ثم أمر الله تعالى النساء بما أمر به الرجال . وزاد في أمرهن ، ما فرضه من رفض حالة الجاهلية المألوفة قبل لهن ، بقوله سبحانه :
{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } أي بالتستر والتصون عن الزنى كما تقدم . قال الزمخشري : النساء مأمورات أيضا بغض الأبصار . ولا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبته . وإن اشتهت غضت بصرها رأسا . ولا تنظر من المرأة إلا مثل ذلك . وغض بصرها من الأجانب أصلا ، أولى بها وأحسن . ومنه حديث ابن أم مكتوم . عن أم سلمة {[5823]} رضي الله عنها قالت : ( كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة . فأقبل ابن أم مكثوم . وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب . فدخل علينا . فقال : احتجبا . فقلنا : يا رسول الله ! أليس أعمى لا يبصرنا ! قال : أفعمياوان أنتما ؟ ألستما تبصرانه ؟ ) وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قال الزمخشري : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب : فما كان ظاهرا منها ، كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب ، فلا بأس بإبدائه للأجانب . وما خفي منها كالسوار والخلخال . والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط ، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين . وذكر الزينة دون مواقعها ، للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر . لأنه هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد ، لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء . وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن . فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع ، بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها ، لا مقال في حله – كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر ثابت القدم في الحرمة ، شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها .
( فإن قلت ) : لم سومح مطلقا في الزينة الظاهرة ؟ قلت : لأن سترها فيه حرج . فإن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح .
وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها . وخاصة الفقيرات منهن . وهذا معنى قوله : { إلا ما ظهر منها } يعني : إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور . انتهى .
وقال السيوطي في ( الإكليل ) : فسر ابن عباس قوله تعالى : { إلا ما ظهر منها } بالوجه والكفين . كما أخرجه ابن أبي حاتم . فاستدل به من أباح النظر إلى وجه المرأة وكفيها ، حيث لا فتنة . ومن قال : إن عورتها ما عداهما . وفسره ابن مسعود بالثياب ، وفسر الزينة بالخاتم والسوار والقرط والقلادة والخلخال . أخرجه ابن أبي حاتم أيضا . فهو دليل لمن لم يجز النظر إلى شيء من بدنها ، وجعلها كلها عورة { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } أي وليسترن بمقانعهن ، شعورهن وأعناقهن وقرطهن وصدورهن ، بإلقائها على جيوبهن أي مواضعها ، وهي النحر والصدر .
قال الزمخشري : كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها . وكن يسدلن الخمر من ورائهن ، فتبقى مكشوفة فأمرهن بأن يسدلنها من أقدامهن حتى يغطينها . ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور ، تسمية لما يليها ويلابسها ، ومنه قولهم ( ناصح الجيب ) .
قال أبو حيان : عدى { يضربن } ب{ على } لتضمنه معنى الوضع . وجعله الراغب مما يتعدى بها دون تضمين . و( الخمر ) جمع خمار يقال ( لغة ) لما يستر به . وخصصه العرف بما تغطي به المرأة رأسها . ومنه ( اختمرت ) المرأة و( تخمرت ) . و( الجيب ) ما جيب ، أي قطع من أعلى القميص . وهو ما يسميه العامة طوقا . وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها ، فليس من كلام العرب . كما ذكره ابن تيمية . كذا في ( العناية ) ثم كرر النهي عن إبداء الزينة لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه ، باعتبار الناظر بعدما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور ، بقوله تعالى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } أي فإنهم المقصودون بالزينة . ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج ، لكن بكراهة على المشهور .
وقال الإمام أبو الحسن بن القطان في كتاب ( إحكام النظر ) : عن أصبغ ، لا بأس به ، وليس بمكروه . وروى عن مالك لا بأس أن ينظر إلى الفرج في الجماع . ثم ذكر أن ما روي من أن ذلك يورث العمى ، فحديث لا يصح . لأن فيه ( بقية ) وقد قالوا ( بقية أحاديثه غير نقية ) ولم يؤثر عن العرب كراهة ذلك . وللنابغة والأعشى وأبي عبيد وابن ميادة وعبد الحساس والفرزدف ، في ذلك ما هو معروف .
وقوله تعالى : { أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } أي لأن هؤلاء محارمهن الذي تؤمن الفتنة من قبلهم . فإن آباءهن أولياءهن الذين يحفظونهن عما يسوءهن . وآباء بعولتهن يحفظون على أبنائهم ما يسوءهم وأبناؤهن من شأنهم خدمة الأمهات ، وهم منهن . وأبناء بعولتهن شأنهم خدمة الآباء وخدمة أحبابهم . وإخوانهن هم الأولياء بعد الآباء . وبنوهم أولياء بعدهم . وكذا بنو إخواتهن ، هم كبني إخوانهن في القربة فيتعيرون بنسبة السوء إلى الخالة . تعيرهم بنسبته إلى العمة . هذا ما أشار له المهايمي .
وأجمل ذلك الزمخشري بقوله : وإنما سومح في الزينة الخفية أولئك المذكورون . لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالفتهم . ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفرة عن ممارسة القرائب . وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك . وقوله تعالى : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } قيل : هن المؤمنات . أخذا من الإضافة . فليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية . وقيل : النساء كلهن . فإنهن سواء في حل نظر بعضهن إلى بعض .
قال في : ( الإكليل ) : فيه إباحة نظر المرأة إلى المرأة كمحرم . وروى ابن أبي حاتم عن عطاء ؛ أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما قدموا بيت المقدس ، كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات .
