مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

أما قوله تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن } فالقول فيه على ما تقدم ، فإن قيل فلم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج ، قلنا لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر ، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه .

أما قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } فمن الأحكام التي تختص بها النساء في الأغلب ، وإنما قلنا في الأغلب لأنه محرم على الرجل أن يبدي زينته حليا ولباسا إلى غير ذلك للنساء الأجنبيات ، لما فيه من الفتنة وههنا مسائل :

المسألة الأولى : اختلفوا في المراد بزينتهن ، واعلم أن الزينة اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله تعالى وعلى سائر ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلى وغير ذلك ، وأنكر بعضهم وقوع اسم الزينة عل الخلقة ، لأنه لا يكاد يقال في الخلقة إنها من زينتها . وإنما يقال ذلك فيما تكتسبه من كحل وخضاب وغيره ، والأقرب أن الخلقة داخلة في الزينة ، ويدل عليها وجهان : الأول : أن الكثير من النساء ينفردن بخلقتهن عن سائر ما يعد زينة ، فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقه ، ولا يمنع دخول ما عدا الخلقة فيه أيضا . الثاني : أن قوله : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } يدل على أن المراد بالزينة ما يعم الخلقة وغيرها فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار ، وأما الذين قالوا الزينة عبارة عما سوى الخلقة فقد حصروه في أمور ثلاثة . أحدها : الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها والغمرة في خديها والحناء في كفيها وقدميها . وثانيها : الحلي كالخاتم والسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط . وثالثها : الثياب قال الله تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } وأراد الثياب .

المسألة الثانية : اختلفوا في المراد من قوله : { إلا ما ظهر منها } أما الذين حملوا الزينة على الخلقة ، فقال القفال معنى الآية إلا ما يظهره الإنسان في العادة الجارية ، وذلك في النساء الوجه والكفان ، وفي الرجل الأطراف من الوجه واليدين والرجلين ، فأمروا بستر ما لا تؤدي الضرورة إلى كشفه ورخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه وأدت الضرورة إلى إظهاره إذ كانت شرائع الإسلام حنيفية سهلة سمحة ، ولما كان ظهور الوجه والكفين كالضروري لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة ، أما القدم فليس ظهوره بضروري فلا جرم اختلفوا في أنه هل هو من العورة أم لا ؟ فيه وجهان : الأصح أنه عورة كظهر القدم ، وفي صوتها وجهان أصحهما أنه ليس بعورة ، لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يروين الأخبار للرجال ، وأما الذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فقالوا إنه سبحانه إنما ذكر الزينة لأنه لا خلاف أنه يحل النظر إليها حالما لم تكن متصلة بأعضاء المرأة ، فلما حرم الله سبحانه النظر إليها حال اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة ، وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوشمة والغمرة وزينة بدنها من الخضاب والخواتيم وكذا الثياب ، والسبب في تجويز النظر إليها أن تسترها فيه حرج لأن المرأة لابد لها من مناولة الأشياء بيديها والحاجة إلى كشف وجهها في الشهادة والمحاكمة والنكاح .

المسألة الثالثة : اتفقوا على تخصيص قوله : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } بالحرائر دون الإماء ، والمعنى فيه ظاهر ، وهو أن الأمة مال فلابد من الاحتياط في بيعها وشرائها ، وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على الاستقصاء بخلاف الحرة .

أما قوله تعالى : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } فالخمر واحدها خمار ، وهي المقانع . قال المفسرون : إن نساء الجاهلية كن يشددن خمرهن من خلفهن ، وإن جيوبهن كانت من قدام فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن ، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط به من شعر وزينة من الحلي في الأذن والنحر وموضع العقدة منها ، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء ، والباء للإلصاق ، وعن عائشة رضي الله عنها «ما رأيت خيرا من نساء الأنصار لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرت فأصبحن على رؤوسهن الغربان » وقرئ { جيوبهن } بكسر الجيم لأجل الياء وكذلك { بيوتا غير بيوتكم } .

فأما قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } فاعلم أنه سبحانه لما تكلم في مطلق الزينة تكلم بعد ذلك في الزينة الخفية التي نهاهن عن إبدائها للأجانب ، وبين أن هذه الزينة الخفية يجب إخفاؤها عن الكل ، ثم استثنى اثنتي عشرة صورة أحدها : أزواجهن . وثانيها : آباؤهن وإن علون من جهة الذكران والإناث كآباء الآباء وآباء الأمهات . وثالثها : آباء أزواجهن . ورابعها وخامسها : أبناؤهن وأبناء بعولتهن ، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا من الذكران والإناث كبني البنين وبني البنات . وسادسها : إخوانهن سواء كانوا من الأب أو من الأم أو منهما . وسابعها : بنو إخوانهن . وثامنها : بنو أخواتهن وهؤلاء كلهم محارم ، وههنا سؤالات :

السؤال الأول : أفيحل لذوي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل له في المؤمنة ؟ الجواب : إذا ملك المرأة وهي من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة ، بل لأمر يرجع إلى مزية الملك على اختلاف بين الناس في ذلك .

