التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 31 ) }

( 1 ) زينتهن : المتبادر أنها الحلي : ويجوز أن يكون من مقاصد الكلمة ( مفاتن المرأة ) أي : نحورهن وظهورهن وصدورهن وسيقانهن وأذرعهن الخ ، وهذا يتبادر أكثر من جملة { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } الخ .

( 2 ) خمرهن : جمع خمار ، وهو غطاء كان النساء يتشحن أو يتقنعن به .

( 3 ) جيوبهن : جمع جيب : وهو شق الثوب الذي يظهر منه عادة بعض أجزاء البدن كالصدر والظهر .

( 4 ) نسائهن : النساء عامة في قول والنساء المسلمات خاصة في قول آخر .

( 5 ) غير أولى الإربة من الرجال : غير القادرين على المباشرة الجنسية .

( 6 ) الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء : بمعنى الأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة والرغبة الجنسية .

( 7 ) ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن : المتبادر أن المقصد هو الخلخال الذي يوضع في الرجل للزينة حيث يرن صوته إذا ضربت المرأة برجلها .

تعليق على الآية

{ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن . . . }الخ

ومدى ما فيها من آداب وبحث في سفور المرأة ونشاطها في مختلف الميادين .

عبارة الآية واضحة . وهي والآية السابقة لها تؤلفان فصلا واحدا كما هو المتبادر ، وقد أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يوعز إلى النساء أيضا بما أوعز به إلى الرجال من غض الأبصار وحفظ الفروج مضافا إلى ذلك ما هو متصل بطبيعتهن الجنسية من عدم إبداء ما يمكن إخفاؤه من الزينة . وستر شقوق ثيابهن التي تظهر منها مفاتن أجسادهن بأوشحتهن أو خمرهن . ومن إخفاء ما يجب إخفاؤه من زينتهن ومفاتنهن عن غير المذكور في الآية . ومن عدم تحريك أرجلهن بقصد إظهار ما هو خاف من زينتهن وحليهن فيها . وانتهت الآية بالهتاف بالمؤمنين جميعا بالتوبة إلى الله وطاعته لضمان الفوز والفلاح لأنفسهم

وواضح أن هدف الآية هو تنبيه النساء المسلمات إلى وجوب الغض من أبصارهن نحو الرجال بسبيل تجنب الإغراء والتورط في الإثم وإلى الاحتشام في اللباس وعدم التبذل في كشف ما لا يأتلف مع واجب الحياء ، وفيه إغراء للرجال وتوريط أمام غير المحارم .

وهكذا تكون الآية قد احتوت تقرير كون المرأة في الخطاب القرآني التشريعي الاجتماعي والتأديبي أيضا طرفا مسؤولا مثل الرجل كما هو شأنها في الخطاب التشريعي المالي والسياسي والتعبدي والقضائي والشخصي . وما قلناه في سياق الآية السابقة من سواغ تبادل النظر والكلام وكون القصد من جميع الأمر بالغض وحفظ الفروج هو النهي عن النظرة الأثيمة الشهوانية قال هنا أيضا فلا حاجة إلى التكرار .

وجملة { إلا ما ظهر منها } تعني كما هو المتبادر ما جرت العادة على ظهوره مثل الوجه والكفين على ما قاله بعض المفسرين ، ومثل الخاتم والخضاب والكحل والثياب وظهر الكفين بالإضافة إلى الوجه والكفين على ما قاله بعض آخر عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله والتابعين .

وليس بين هذا وبين ما جاء في سورة الأحزاب من تناقض سواء منه ما كان في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بما في ذلك تعبير ( من وراء حجاب } أم ما كان في حق جميع نساء المسلمين من الأمر بإدناء الجلابيب على ما شرحناه في سياق السورة المذكورة .

