فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 31 ) } .

{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } خص سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهن تحت خطاب المؤمنين تغليبا كما في سائر الخطابات القرآنية وظهر التضعيف في بغضضن ، ولم يظهر في بغضوا لأن لام الفعل من الأول متحركة ، ومن الثاني ساكنة ، وهما في موضع جزم جوابا للأمر . وبدأ سبحانه بالغض في الموضعين قبل حفظ الفرج . لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج . والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه .

وعن مقاتل قال : بلغنا . والله أعلم ، أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت يزيد كانت في نخل لها لبني حارثة . فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات فيبدو ما في أرجلهن . يعني الخلاخل ، وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء ما أقبح هذا ! فأنزل الله في ذلك وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن الآية .

وبالجملة أمر الله سبحانه المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار . فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ، ولا للمرأة أن تنظر إلى الرجل ، فإن علاقتها به كعلاقته بها وقصدها منها ، وقال مجاهد : إذا أقبلت المرأة جلس إبليس على رأسها فزينها لمن ينظر ، وإذا أدبرت جلس على عجيزتها فزينها لمن ينظر ، وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة وعشرين ضميرا للإناث ما بين مرفوع ومجرور ولم يوجد لها نظير في القرآن في هذا الشأن .

{ وَ } كذلك { يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } أي يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم ، أخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " قلت : يا نبي الله إذا كان القوم بعضهم في بعض ؟ قال : " إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها قلت : إذا كان أحدنا خاليا ؟ قال : فالله أحق أن يستحيا منه من الناس{[1290]} .

وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر وزنا اللسان النطق ، وزنا الأذنين السماع ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين الخطو ، والنفس تتمنى ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " {[1291]} .

وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة ، فمن تركها من خوف الله أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه " ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة{[1292]} .

{ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } أي ما يتزين به من الحلية وغيرها مثل الخلخال والخضاب في الرجل والسوار في المعصم والقرط في الأذن والقلائد في العنق فلا يجوز للمرأة إظهارها ولا يجوز للأجنبي النظر إليها ثم استثنى سبحانه من هذا النهي فقال :

{ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي ما جرت العادة والجبلة على ظهوره واختلف الناس في ظاهر الزينة ما هو ؟ فقال ابن مسعود وسعيد بن جبير : هو الثياب وزاد سعيد الوجه وقال عطاء والأوزاعي : الوجه والكفان وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة : هو الكحل والخاتم والسوار والخضاب في الكف إلى نصف الساق ونحو ذلك فإنه يجوز للمرأة أن تبديه وقال ابن عطية : إن المرأة لا تبدي شيئا من الزينة وتخفي كل شيء من زينتها ، ووقع الاستثناء فيما يظهر منها بحكم الضرورة ولا يخفى عليك أن ظاهر النظم القرآني النهي عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها كالجلباب والخمار ونحوهما مما في الكف والقدمين من الحلية ونحوها .

وإن كان المراد بالزينة مواضعها ، كان الاستثناء راجعا إلى ما يشق على المرأة ستره كالكفين والقدمين ونحو ذلك وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى الخطاب فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة وما تتزين به النساء فالأمر واضح والاستثناء يكون من الجميع .

قال القرطبي في تفسيره : الزينة على قسمين خلقية ومكتسبة فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة والمكتسبة ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها كالثياب والحلي والكحل والخضاب ومنه قوله تعالى : { خذوا زينتكم } وعن ابن مسعود قال : الزينة السوار والدملج والخلخال والقرط والقلادة إلا ما ظهر منها قال : الثياب والجلباب وعنه قال : الزينة زينتان زينة ظاهرة وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج فأما الزينة الظاهرة فالثياب وأما الزينة الباطنة فالكحل والسوار والخاتم وفي لفظ فالظاهرة منها الثياب وما خفي الخلخالان والقرطان والسواران .

وعن ابن عباس في الآية قال : الكحل والخاتم والقرط والقلادة وعنه قال : هو خضاب الكف والخاتم وعن ابن عمر قال : الزينة الظاهرة الوجه والكفان وقال ابن عباس : إلا ما ظهر منها أي وجهها وكفاها والخاتم وعنه قال : رقعة الوجه وباطن الكف وعن عائشة أنها سئلت عن الزينة الظاهرة فقالت : القلب والفتخ وضمت طرف كمها .