السؤال الثاني : كيف القول في العم والخال ؟ الجواب : القول الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر وهو قول الحسن البصري ، قال لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب وقال في سورة الأحزاب { لا جناح عليهن في آبائهن } الآية . ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم وقد ذكروا ههنا ، وقد يذكر البعض لينبه على الجملة . قال الشعبي : إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفهما العم عند ابنه الخال كذلك ، ومعناه أن سائر القرابات تشارك الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وأبناءهما ، فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم فيقرب تصوره لها بالوصف من نظره إليها ، وهذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر .

السؤال الثالث : ما السبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة ؟ الجواب : لأنهم مخصوصون بالحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن ولقلة توقع الفتنة بجهاتهن ، ولما في الطباع من النفرة عن مجالسة الغرائب ، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار وللنزول والركوب . وتاسعها : قوله تعالى : { أو نسائهن } وفيه قولان : أحدهما : المراد والنساء اللاتي هن على دينهن ، وهذا قول أكثر السلف . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها لقوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانهن } وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات . وثانيهما : المراد بنسائهن جميع النساء ، وهذا هو المذهب وقول السلف محمول على الاستحباب والأولى . وعاشرها : قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانهن } وظاهر الكلام يشمل العبيد والإماء ، واختلفوا فمنهم من أجرى الآية على ظاهرها ، وزعم أنه لا بأس عليهن في أن يظهرن لعبيدهن من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن ، وهو مروي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما ، واحتجوا بهذه الآية وهو ظاهر . وبما روى أنس «أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بها ، قال : «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك » وعن مجاهد : كان أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم . وعن عائشة رضي الله عنها : أنها قالت لذكوان : «إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر » . وروي أن عائشة رضي الله عنها : كانت تمتشط والعبد ينظر إليها ، وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم : إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ، واحتجوا عليه بأمور . أحدها : قوله عليه الصلاة والسلام : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم » والعبد ليس بذي محرم منها فلا يجوز أن يسافر بها ، وإذا لم يجز له السفر بها لم يجز له النظر إلى شعرها كالحر الأجنبي . وثانيها : أن ملكها للعبد لا يحلل ما يحرم عليه قبل الملك إذ ملك النساء للرجال ليس كملك الرجال للنساء ، فإنهم لم يختلفوا في أنها لا تستبيح بملك العبد منه شيئا من التمتع كما يملكه الرجل من الأمة . وثالثها : أن العبد وإن لم يجز له أن يتزوج بمولاته إلا أن ذلك التحريم عارض كمن عنده أربع نسوة فإنه لا يجوز له التزوج بغيرهن فلما لم تكن هذه الحرمة مؤبدة كان العبد بمنزلة سائر الأجانب . إذا ثبت هذا ظهر أن المراد من قوله : { أو ما ملكت أيمانهن } الإماء فإن قيل الإماء دخلن في قوله : { نسائهن } فأي فائدة في الإعادة ؟ قلنا الظاهر أنه عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن من في صحبتهن من الحرائر والإماء ، وبيانه أنه سبحانه ذكر أولا أحوال الرجال بقوله : { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } إلى آخر ما ذكر فجاز أن يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذ كانوا ذوي المحارم أو غير ذات المحارم ، ثم عطف على ذلك الإماء بقوله : { أو ما ملكت أيمانهن } لئلا يظن أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء إذ كان ظاهر قوله : { أو نسائهن } يقتضي الحرائر دون الإماء كقوله : { شهيدين من رجالكم } على الأحرار لإضافتهم إلينا كذلك قوله : { أو نسائهن } على الحرائر ، ثم عطف عليهن الإماء فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر . وحادي عشرها : قوله تعالى : { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قيل هم الذين يتبعونكم لينالوا من فضل طعامكم ، ولا حاجة بهم إلى النساء ، لأنهم بله لا يعرفون من أمرهن شيئا ، أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم ، ومعلوم أن الخصى والعنين ومن شاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع ويكون له إربة قوية فيما عداه من التمتع ، وذلك يمنع من أن يكون هو المراد . فيجب أن يحمل المراد على من المعلوم منه إنه لا إربة له في سائر وجوه التمتع ، إما لفقد الشهوة ، وإما لفقد المعرفة ، وإما للفقر والمسكنة ، فعلى هذه الوجوه الثلاثة اختلف العلماء . فقال بعضهم هم الفقراء الذين بهم الفاقة ، وقال بعضهم : المعتوه والأبله والصبي ، وقال بعضهم : الشيخ ، وسائر من لا شهوة له ، ولا يمتنع دخول الكل في ذلك ، وروى هشام بن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث فأقبل على أخي أم سلمة فقال يا عبد الله إن فتح الله لكم غدا الطائف دللتك على بنت غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان » فقال عليه الصلاة والسلام : «لا يدخلن عليكم هذا » فأباح النبي عليه الصلاة والسلام دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولي الإربة ، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهن علم أنه من أولي الإربة فحجبه ، وفي الخصى والمجبوب ثلاثة أوجه : أحدها : استباحة الزينة الباطنة معهما والثاني : تحريمها عليهما والثالثة : تحريمها على الخصى دون المجبوب .