ولعل في أمر الرجال في الآية السابقة بالغض من أبصارهم دلالة قوية على ما كان جاريا سائغا وعلى ما في الآية من مفهوم وتسويغ ببروز المرأة سافرة الوجه واليدين أمام الناس زائرة ومزورة وساعية في أسباب الرزق والعمل والتصرفات المباحة لها والواجبات المطلوبة منها . والعلماء متفقون على أن وجه المرأة ويديها ليست عورة استدلالا من هذه الآية . وليس هناك أي أثر نبوي بستر المرأة لوجهها ويديها في الصلاة أو غيرها ، وهناك نهي نبوي عن ذلك في إحرامها على ما جاء في حديث ابن عمر الذي أوردناه قبل .

وهناك بعض أحاديث مؤيدة لذلك . منها حديث رواه الطبري عن عائشة جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها ، وإلا ما دون هذا وقبض على ذراع نفسه فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى ) ومنها حديث آخر رواه الطبري كذلك جاء فيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للمرأة أن تبدي من ذراعها إلى قدر النصف ) بالإضافة إلى وجهها وكفيها .

والمحارم المذكرون في الآية الذين أذن للمرأة إبداء زينتها أمامهم قد ذكروا في آية سورة الأحزاب ( 55 ) بزيادة آباء الأزواج وأبنائهم والتابعين غير أولي الإربة من الرجال . ولم يذكر الأعمام والأخوال هنا أيضا ومهما تكن الحكمة خافية في عدم ذكرهم هنا أيضا فإن نص آية سورة النساء ( 24 ) صريحة بأنهم من محارم المرأة المحرمة عليهم على ما ذكرناه أيضا في سياق آية الأحزاب المذكورة .

ووصف الرجال غير ذوي الإربة بالتابعين هو على ما يبدو لإخراج غير التابعين من النطاق حيث يتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك حتى لا تتبذل المرأة أمام غير محرم لا صلة لها به ، ولو كان غير ذي إربة .

ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن المقصود بهؤلاء الناس رجال كانوا يتبعون الناس للأكل ولا يكون لهم أرب في النساء فيأمن جانبهم ولا يتهربن منهم كما رووا عن بعض المؤولين سواغ دخول الحمقى والمغفلين والعنينين إطلاقا في نطاق الإباحة التي تضمنتها العبارة القرآنية . ونرى هذا وذاك مخالفين لتحديد الآية وهو ( التابعون ) الذي نعتقد أنهم الخدم ، وأن ما عداهم محظور عليهم الدخول على النساء في حالة تبذلهن ولو كانوا غير أولى قدرة جنسية وهذا ينطبق على المغفلين والحمقى والعنينين ، ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمنع دخول المخنثين على النساء كما جاء في حديث رواه الشيخان عن أم سلمة قالت ( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وفي البيت مخنث فقال المخنث لأخي أم سلمة : إن فتح الله لكم الطائف غدا أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبي : لا يدخل عليكم{[1505]} .

ولقد قلنا إن هناك من يؤول ( نسائهن ) بعموم النساء ومن يؤولها بالنساء المسلمات ، وهذا التعبير جاء في آية سورة الأحزاب المذكورة أيضا ، وقد رجحنا أنها تعني عموم النساء والله تعالى أعلم . أما إباحة ظهور المرأة بزينتها أمام ملك يمينها من الرجال فهي بسبب كونها محرمة عليهم فيعدون من محارمها وفي هذه السورة استدراك في شأن الأطفال وملك اليمين في أوقات التبذل في المخادع سنشرح مداه في مناسبته .

وفي صدد الأمر بضرب الخمر على الجيوب نقول : إن المتبادر أن الخمار مما كانت المرأة تستعمله في التقنع وتغطية الرأس والعنق فأمرت الآية بضربه على شقوق ثوبها لإخفاء مفاتن جسدها ، وإن الأمر على كل حال بسبيل فرض إخفاء هذه المفاتن ، وليس بسبيل فرض زي خاص . فإذا أخفيت هذه المفاتن بزي آخر حصل المقصود ، وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) {[1506]} وقد يفيد هذا أن خمار الرأس واجب ديني في الصلاة ، وليس كذلك في غيرها والله تعالى أعلم .

