معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (157)

156

قوله تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو نبيكم ، كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) . وهو منسوب إلى الأم ، أي هو على ما ولدته أمه . وقيل : هو منسوب إلى أمته ، أصله أمتي ، سقطت التاء في النسبة كما سقطت في المكي والمدني ، وقيل : هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة .

قوله تعالى : { الذي يجدونه } أي : يجدون صفته ونعته ونبوته .

قوله تعالى : { مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثنا هلال ، عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، قال : أجل والله ، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، ويفتح به أعيناً عمياً ، وآذاناً صماً ، وقلوباً غلفاً ) . تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة .

وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن ابن سلام ، أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني ، أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ، أنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر ابن بسطام ، أنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي ، حدثنا عبد الله ابن عثمان ، عن أبي حمزة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن عبد الله بن ضمرة عن كعب قال : إني أجد في التوراة مكتوباً : محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحمادون ، يحمدون الله في كل منزلة ، ويكبرونه على كل نجد ، يأتزرون على أنصافهم ، ويوضئون أطرافهم ، صفهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء ، مناديهم ينادي في جو السماء ، لهم في جوف الليل دوي النحل ، مولده بمكة ، ومهاجره بطابة ، وملكه بالشام .

قوله تعالى : { يأمرهم بالمعروف } أي : بالإيمان .

قوله تعالى : { وينهاهم عن المنكر } أي : عن الشرك ، وقيل : المعروف : الشريعة والسنة ، والمنكر : مالا يعرف في شريعة ولا سنة ، وقال عطاء : { يأمرهم بالمعروف } بخلع الأنداد ، ومكارم الأخلاق ، وصلة الأرحام ، { وينهاهم عن المنكر } : عن عبادة الأوثان ، وقطع الأرحام .

قوله تعالى : { ويحل لهم الطيبات } يعني : ما كانوا يحرمونه في الجاهلية من البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام .

قوله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } يعني : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، والزنا وغيرها من المحرمات .

قوله تعالى : { ويضع عنهم إصرهم } ، قرأ ابن عامر ( آصارهم ) بالجمع ، والإصر : كل ما يثقل على الإنسان من قول أو فعل ، قال ابن عباس ، والحسن ، والضحاك ، والسدي ، ومجاهد ، يعني العهد الثقيل ، كان أخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة . وقال قتادة : يعني التشديد الذي كان عليهم في الدين .

قوله تعالى : { والأغلال } ، يعني : الأثقال .

قوله تعالى : { التي كانت عليهم } ، وذلك مثل : قتل النفس في التوراة ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض النجاسة عن الثوب بالمقراض ، وتعيين القصاص في القتل ، وتحريم أخذ الدية ، وترك العمل في السبت ، وأن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس ، وغير ذلك من الشدائد ، شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق .

قوله تعالى : { فالذين آمنوا به } ، أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { وعزروه } . وقروه .

قوله تعالى : { ونصروه } على الأعداء .

قوله تعالى : { واتبعوا النور الذي أنزل معه } . يعني : القرآن .

قوله تعالى : { أولئك هم المفلحون } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (157)

138

( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) .

وإنه لنبأ عظيم ، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي ، على يدي نبيهم موسى ونبيهم عيسى - عليهما السلام - منذ أمد بعيد . جاءهم الخبر اليقين ببعثه ، وبصفاته ، وبمنهج رسالته ، وبخصائص ملته . فهو ( النبي الأمي ) ، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به . وأتباع هذا النبي يتقون ربهم ، ويخرجون زكاة أموالهم ، ويؤمنون بآيات الله . . وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي ؛ ويعظمونه ويوقرونه ، وينصرونه ويؤيدونه ، ويتبعون النور الهادي الذي معه ( أولئك هم المفلحون ) . .

وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل - على يد نبيهم موسى عليه السلام - كشف الله سبحانه عن مستقبل دينه ، وعن حامل رايته ، وعن طريق أتباعه ، وعن مستقر رحمته . . فلم يبق عذر لأتباع سائر الديانات السابقة ، بعد ذلك البلاغ المبكر بالخبر اليقين .

وهذا الخبر اليقين من رب العالمين لموسى عليه السلام - وهو والسبعون المختارون من قومه في ميقات ربه - يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي الأمي وللدين الذي جاء به . وفيه التخفيف عنهم والتيسير ، إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين !

