بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

قوله عز وجل : { وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن } ، يعني : يحفظن أبصارهن عن الحرام ، { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } عن الفواحش ، { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } ؛ يعني : لا يظهرن مواضع زينتهن ، { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } . روى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : وجهها وكفيها ، وهكذا قال إبراهيم النخعي . وروي أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الوجه والكفان ، وهكذا قال الشعبي . وروى نافع ، عن ابن عمر أنه قال : الوجه والكفان ، وقال مجاهد : الكحل والخضاب . وروى أبو صالح ، عن ابن عباس : الكحل والخاتم . وروي ، عن ابن عباس في رواية أُخرى ، إلا ما ظهر منها ، أي فوق الثياب . وروى أبو إسحاق ، عن ابن مسعود أنه قال : ثيابها ، وروي عن ابن مسعود رواية أُخرى أنه سئل عن قوله : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } فتقنع عبد الله بن مسعود ، وغطى وجهه وأبدى عن إحدى عينيه .

ثم قال : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } ، يعني : على الصدر والنحر . قال ابن عباس : وكان النساء قبل هذه الآية يسدلن خمرهن من ورائهن ، كما تفعل النبط . فلما نزلت هذه الآية ، سدلن الخمر على الصدر والنحر . ثم قال : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } ، يعني : لا يظهرن مواضع زينتهن ، وهو الصدر والساق والساعد والرأس ، لأن الصدر موضع الوشاح ، والساعد موضع الخلخال ، والساق موضع السوار ، والرأس موضع الإكليل ، فقد ذكر الزينة وأراد بها موضع الزينة . { إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } ، يعني : لأزواجهن ، { أو آبائهن } ؛ يعني : يجوز للآباء النظر إلى مواضع زينتهن ، { أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن } . وقد ذكر في الآية بعض ذوي الرحم المحرم ، فيكون فيه دليل على ما كان بمعناه ، لأنه لم يذكر فيها الأعمام والأخوال ، ولكن الآية إذا نزلت في شيء ، فقد نزلت فيما هو في معناه ، والأعمام والأخوال بمعنى الإخوة وبني الإخوة ، لأنه ذو رحم محرم . وقد ذكر الأبناء في آية أُخرى ، وهي قوله : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَآءِ إخوانهن وَلاَ أَبْنَآءِ أخواتهن وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ واتقين الله إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً } [ الأحزاب : 55 ] .

والنظر إلى النساء على أربع مراتب : في وجه يجوز النظر إلى جميع أعضائها ، وهو النظر إلى زوجته وأمته ، وفي وجه يجوز النظر إلى الوجه والكفين ، وهو النظر إلى المرأة التي لا يكون محرماً لها ، ويأمن كل واحد منهما على نفسه ، فلا بأس بالنظر عند الحاجة ؛ وفي وجه يجوز النظر إلى الصدر والرأس والساق والساعد ، وهو النظر إلى امرأة ذي رحم أو ذات رحم محرم ، مثل الأخت والأم والعمة والخالة وأولاد الأخ والأخت وامرأة الأب وامرأة الابن وأم المرأة سواء كان من قبل الرضاع أو من قبل النسب ، وفي وجه لا يجوز النظر إلى شيء ، وهو أن يخاف أن يقع في الإثم إذا نظر .

ثم قال تعالى : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } يعني : نساء أهل دينهن ويكره للمرأة أن تظهر مواضع زينتها عند امرأة كتابية لأنها تصف ذلك عند غيرها ويقال : نسائهن يعني : العفائف ولا ينبغي أن تنظر إليها المرأة الفاجرة ، لأنها تصف ذلك عند الرجال . ثم قال : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } ، يعني : الجواري ، فإنها نزلت في الإماء ؛ وقال سعيد بن المسيب : لا تغرنكم هذه الآية . { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } ، يعني : الجواري ، فإنها نزلت في الإماء لا ينبغي للمرأة أن ينظر العبد إلى شعرها ، ولا إلى شيء من محاسنها ؛ وقال مجاهد : في بعض القراءات { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } ، الذين لم يبلغوا الحلم . وروى سفيان ، عن ليث قال : كان بعضهم يقرأ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن } من الصغار وقال الشعبي : لا ينظر العبد إلى مولاته ، ولا إلى شعرة منها .

ثم قال تعالى : { أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة } ، يعني : الخادم أو الأجير للمرأة ، يعني : غير ذوي الحاجة مثل الشيخ الكبير ونحوه ، وقال مجاهد : هو الذي لا إرب له ، أي لا حاجة له بالنساء ، مثل فلان ، وكذا روى الشعبي عن علقمة ، وقال الحسن والزهري : { غير أولي الإربة } هو الأحمق ؛ وقال الضحاك هو الأبله ؛ ويقال : هو الذي طبعه طبع النساء ، فلا يكون له شهوة الرجال . وسئلت عائشة رضي الله عنها هل يرى الخصي حسن المرأة قالت : لا ، ولا كرامة ، أليس هو رجل ؟ قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { غَيْرِ أُوْلِى الإربة } بنصب الراء ، وقرأ الباقون بالكسر . فمن قرأ بالكسر ، يكون على النعت للتابعين ، فيكون معناها التابعين الذين هذه حالهم ؛ ومن نصب ، أراد به الاستثناء ، والمعنى إلا أولي الإربة .

ثم قال : { مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء } ، يعني : لم يطلعوا ولم يشتهوا الجماع . ثم قال : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } ، يعني : لا يضربن بإحدى أرجلهن على الأخرى ليقرع الخلخال بالخلخال ، { لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } ؛ يعني : ما يواري الثياب من زينتهن . وروى سفيان ، عن السدي قال : كانت المرأة تمر على المجلس وفي رجلها الخلخال ؛ فإذا جازت بالقوم ، ضربت رجلها ليصوت خلخالها ، فنزلت : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } وقال بعض المفسرين : قد علم الله تعالى أن من النساء من تكون حمقاء ، فتحرك رجلها ليعلم أن لها خلخالاً ، فنهي النساء أن يفعلن ، كما تفعل الحمقاء .

ثم قال : { وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً } ، يعني : من جميع ما وقع التقصير من الأوامر والنواهي التي ذكر من أول السورة إلى هاهنا .

{ أَيُّهَا المؤمنون } ، يعني : أيها المصدقون بالله ورسوله ، وفي هذه الآية دليل أن الذنب لا يخرج العبد من الإيمان ، لأنه أمر بالتوبة . والتوبة لا تكون إلا من الذنب ، ولم يفصل بين الكبائر وغيرها ، فقال ، بعدما أمر بالتوبة { أَيُّهَا المؤمنون } ، سماهم مؤمنين بعد الذنب . ثم قال : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، أي تنجون من العذاب . قرأ ابن عامر { أَيُّهَ } بضم الهاء ، وكذلك في قوله : { وَقَالُواْ يأَيُّهَ الساحر } ، { أَيُّهَ الثقلان } ، وقرأ الباقون بالنصب .