وأخرج أبو داود والبيهقي وابن مردويه عن عائشة أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال : " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه " {[1293]} . وهذا مرسل لأنه من طريق خالد بن دريك عن عائشة ولم يسمع منها وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها وخاصة الفقيرات منهن قال المحلى : فيجوز نظره أي نظر ما ظهر منها لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين ، والثاني يحرم لأنه مظنه الفتنة ورجح حسما للباب انتهى أي باب النظر عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبية .

{ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } الخمر جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها ومنه اختمرت المرأة وتخمرت والجيوب جمع جيب وهو موضع القطع من الدرع والقميص مأخوذ من الجوب وهو القطع وقيل المراد بالجيب هنا محله وهو العنق وإلا فهو في الأصل طوق القميص وعدي الضرب ب { على } لتضمينه معنى الإلقاء والباء زائدة أو تبعيضية .

وقال المفسرون : إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام واسعة فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب ليستر بذلك ما كان يبدو منها ، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو الإلصاق وقرئ خمرهن بتحريك الميم وبكسرها وكثير من متقدمي النحويين لا يجوزون الكسر قال الزجاج : يجوز أن تبدل من الضمة كسرة وأما ما روي عن حمزة من الجميع بين الضم والكسرة فمحال لا يقدر الإنسان أن يتكلم به إلا على الإيماء .

وقد فسر الجمهور الجيوب بما قدمنا ، وهو المعنى الحقيقي وقال مقاتل : إن معنى { على جيوبهن } على صدورهن ، فالمضاف محذوف ، أي على مواضع جيوبهن ، وقد أخرج البخاري في صحيحه وأبو داود ، والنسائي والبيهقي وغيرهم في سننهم ، عن عائشة قالت : رحم الله النساء المهاجرات الأولات ، لما أنزل الله { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شققن أكثف مروطهن فاختمرن به ، وأخرج الحاكم وصححه ، وابن جرير وغيرهما عنها بلفظ أخذ النساء أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها .

{ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } أي مواضع الزينة الباطنة ، وهي ما عدا الوجه الكفين ، كالصدر والساق والرأس ونحوها ، قال الخطيب : أي الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ، ولا للأجانب وقال أبو السعود : كرر النهي لاستثناء بعض مواضع الرخصة باعتبار الناظر ، بعدما استثنى بعض موارد الضرورة باعتبار المنظور فقال :

{ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } أي لا يدعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن ، والبعل هو الزوج والسيد في كلام العرب ، وقدم البعول لأنهم المقصودون بالزينة ، ولأن كل بدن الزوجة والسرية حلال لهم ، ومثله قول سبحانه { والذين هم لفروجهم حافظون ، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، فإنهم غير ملومين } ثم لما استثنى الله سبحانه الزوج أتبعه باستثناء ذوي المحارم فقال :

{ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } فجوز للنساء أن يبدين الزينة الباطنة لهؤلاء لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وعدم خشية الفتنة من قبلهم ، لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب وقد روي عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أن كانا لا ينظران إلى أمهات المؤمنين ، ذهابا منهما إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي قوله { لا جناح عليهن في آبائهن } ، والمراد بأبناء بعولتهن ذكور أولاد الأزواج ويدخل في قوله { أَوْ أَبْنَائِهِنَّ } أولاد الأولاد وإن سفلوا أو أولاد بناتهن وإن سفلوا وكذا آباء البعولة وآباء الآباء ، وآباء الأمهات ، وإن علوا وكذلك أبناء البعولة وإن سفلوا وكذلك أبناء الإخوة والأخوات .

وذهب الجمهور إلى أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم وقال الشعبي وعكرمة : ليس العم والخال من المحارم قال الكرخي : وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن منهم حذرا من أن يصفوهن لأبنائهم والمعنى أن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية إلا ابني العم والخال وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب ، وليس في الآية ذكر الرضاع وهو كالنسب .

{ أَوْ نِسَائِهِنَّ } أي : المختصات بهن من جهة الاشتراك في الإيمان ، الملابسات لهن بالخدمة أو الصحبة ، ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل الذمة وغيرهم ، فلا يحل لهن أن يبدين زينتهن لهن ، لأنهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال ، وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم ، قال ابن عباس : هن المسلمات لا تبديها ليهودية ولا نصرانية ، وهو النحر ، والقرط ، والوشاح وما يرحم أن يراه إلا محرم .