وبمناسبة هذه الآية نقول : إنه كما أنه ليس في القرآن ولا في الأحاديث ما يمنع النساء والرجال من الدخول على بعضهم في نطاق التلقينات والرسوم المشروحة سابقا فإنه ليس فيهما ما يمنع المرأة من أن تكون سافرة الوجه واليدين أمام الرجال غير المحارم إذا ما كانت ساترة لمفاتنها وغير مبدية لزينتها ومن أن تخرج من بيتها كذلك لقضاء حاجاتها وممارسة شؤونها على اختلاف أنواعها مما يدخل فيه تلقي العلم وغشيان المدارس والمساجد وشهود الاجتماعات العامة والاتجار والتكسب والعمل والمشاركة في الأعمال والواجبات الرسمية وغير الرسمية والاستمتاع بنعم الطبيعة ، وهو ما قرره لها القرآن حين قرر لها الأهلية السياسية والشخصية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والمشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتكافل والتضامن وخاطبها بكل ما خاطب به الرجل من تفكر وتعقل وتدبر في كتاب الله وآياته وكونه وكلفها بكل ما كلف به الرجل من واجبات وتكاليف إيمانية وتعبدية واقتصادية وسياسية وعقلية واجتماعية وشخصية ورتب لها وعليها كل ما رتب للرجل وعليه من النتائج الدنيوية والأخروية على قدم المساواة مما مرت مؤيداته وشرحه في مناسبات كثيرة سابقة ومما يأتي أيضا في مناسبات آتية .

وكل هذا في نطاق مدى هذه الآية وروحها وما احتوته من فكرة وهدف وتلقين من احتشام وبعد عن مواقف الريبة ودواعي الإغراء والفتنة والإثم والأمور والأعمال والمظاهر والأماكن غير المباحة في الشرع والأخلاق الكريمة مما هو محظور على الرجل والمرأة على السواء .

ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الترمذي عن ميمونة بنت سعد قالت ( قال النبي صلى الله عليه وسلم الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلة يوم القيامة لا نور لها ) وفي الحديث تأييد ما لإباحة بروز المرأة في غير أهلها في نطاق الاحتشام وكون المحظور عليها هو إبداء زينتها ومفاتنها على غير محارمها . وأورد حديثا آخر رواه أبو داود والترمذي جاء فيه ( كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية ) وهذا الحديث كسابقه لا يمنع المرأة من الخروج . والترائي للناس وإنما الذي يمنعه هو دواعي الفتنة والإغراء .

ويسوق بعضهم آية سورة الأحزاب { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } وهذه الآية من آيات موجهة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بدون أي لبس ولا تعميم . ومع ذلك فهناك أحاديث عديدة تفيد أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن لحاجتهن بإذن النبي ويخرجن في صحبته للغزوات والحج وينشطن في ميدان المعركة ويشهدن المساجد والمجالس . وظل أمرهن على ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث يمكن القول : إن الأمر في الآية هو في صدد الإكثار في الخروج والتبرج لضرورة وغير ضرورة ، ويصح أن يكون في هذا للمسلمات أسوة وتلقين ، ولا يتعارض مع ما قررناه آنفا .

ونستطرد إلى ما يقال ويثار حول اشتراك المرأة في الانتخابات والمجالس النيابية وما يدخل في بابها فنقول : إن هذا مما يتسق مع ما ذكرناه من أهليتها وحقوقها السياسية والاجتماعية واستقلال شخصيتها وشركتها مع الرجل في الإنسانية وواجباتها وأمانتها التي قررها لها القرآن ، وهي نصف المجتمع ، وكل ما يتقرر في هذه المجالس يتناولها كما يتناول الرجل على السواء ، فمن حقها أن يكون لها فيه رأي مثله . والقول إن هذا يشغلها عن طبيعتها الجنسية والاجتماعية قول فارغ لا يقف أمام الوقائع والحقائق . فالانتخابات تقع عادة في فترات متباعدة وتشغل من أوقات الناس أياما قليلة والمرشحون للمجالس أفراد قليلون ، فليس في كل هذا ما يصرف جمهور النساء بل ولا جمهور الرجال عن أعمالهم المعتادة .

