو ما ملكت أيمانهن[ قال قائلون ]أو ما ملكت أيمانهن[ كقوله : ]إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم[ ( المؤمنون : 6 ) ونحوه .
وقال قائلون : الإماء ( والعبيد جميعا . فإن كان المراد به الإماء ){[13904]} فهو ظاهر ، وإن كان المراد به الأمة والعبد ففيه إباحة نظر العبد إلى شعر مولاته على ما يقول بعض الناس .
والأشبه أن يكون المراد به ، والله أعلم الإماء دون العبيد ( وهو ){[13905]} ما ذكرنا في آخر الآية : ]أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال[ العبيد{[13906]} من الرجال . أو ذكر التابعين{[13907]} ؛ والتابع ، وإن كان خصيا أو غنيا أو معتوها على ما قالوا فإنه لا يحل لهؤلاء النظر إلى تلك المواضع على حال . فعلى ذلك العبد .
فيكون الدخول عليهن مضمرا{[13908]} في الآية ، وتكون{[13909]} النساء متأهبات وقت دخول العبيد والتابعين عليهن ، لأنه ذكر التابعين ، وهم تابعوا الأزواج ، ووقت دخول هؤلاء يكون معلوما عندهن ، فيتأهبن لهم ، وتسرن ، والله أعلم بذلك .
ألا ترى ( أنه ){[13910]} لا يحل للمرأة أن تسافر بعبدها ؟ دل أنه ليس بمحرم لها . لذلك لم يحل له النظر إلى شعر مولاته .
فإن قيل : ما معنى : إمائهن ونسائهن ؟ وكل النساء يجوز لهن النظر إلى المرأة وإلى هذه المواضع التي ذكرنا ؟ قيل : خص الله عز وجل بالذكر إماءهن ونساءهن دون النساء الأجنبيات تأديبا لا خطرا . وذلك أن المرأة قد يضيق عليها أن تستتر من أمتها ونساء أهل بيتها لكثرة رويتهن لها ، وقد تقدر أن تستر من الأجنبية محاسنها وزينتها لقلة رؤيتها لها .
ألا ترى أنه قد نهى الله المرأة أن تضرب برجلها لتعلم ما تخفي من زينتها . وفي ذلك صيانة للرجل والمرأة وإبعاد لهما عما{[13911]} يحذر عليهما ، ويخاف ؟ فليس ببعيد أن يجعل نهيه المرأة أن تظهر زينتها ومحاسنها للأجنبية لما يخاف على الأجنبية من فساد{[13912]} قلبها وحدوث الشهوة لها صيانة /367-أ/للنساء والرجال وإبعادا لهم من الزينة ، ولئلا تصفها لرجل ، يفتتن بها ، ويتكلف الوصول إليها ، والله أعلم .
وقوله تعالى ]وليضرن بخمرهن على جيوبهن[ روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لما نزلت هذه الآية أخذت النساء أزرهن ، فشققنها من قبل الحواشي ، فاختمرن بها{[13913]} .
وعن ابن عباس : ]وليضربن بخمورهن على جيوبهن[ يقول : وليشددن يخمرهن على الصدر والنحر ، فلا ترين منهما شيئا . قال وكان{[13914]} النساء قبل هذه الآية إنما تسدلن خمرهن سدلا من ورائهن كما يصنع النبط . فلما نزلت هذه الآية سدلن الخمر على النحر والصدر .
وفي الآية دلالة أن دروع النساء كانت ذات جيب ، لأن الجيب إنما تكون للدروع ، وذلك كان لباس النساء .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى الرجال عن لَبسة النساء وأنه لعن المتشبهين من الرجال بالنساء . وروي لهن الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل .
وعن ابن عباس : لعن النبي المؤنثين من الرجال والمذكرات من النساء . وكأنه مكروه للرجل ، والله أعلم . أن يلبس فراعة وحدها ، لا قميص تحتها ، لأن ذلك لباس النساء ، إلا أن يكون لها شق ذيل ، فخرجت من لبس النساء ، ولم يكره للرجال ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ]ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها[ إنما يباح النظر إلى الوجه للحاجة ، وأما على غير الحاجة فلا يباح لما ذكرنا من قوله : ]يدنين عليهن من جلابيبهن[ الآية ( الأحزاب : 59 ) وقوله : ]وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن[ ( الأحزاب : 53 ) .
فعلى ذلك ترك النظر إلى وجه المرأة أطهر للنساء وللناس جميعا . فلا يباح ذلك إلا عند الحاجة إليه ، وهو معرفتها لتقيم به الشهادة .
فإن قيل : أليس النظر يسع إلى مواضع الزينة الخفية للأجنبي للتداوي{[13915]} ؟ قيل : يسع ذلك الضرورة ، وأما للحاجة فلا . ومسألتنا في الحاجة ليست في الضرورة .
ثم قوله تعالى : ]ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ] إلى آخر ما ذكر جائز أن يكون المراد برخصة النظر إلى الزينة لهؤلاء المسمين في الآية رخصة النظر إلى نفس الزينة في موضع الزينة لا موضع الزينة . فيدخل في هذه الرخصة من ذكر من ]التابعين غير أولي الإربة من الرجال[ ونحوه ، لأن الزينة في الصدر وما ذكر إنما تكون من وراء ثياب ، تكون على الصدر{[13916]} .