المسألة الثانية : الإربة الفعلة من الأرب كالمشية والجلسة من المشي والجلوس والأرب الحاجة والولوع بالشيء والشهوة له ، والإربة الحاجة في النساء ، والإربة العقل ومنه الأريب .

المسألة الثالثة : في { غير } قراءتان قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر غير بالنصب على الاستثناء أو الحال يعني أو التابعين عاجزين عنهن والقراءة الثانية بالخفض على الوصفية . وثاني عشرها : قوله تعالى : { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الطفل اسم للواحد لكنه وضع ههنا موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ، ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونظيره قوله تعالى : { ثم نخرجكم طفلا } .

المسألة الثانية : الظهور على الشيء على وجهين : الأول : العلم به كقوله تعالى : { إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم } أي إن يشعروا بكم . والثاني : الغلبة له والصولة عليه كقوله : { فأصبحوا ظاهرين } فعلى الوجه الأول يكون المعنى أو الطفل الذين لم يتصوروا عورات النساء ولم يدروا ما هي من الصغر وهو قول ابن قتيبة ، وعلى الثاني الذين لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء ، وهو قول الفراء والزجاج .

المسألة الثالثة : أن الصغير الذي لم يتنبه لصغره على عورات النساء فلا عورة للنساء معه ، وإن تنبه لصغره ولمراهقته لزم أن تستر عنه المرأة ما بين سرتها وركبتها ، وفي لزوم ستر ما سواه وجهان : أحدهما : لا يلزم لأن القلم غير جار عليه . والثاني : يلزم كالرجل لأنه يشتهي والمرأة قد تشتهيه وهو معنى قوله : { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم ، وأما الشيخ إن بقيت له شهوة فهو كالشاب ، وإن لم يبق له شهوة ففيه وجهان : أحدهما : أن الزينة الباطنة معه مباحة والعورة معه ما بين السرة والركبة . والثاني : أن جميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة ، وههنا آخر الصور التي استثناها الله تعالى ، قال الحسن هؤلاء وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الباطنة فهم على أقسام ثلاثة ، فأولهم الزوج وله حرمة ليست لغيره يحل له كل شيء منها ، والحرمة الثانية للابن والأب والأخ والجد وأبي الزوج وكل ذي محرم والرضاع كالنسب يحل لهم أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساقين والذراع وأشباه ذلك ، والحرمة الثالثة هي للتابعين غير أولي الإربة من الرجال وكذا مملوك المرأة فلا بأس أن تقوم المرأة الشابة بين يدي هؤلاء في درع وخمار صفيق بغير ملحفة ، ولا يحل لهؤلاء أن يروا منها شعرا ولا بشرا والستر في هذا كله أفضل ، ولا يحل للشابة أن تقوم بين يدي الغريب حتى تلبس الجلباب ، فهذا ضبط هؤلاء المراتب .

أما قوله تعالى : { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } فقال ابن عباس وقتادة كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع قعقعة خلخالها ، ومعلوم أن الرجل الذي يغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة في مشاهدتهن ، وقد علل تعالى ذلك بأن قال : { ليعلم ما يخفين من زينتهن } فنبه به على أن الذي لأجله نهى عنه أن يعلم زينتهن من الحلي وغيره وفي الآية فوائد : الفائدة الأولى : لما نهى عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى . الثانية : أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها ، ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت والمرأة منهية عن ذلك . الثالثة : تدل الآية على حظر النظر إلى وجهها بشهوة إذا كان ذلك أقرب إلى الفتنة .

أما قوله سبحانه وتعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : في التوبة وجهان : أحدهما : أن تكاليف الله تعالى في كل باب لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها وإن ضبط نفسه واجتهد ، ولا ينفك من تقصير يقع منه ، فلذلك وصى المؤمنين جميعا بالتوبة والاستغفار وتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا . والثاني : قال ابن عباس رضي الله عنهما توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة ، فإن قيل قد صحت التوبة بالإسلام والإسلام يجب ما قبله فما معنى هذه التوبة ؟ قلنا قال بعض العلماء إن من أذنب ذنبا ثم تاب عنه لزمه كلما ذكره أن يجدد عنه التوبة ، لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه إلى أن يلقى ربه .

المسألة الثانية : قرئ { أيه المؤمنون } بضم الهاء ، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف ، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : تفسير لعل قد تقدم في سورة البقرة في قوله : { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } والله أعلم .