وأخرج سعيد بن منصور ، والبيهقي ، وابن المنذر ، عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة : أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المؤمنين يدخلن الحمامات ، مع نساء أهل الشرك ، فإنه من قبلك عن ذلك ، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها .

{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } فيجوز لهم نظرهن ، إلا ما بين السرة والركبة ، فيحرم نظره لغير الأزواج ، قاله المحلي : وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء ، من غير فرق بين أن يكونوا مسلمين ، أو كافرين . وبه قال جماعة من أهل العلم ، وإليه ذهبت عائشة ، وأم سلمة ، وابن عباس ، ومالك . وقال سعيد ابن المسيب : لا تغرنكم هذه الآية إنما عني بها الإماء ، ولم يعن بها العبيد ، وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته ، وهو قول عطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين وروي عن ابن مسعود ، وبه قال أبو حنيفة ، وابن جريج وقال ابن عباس : لا بأس أن يرى العبد شعر سيدته .

وأخرج البيهقي ، وأبو داود ، وغيرهما ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد قد وهب لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قنع به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما تلقى ، قال : " إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك ، وغلامك " وهو ظاهر القرآن . {[1294]}

وأخرج عبد الرزاق ، وأحمد ، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إذا كان لأحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي ، فلتحتجب منه " {[1295]} قال سليمان الجمل عن شيخه : فيجوز لهن أن يكشفن لهم ما عدا ما بين السرة والركبة ، ويجوز للعبيد أيضا أن ينظروا له ، وأن يكشفن لهن من أبدانهم ، ما عدا ما بين السرة والركبة ، لكن بشرط العفة ، وعدم الشهوة من الجانبين .

{ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } أصل الإربة ، والإرب ، والمأربة الحاجة ، والجمع مآرب ، أي : حوائج ، ومنه قوله سبحانه : { ولي فيها مآرب أخرى } قيل : المراد بغير أولى الإربة من الرجال الحمقاء الذين لا حاجة لهم في النساء ، وقيل . البله ، وقيل : العينين ، وقيل : الخصي ، وقيل : المخنث ، وقيل : الشيخ الكبير ، وقيل : هو المجبوب ، ولا وجه لهذا التخصيص ، بل المجبوب الذي بقي أنثياه ، والخصي الذي بقي ذكره ، والعنين والمخنث ، وهو المتشبه بالنساء ، والشيخ الهرم كالفحل . كذا أطلق الأكثرون .

وقال في الشامل : لا يحل للخصي النظر إلى أن يكبر ويهرم وتذهب شهوته ، وكذل المخنث ، وبه قال شيخه القاضي أبو الطيب ، وأطلق أبو مخلد البصري في الخصي ، والمخنث ، وجهين ، والمراد بالآية ظاهرها ، وهم من يتبع أهل البيت في فضول الطعام ، ولا حاجة له في النساء ، ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال ، فيدخل في هؤلاء من هو بهذه الصفة ، ويخرج من عداه . قال ابن عباس في الآية : هذا الذي لا تستحي منه النساء ، وعنه قال : هذا الرجل يتبع القوم وهو مغفل في عقله لا يكترث للنساء ، وعنه قال : كان الرجل يتبع الرجل في الزمان الأول لا يغار عليه ، ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده ، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء ، وعنه قال : هو المخنث الذي لا يقوم زبّه .

وأخرج مسلم وأبو داود ، والنسائي ، والبيهقي ، وغيرهم ، عن عائشة قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخنث ، فكانوا يدعونه من غير أولى الأربة فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما ، وهو عند بعض نسائه ، وهو يعنت امرأة ، قال : إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت بثمان . قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( ألا أرى هذا يعرف ما ههنا لا يدخلن عليكم ) فحجبوه{[1296]} .

{ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء } الطفل يطلق على المفرد ، والمثنى والمجموع . أو المراد به هنا الجنس ، الموضوع وضع الجمع ، بدلالة وصفه . بوصف الجمع ، وفي مصحف أبي : أو الأطفال . على الجمع قاله ابن قتيبة ، قيل : معناه لم يبلغوا حد الشهوة ، قاله الفراء ، والزجاج ، يقال : ظهرت على كذا إذا غلبته ، وقهرته ، والمعنى : لم يطلعوا على عورات النساء ، ويكشفوا عنها للجماع ، أو لم يبلغوا حد الشهوة للجماع ، وقيل : لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر ، وقيل : لم يبلغوا ، وأن القدرة على الوطء ، من : ظهر على فلان ، إذا قوي عليه ، وقيل : لم يحتلم .