ويحتج بعض بأن المرأة في الصدر الإسلامي لم تشترك في شؤون الدولة والحياة الاجتماعية بمقياس واسع . ومر هذا إلى طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية في ذلك الزمن ، وليس من شأنه أن يعطل الأحكام والتلقينات والمباحات القرآنية كما هو ظاهر ، وحكمة الله التي شاءت أن تمنح المرأة ما منحتها من أهلية وحقوق وشخصية لا يمكن أن تكون فعلت ذلك عبثا وليبقى معطلا . ومع ذلك ففي ثنايا التاريخ الإسلامي أحداث ومشاهد كثير علمية وسياسية واجتماعية كان للمرأة فيها بروز حسب ما كان ممكنا ومتسقا مع العصر .

ويحتج بعضهم بآية سورة النساء { الرجال قوامون على النساء } ( 34 ) وقد علقنا على هذه الآية بما يزيل الوهم الذي يتبادر منها ويجعل الاحتجاج في غير محله . ويحتج البعض بجهل المرأة وغفلتها ، وهذا كذلك كلام فارغ ، فالسواد الأعظم من الرجال في البلاد الإسلامية جاهلون غافلون . ولم يقل أحد إنهم يجب أن يحرموا من حقوقهم السياسية والاجتماعية بسبب ذلك ، وهو إلى هذا في سبيل الزوال ؛ لأن المرأة كالرجل سائرة في طلب العلم والمعرفة في كل الميادين ، ويورد البعض الحديث الذي يذكر فيه ( إن المرأة ناقصة عقل ودين ) وقد أوردناه في مناسبات سابقة وعلقنا بما يزيل الوهم من كونه عاما لجميع النساء . ويورد البعض الحديث الذي يندد بالقوم الذين يولون أمرهم امرأة ، وليس هذا المقام هو محل إيراد هذا الحديث عند إنعام النظر والفكر . ويورد بعضهم الحديث الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فيه المتشبهين بالرجال من النساء والمتشبهين بالنساء من الرجال ، ولسنا نرى في هذا نقصا لما نقرره ؛ لأننا لسنا قائلين بأن تضيع المرأة أنوثتها وطبيعتها وتتشبه في أطوارها وحركاتها وأزيائها بالرجال تشبها يذهب بتلك المعالم والطبيعة أو يعطلها وما نراه يصح للمرأة المسلمة عمله إنما يصح ويكون له معناه في حالة احتفاظ المرأة بهذه المعالم والطبيعة وفي سبيل ذلك .

ونريد أن نستدرك أمرا ، وهو أن ما قلناه في صدد المرأة المسلمة أن تباشر وتمارس وتشهد كل عمل واجتماع مشروع ليس فيه ريبة ، شخصيا كان أم اجتماعيا أم سياسيا أم تكسبيا ، وأنه ليس هناك نص من كتاب وسنة يمنع ذلك ما دام في نطاق التلقينات والحدود والرسوم القرآنية والنبوية ، إنما نقوله لنقرر هذا الأمر من حيث المبدأ . وإننا لا نعني أن لا يكون لطبيعة المرأة الأسرية والاجتماعية ولا لطبيعة المجتمع الإسلامي من اعتبار . فنحن نعتقد أن مكان المرأة وعملها الطبيعيين والرئيسيين هما البيت والزوجية والأمومة ومشاغلها . وهذا مما يقرره كتاب الله وسنة رسوله صراحة وضمنا ، وهما مكان وعمل خطيران ، ومهمتان حيويتان في الحياة الإنسانية من مختلف الاعتبارات ، وليس فيهما أي حط لقيمة المرأة وشأنها أو تعطيل لقواها ومواهبها ، والمرأة فيهما تقوم بما يماثل قيمة ومدى ما يقوم به الرجل من أعمال . وكل ما هناك من فرق هو اختلاف في النوع متأت عن اختلاف في الطبيعة الجنسية . ولقد اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم ربة البيت والمسؤولة عنه وراعية في الحديث الصحيح المشهور الذي رواه الخمسة عن ابن عمر ( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) ؛ حيث جاء فيه ( والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم ) وهذا ما تشعر به المرأة ظاهرا وخفيا ، وتسلم به وتسعى في سبيله .