ثم رخص النظر للمحارم إلى مواضع الزينة ولغير المحارم من الممالك والتابعين ]غير أولي الإربة(
و( أما في ){[13917]} ذكر رخصة الدخول عليهن فيكون في الآية إضمار الدخول كأنه قال : ]ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن[ ومن ذكر من المحارم : ولا يدخل عليهن إلا العبيد والتابعون ومن ذكر من ]غير أولي الإربة( فيكن في وقت دخول هؤلاء متأهبات ، لأن وقت دخول هؤلاء يكون معلوما ، يعرفنه{[13918]} ، فيتأهبن ، لأن العبيد إنما يدخلون على سيداتهم ومولياتهم عند حاجتهن إليهم ( ولأن ){[13919]} التابعين ومن ذكر إنما يدخلون إذا دخل أزواجهن عليهن ، فيتأهبن لذلك .
ومثل هذا{[13920]} الإضمار جائز في الكلام ، يتبين ذلك بالثنيا كقوله : ]أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم[ ( المائدة 1 ) .
دل قوله : ]غير محلي الصيد[ أنه كان الصيد مذكورا ؛ إذ لو لم يكن مذكورا لم يكن استثنى منه .
فعلى ذلك جائز أن يكون في الأول إضمار الدخول فيه لهؤلاء الذين لا يحل لهم النظر إلى مواضع الزينة منهن ، ورخصة الإبداء{[13921]} للمحارم ، أو أن يكون ما ذكرنا في ما تقدم ، والله أعلم .
وقوله تعالى ]أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال[ قال بعضهم : الشيخ الكبير الذي لا حاجة له في النساء وقال بعضهم : المعتوه الحمق الذي لا تشتهيه النساء ، ولا يغار منه{[13922]} الأزواج ، وقال بعضهم : العنين والخصي وهؤلاء ( هم ){[13923]} الذين لا يطيقون الجماع .
لكن عندنا : لا يسع العنين أو الخصي أن يخلو بامرأة أجنبية .
وقال الحسن : ]غير أولي الإربة[ هم الرجال المخنثون .
روي عن عائشة ( أنها قالت : كان ){[13924]} يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث ، وكانوا يعدونه من ]غير أولي الإربة[ قالت : فدخل النبي ذات يوم ، وهو ينعت امرأة ، فقال : " لا أرى هذا يعلم ما ههنا ، لا يدخلن عليكم فحجبوه " ( مسلم : 2181 ) .
وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها ، وعندها مخنث ، فأقبل على أخي أم سلمة ، فقال : يا عبد الله إن فتح الله لكم غدا الطائف دللتك على بنت غيلان ، فإنها تقبل بأربع ، وتدبر بثمان ، فقال : ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ){[13925]} " لا أرى هذا يعرف ما ههنا ، لا يدخلن عليكم " ( بنحوه مسلم : 2180 ) .
وقال بعضهم : ]غير أولي الإربة( الذين لا تهمهم غلا بطونهم ، ولا ( يخاف منهم ){[13926]} على النساء .
وكله واحد ، وهم الذين ليست لهم الحاجة إلى النساء .
قال أبو عوسجة : الإربة الحاجة ، والإرب جميع ، وكذلك قال القتبي . وقال ابن عباس : هو الذي لا تستحيي منه النساء .
وقوله تعالى : ]أو الطفل الذين لم يطهروا على عورات النساء[ قال بعضهم : هو من{[13927]} الاطلاع ؛ أي لم يطلعوا ، ولم يدروا ما هو من الصغر . وقال بعضهم : ]لم يظهروا على عورات النساء[ أي لم يبلغوا الحلم ؛ والأول أشبه عندنا ؛ وذلك لأن الطفل الذي لم يحتلم قد أمر بالاستئذان في بعض الأوقات لقوله : ]ليستأذنكم الذي ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم[ ( النور : 58 ) فالذي يؤمر بالاستئذان ، هو الطفل الذي لم يحتلم ، وقد يطلع على عورات النساء .
والذي لا يؤمر بالاستئذان ، هو أصغر من ذلك . وهو الذي لا يطلع على عورات النساء لصغره ، والله أعلم .
وقوله تعالى ]ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن[ أي لا يضربن إحدى ( الرجلين بالأخرى ){[13928]} ليقرع الخلخال بالخلخال ]ليعلم ما يخفين من زينتهن[ أي ما تواري الثياب من الزينة ، وهو الخلخال ( الذي أخفته ){[13929]} الثياب .
نُهيَتِ المرأة من ضرب رجلها لتعلم الرجال ما تخفي من زينتها . وذلك محظور عليها ، لم يخرج ذلك مخرج ترغيب الناس وحثهم عليها ؛ إذ الزينة في الأصل ما جعلت إلا للترغيب والتحريض على أنفسهم ، وهي الداعية إلى النظر والشهوة .
وفي ترك ذلك وفي ترك إبداء الشهوة صيانتها وصيانة الرجال وإبعادهم جميعا من الزينة والرغبة .
فكشف الشابة عن وجهها ونظر الرجل لشهوة إليها أحرى أن يكون محظورا عليه منهيا عنه ، والله أعلم بالصواب .
( وقوله تعالى ){[13930]} ]وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون[ ( يحتمل وجهين : أحدهما ){[13931]} : ]وتوبوا إلى الله[ أي ارجعوا إلى الله بالطاعة له والخضوع لتكونوا مفلحين .
( والثاني ){[13932]} : أن يكون قوله : ]وتوبوا إلى الله[ أي ارجعوا عما قدمتم من المعاصي والمساوئ ، واجعلوا مكان ذلك طاعة له ليعفو عنكم ما قدمتم من المعاصي ، والله أعلم .