قرأ الجمهور : عورات بسكون الواو ، تخفيفا لحرف العلة ، وهي لغة جمهور العرب وعامتها وقرئ بفتحها ، وهي لغة هذيل بن مدركة ، والعورات جمع عورة ، وهي ما يريد الإنسان ستره من بدنه ، وغلب في السوأتين . واختلف العلماء في وجوب ستر ما عدا الوجه والكفين من الأطفال فقيل لا يلزم ، لأنه لا تكليف عليه ، وهو الصحيح ، وقيل : يلزم ، لأنها قد تشتهي المرأة ، وهكذا اختلف في عورة الشيخ الكبير ، الذي قد سقطت شهوته ، والأولى بقاء الحرمة ، كما كانت ، فلا يحل النظر إلى عورته ، ولا يحل له أن يكشفها ، وقد اختلف العلماء في حد العورة .

قال القرطبي : أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل ، والمرأة ، وأن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها ، على خلاف في ذلك . وقال الأكثر : إن عورة الرجل من سرته إلى ركبته . قال ابن عباس : الزينة التي تبديها لهؤلاء قرطها وقلادتها ، وسوارها ، فأما خلخالها ، ومعضدها ، ونحرها ، وشعرها ! ، فإنها لا تبديها إلا لزوجها ، ومجموع هذه المستثنيات اثنا عشر نوعا .

{ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } أي : لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من يسمعه من الرجال فيعلمون أنها ذات خلخال ، فإن ذلك مما يورث الرجال ميلا إليهن ، ويوهم أن لهن ميلا إلى الرجال وهذا سد لباب المحرمات وتعليم للأحوط وإلا فصوت النساء ليس بعورة عند الشافعي ، فضلا عن صوت خلخالهن وقال الزجاج : وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها قال ابن عباس في الآية : وهو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال أو تكون في رجلها خلاخل ، فتحركهن عند الرجال ، فنهى الله عن ذلك ، لأنه من عمل الشيطان . وسماع صوت الزينة كإظهارها ومنه سمي صوت الحلي وسواسا فنبه به على أن الذي لأجله نهى عنه به ما عليهن من الحلي وغيره .

وفي القرطبي من فعل ذلك منهن فرحا بحليهن فهو مكروه ، ومن فعل ذلك منهن تبرجا وتعرضا للرجال فهو حرام مذموم وكذلك من ضرب بنعله الأرض من الرجال فعل ذلك عجبا حرم فإن العجب كبيرة ، وإن فعل ذلك تبرجا لم يحرم انتهى .

ثم أرشد سبحانه عبادة إلى التوبة عن المعاصي فقال :

{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ } مما وقع لكم من النظر الممنوع منه ومن غيره وفيه الأمر بالتوبة ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها وأنها فرض من فرائض الدين . قيل العبد لا يخلو عن سهو ويقصر في أوامره ونواهيه ، وإن اجتهد فلذا وصاهم جميعا بالتوبة ، وقد تقدم الكلام على التوبة في سورة النساء .

وقيل إن المراد بالتوبة هنا هي عما كانوا يعملونه في الجاهلية ، والأول أولى لما تقرر في السنة أن الإسلام يجبّ ما قبله ، وقد ورد أحاديث في الأمر بالتوبة والاستكثار منها قيل وأحوج الناس إلى التوبة من توهّم أنه ليس له حاجة إلى التوبة ، وظاهر الآية يدل على أن العصيان لا ينافي الإيمان ثم ذكر ما يرغبهم في التوبة فقال { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة أو تنجون من ذلك لقبول التوبة منه وفي الآية تغليب الذكور على الإناث .


[1290]:الترمذي كتاب الأدب باب 22، 39 ـ الإمام أحمد 5/4.
[1291]:مسلم 2657 ـ البخاري 2372.
[1292]:المستدرك كتاب الرقاق 4/314.
[1293]:أبو داوود كتاب اللباس باب 31.
[1294]:أبو داوود وكتاب اللباس باب 32.
[1295]:أبو داوود كتاب العتق الباب 1 أحمد بن حنبل 6/289 ـ 308 ـ 311.
[1296]:مسلم 2181 ـ أبو داوود ـ كتاب اللباس باب 33.