وقال الرازي : القول الثاني هو المذهب وقول السلف الأول محمول على الاستحباب والأولى .
وقوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أي لاحتياجهن إليهم . فلو منع دخولهم عليهن اضطررن . قاله المهايمي . وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء . وإليه ذهب قوم . قالوا : لا بأس عليهن في أن يظهرن لعبيدهن من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن . واحتجوا أيضا بما رواه أبو {[5824]} داود عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها . قال : وعلى فاطمة ثوب ، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأس . إنما هو أبوك وغلامك ) .
وجاء في ( تاريخ ابن عساكر ) أن عبد الله بن مسعدة كان أسود شديد الأدمة . وقد كان وهبه النبي صلوات الله عليه لابنته فاطمة . فربته ثم أعتقته . ثم كان ، بعد معاوية على علي . نقله ابن كثير ، فاحتمل أن يكون هو هو . والله أعلم .
وذهب قوم إلى أنه عنى بذلك الإماء المشركات ، وأنه يجوز لها أن تظهر زينتها إليهن وإن كن مشركات . قالوا : وسر إفراد الإماء مع شموله قوله : { نسائهن } لهن الإعلام بأن المراد من في صحبتهن من الحرائر والإماء لظهور الإضافة في { نسائهن } بالحرائر كقوله {[5825]} : { شهيدين من رجالكم } فعطفن عليهن ليشاركهن في إباحة النظر إليهن ، والقول الأول أقوى . لأن الأصل هو العمل بالعام حتى يقوم دليل على تخصيصه . لاسيما والحكمة ظاهرة فيه وهي رفع الحرج . وهذا الذي قطع به الشافعي وجمهور أصحابه .
قال في ( الإكليل ) : وعلى الأول استدل بإضافة اليمين على أنه ليس لعبد الزوج النظر . واستدل من أباحه بقراءة { أو ما ملكت أيمانكم } .
وقوله : { أَوِ التَّابِعِينَ } أي الخدم لأنهن في معنى العبيد { غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ } أي الحاجة إلى النساء { مِنَ الرِّجَالِ } كالشيخ الهرم والبله واستدل بهذا من أباح نظر الخصي . وقوله تعالى : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء } أي لم يفهموا أحوالهن ، لصغرهم . فيستدل به على تحريم نظر المراهق الذي فهم ذلك كالبالغ . كما في ( الإكليل ) .
قال الزمخشري : { يظهروا } إما من ( ظهر الشيء ) إذا طلع عليه ، أي لا يعرفون ما العورة ، ولا يميزون بينها وبين غيرها . وإما من ( ظهر على فلان ) إذا قوي عليه و( ظهر على القرآن ) أخذه وأطاقه أي لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء . و{ الطفل } مفرد وضع موضع الجمع بقرينة وصفه بالجمع . ومثله ( الحاج ) بمعنى الحجاج . وقال الراغب : إنه يقع على الجمع .
قال السيوطي في ( الإكليل ) : استدل بعضهم بقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا } الخ على أنه لا يباح النظر للعم والخال ، لعدم ذكرهما في الآية . أخرج ابن المنذر عن الشعبي وعكرمة ، قالا : ( لم يذكر العم والخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ، ولا تضع خمارها عند العم ، والخال ) .
وقال الرازي : القول الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر . وهو قول الحسن البصري : قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب . وقال في سورة الأحزاب {[5826]} : { لا جناح عليهن في آبائهن } الآية ولم يذكر فيها البعولة ولا أبنائهم . وقد ذكروا ها هنا . وقد يذكر البعض لينبه على الجملة .
ثم قال : في قول الشعبي من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر .
ثم أشار تعالى إلى أن الزينة ، كما يجب إخفاؤها عن البصر ، يجب عن السمع ، إن كانت مما تؤثر فيه ميلا ، بقوله سبحانه :
{ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } أي الأرض { لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ } أي عن الأبصار { مِن زِينَتِهِنَّ } كالخلخال . وهذا نهي عما كان يفعله بعضهن . وذلك أن من ضرب أرجلهن الأرض ليتحرك خلخالهن فيعلم أنهن متحلين به . فإن ذلك مما يورث الرجال ميلا إليهن ، ويوهم أن لهن ميلا إليهم .
قال الزمخشري : وإذ نهين عن إظهار صوت الحلي بعدما نهين عن إظهار الحلي ، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ . قيل : وإذا نهى عن استماع صوت حليهن ، فعن استماع صوتهن بالطريق الأولى . وهذا سد لباب المحرمات ، وتعليم للأحوط الأحسن ، لا سيما في مظان الريب وما يكون ذريعة إليها .
قال ابن كثير : يدخل في هذا النهي كل شيء من زينتها كان مستورا ، فتحركت بحركة ، لتظهر ما خفي منها . ومن ذلك ما ورد من نهيها عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشم الرجال طيبها . فروى الترمذي {[5827]} عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل عين زانية . والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا . يعني زانية ) .
قال : ومن الباب عن أبي هريرة . وهذا حديث حسن صحيح . ورواه أبو داود والنسائي . وروى الترمذي {[5828]} أيضا عن ميمونة بنت سعد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الرافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة ، لا نور لها ) . ومن ذلك أيضا ، نهيهن عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج . فروى أبو {[5829]} داود عن أبي أسيد الأنصاري : ( أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد ، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : استأخرن ، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق . عليكن بحافات الطريق . فكانت المرأة تلصق بالجدار ، حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به ) . وقوله تعالى :{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ } أي ارجعوا إليه بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه ، فإن مقتضى إيمانكم ذلك { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي لكي تفوزوا بسعادة الدارين .