ولو سئلت النساء عما يفضلنه لكان جواب سوادهن الأعظم الزواج والأمومة والبيت ، ويستوي في ذلك كلهن على اختلاف الظروف والحالات والأدوار والأطوار ؛ لأنه الأمر الطبيعي الذي أعدهن الله تعالى له . وعلى هذا كله فكل عمل يمكن أن يخل إخلالا جوهريا بذلك يخرج عن صفة ( المشروع ) ، ولو كان في حد ذاته مشروعا وكل عمل مشروع يصح أن تمارسه المرأة في نطاق الاحتشام يجب أن يكون متسقا مع ذلك .

فالمرأة التي تسمح لها مشاغل البيت والزوجية والأمومة ، أو المرأة التي لم يتيسر لها أن تشتغل بهذه المشاغل هي التي يصح أن تمارس ذلك العمل المشروع الذي لا تمنع الشريعة الإسلامية ممارسته .

وهناك أمران آخران ، الأول : هو ملاحظة كون الرجل في الشريعة الإسلامية هو المكلف بالإنفاق على المرأة ، وهو المرشح الأول والطبيعي نتيجة لذلك للأعمال التكسبية التي يجني منها ما يحتاج إليه من النفقة المكلف بها . فإذا اندفعت المرأة نحو الأعمال التكسبية من وظائف ومهن اندفاعا واسعا فيه احتمال لمزاحمة الرجل وتضييق مجال وفرص تكسبه ، مكانا أو مقدارا أو قيمة ، أصبح ذلك غير مشروع ؛ لأنه يعطل أو يعسر واجب الرجل الذي أناطت الشريعة الإسلامية به الإنفاق في حين أنه لا يكون في الأعم الأغلب بديلا عنه ، فضلا عن أنه لا يصح أن يكون بديلا عنه ؛ لأن ذلك يكون قلبا للأوضاع الطبيعية والجنسية والشرعية ، فالحق عندنا والحالة هذه هو أن يكون اضطلاع المرأة بالأعمال التكسبية في النطاق الذي لا يضار به الرجل من جهة ، ومنوطا بالدرجة الأولى بالحاجة والضرورة من جهة أخرى .

أما الأمر الثاني : فهو مراعاة وجوب انطباق الأعمال التكسبية التي تضطلع بها المرأة في النطاق المذكور على طبيعتها الجنسية ، وأن لا تكون مما يرهقها ويذهب بأنوثتها أكان ذلك مما تؤهلها له ثقافتها ودراستها أم بنيتها وخبرتها ومرانها . فالطبابة والصيدلة والتعليم والمحاسبة والكتابة مثلا أكثر انطباقا على المرأة الجامعية من هندسة الطرق والميكانيكيات المتنوعة ، والغزل والزخرف والخياطة والتطريز والرسم والتجارة والعمل الديواني والهاتف مثلا أكثر انطباقا على غير الجامعية من الحدادة والنجارة والنحاتة والطباعة الخ والله تعالى أعلم .

وقبل أن ننتهي من هذا البحث نريد أن نستدرك أمرا مستلهما من حديث أوردناه في تفسير سورة الروم رواه أصحاب السنن جاء فيه جواب على سؤال : أي النساء خير ؟ فقال النبي ( الذي تسره إذا نظر ، وتطيعه إذا أمر ، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره ) ولقد علقنا على هذا الحديث سابقا بما فيه الكفاية . ولكن نقول هنا : إنه يحسن على ضوئه أن يكون نشاط المرأة المتزوجة خارج البيت سياسيا كان أو اجتماعيا أم تكسبيا مقترنا برضاء الزوج ؛ لأن عدم رضاه قد يؤدي إلى النزاع والشقاق وعلى الزوج العاقل الذي لا بد من أن يدرك من نصوص كتاب الله وأحاديث النبي أن المرأة مؤهلة لذلك النشاط ، وأنه غير مخالف للكتاب والسنة ، وإن فيه مصلحة وفائدة عامة وخاصة أن يرضى عنه ويباركه ولا يضع العراقيل في طريقه إذا لم يكن حقا شاغلا للزوجة عن واجباتها الزوجية الأساسية . إما إذا لم يفعل رغم ذلك ورأت الزوجة أن معارضة زوجها ضارة بها فلها إذا أحبت أن تدافع عن نفسها وحقها إذا كانت ترى أن نشاطها مشروعا لا بد منه لمصلحتها ومصلحة زوجيتها ومجتمعها اقتداء بالمرأة التي فعلت ذلك وأقرها الله ورسوله عليه على ما جاء في أول سورة المجادلة { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . . . } ( 1 ) وأن ترفع الأمر إلى الحاكم ليحل الخلاف ويقر الأمر في نصابه الحق في نطاق ومدى آية سورة النساء { وإن خفتم شقاق بينهما . . . } ( 35 ) التي شرحناها سابقا والله أعلم .

وكلمة أخرى نقولها في صدد واجب الزوجة بطاعة زوجها أن يكون ذلك في معروف وفي غير معصية ومنكر وفيه خير ومصلحة . وهذا مستلهم من آية سورة الممتحنة التي أمر النبي فيها بقبول بيعة النساء بعد عصيانه في معروف { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرفن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن . . . } ( 12 ) ومن حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ){[1507]} فإذا أمر زوج زوجته بأمر فيه منكر وليس فيه خير ومصلحة فلا طاعة لها عليها ، وإن أصر فلها أن تدافع عن نفسها وترفع أمرها إلى الحاكم ليضع الأمر في نصابه الحق .

هذا ، وواضح من كل ما تقدم في سياق الآيات التي نحن في صددها والتي قبلها أن الآداب والتلقينات والحدود القرآنية والنبوية ترسم لحياة المرأة وعلاقتها بالمجتمع نطاقا تدور فيه من غير إفراط ولا تفريط . وتكفل لها جميع حاجاتها وتسمح لها بكل ما يأتلف مع الحق والمنطق والأدب والخلق الكريم والذوق السليم والعفة والطهارة من حرية وتعليم ومن تصرف وكسب واستمتاع بريء ومشاركة في الواجبات العامة الرسمية وغير الرسمية والاجتماعية وغير الاجتماعية . وكل ما تشدد عليه هو عدم تبذلها وتهتكها . وإذا كان لها أن تختلط في الناس والمجتمع في هذا النطاق فإن الاختلاط المريب الذي فيه تورط في الفتنة وإغراء بها وتشجيع على الإثم والخفة في الظهور بدون ضرورة وغشيان الأماكن العامة البريئة من مراقص وملاه ومقاه وملاعب وأندية ومسابح وتعاطي المحرمات والمغريات فيها هو حرام وخارج عن ذلك النطاق من دون ريب . هذا بالإضافة إلى وجوب التزامها نطاق وظيفتها الطبيعية الرئيسية وهي البيت والزوجية والأمومة في الدرجة الأولى وعدم استغراقها خارج ذلك استغراقا يعطلها عن هذه الوظيفة .

وليس من ريب في أن التعاليم القرآنية والنبوية تهيء لأولي الأمر في الدولة وسيلة عقيدية لتنظيم الأمر وجعله في دائرة الحق والآداب من جهة والحيلولة دون ما يتنافى مع ذلك من جهة وضمانة تمتع المرأة بحريتها وحقوقها وتعليمها ومشاركتها في مختلف الشؤون السياسية والاجتماعية في النطاق المرسوم من جهة ومواجهة وضد التيارات الغربية الجارفة الهدامة التي تهدد المجتمع الإسلامي من جهة . والله تعالى أعلم .


[1505]:التاج ج 2 ص 301 ونرجح أن النبي قصد بالنهي دخول المخنث على النساء في حالة تبذلهن وإنه لا حرج في غير هذه الحالة إذا ما كان وفق التلقينات القرآنية والنبوية المشروحة سابقا.
[1506]:التاج ج 1 ص 140
[1507]:التاج ج3 ص 40