إنها الجريمة عن علم وعن بينة ! والجريمة التي لم يألوا فيها جهداً . . فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلق وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به . . اليهود أولاً والصليبيون أخيراً . . وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ودينه وأهل دينه كانت حرباً خبيثة ماكرة لئيمة قاسية ؛ وأنهم أصروا عليها ودأبوا ؛ وما يزالون يصرون ويدأبون !

والذي يراجع - فقط - ما حكاه القرآن الكريم من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين - وقد سبق منه في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة ما سبق - يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع هذا الدين في عناد لئيم !

والذي يراجع التاريخ بعد ذلك - منذ اليوم الذي استعلن فيه الإسلام بالمدينة ، وقامت له دولة - إلى اللحظة الحاضرة ، يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدين وإرادة محوه من الوجود !

ولقد استخدمت الصهيونية والصليبية في العصر الحديث من ألوان الحرب والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية . . وهي في هذه الفترة بالذات تعالج إزالة هذا الدين بجملته ؛ وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة . . لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جربتها في القرون الماضية كلها - بالإضافة إلى ما استحدثته منها - جملة واحدة !

ذلك في الوقت الذي يقوم ممن ينتسبون إلى الإسلام ناس يدعون في غرارة ساذجة إلى التعاون بين أهل الإسلام وأهل بقية الأديان للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد ! أهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان ؛ ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في الأندلس - سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا وإفريقية أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويسندونها في البلاد [ المستقلة ! ] لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانية ! تنكر " الغيبية " لأنها " علمية ! " و " تطوّر " الأخلاق لتصبح هي أخلاق البهائم التي ينزو بعضها على بعض في " حرية ! " ، و " تطوّر " كذلك الفقه الإسلامي ، وتقيم له مؤتمرات المستشرقين لتطويره . كيما يحل الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات الإسلامية ! !

إنها المعركة الوحشية الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا الدين ، الذي بشروا به وبنبيه منذ ذلك الأمد البعيد . ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (157)

{ الذين يتبعون الرسول النبي } مبتدأ خبره يأمرهم ، أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين ، أو بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل ، والمراد من آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما سماه رسولا بالإضافة إلى الله تعالى ونبيا بالإضافة إلى العباد . { الأمّيّ } الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وصفه به تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته . { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } اسما وصفة . { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات } مما حرم عليهم كالشحوم . { ويحرّم عليهم الخبائث } كالدم ولحم الخنزير أو كالربا والرشوة . { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص في العمد والخطأ ، وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة ، وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله . وقرأ ابن عامر " آصارهم " . { فالذين آمنوا به وعزّروه } وعظموه بالتقوية . وقرئ بالتخفيف وأصله المنع ومنه التعزير . { ونصروه } لي . { واتبعوا النور الذي أُنزل معه } أي مع نبوته يعني القرآن ، وإنما سماه نورا لأنه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره ، أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها ، ويجوز أن يكون معه متعلقا باتبعوا أي واتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي فيكون إشارة إلى اتباع الكتاب والسنة . { أولئك هم المفلحون } الفائزون بالرحمة الأبدية ، ومضمون الآية جواب دعاء موسى صلى الله عليه وسلم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (157)

تقديم وصف الرسول لأنه الوصف الأخص الأهم ، ولأن في تقديمه زيادة تسجيل لتحريف أهل الكتاب ، حيث حذفوا هذا الوصف ليصير كلام التوراة صادقاً بمن أتى بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل ، ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم اتشهر بوصف النبي الأمي ، فصار هذا المركب كاللقب له ، فلذلك لا يغير عن شهرته ، وكذلك هو حيثما ورد ذكره في القرآن .

والأمي : الذي لا يعرف الكتابة والقراءة ، قيل هو منسوب إلى الأم أي هو أشبه بأمه منه بأبيه ، لأن النساء في العرب ما كُنّ يعرفن القراءة والكتابة ، وما تعلمْنها إلاّ في الإسلام ، فصار تعلم القراءة والكتابة من شعار الحرائر دون الإماء كما قال عُبيْد الراعي ، وهو إسلامي :

هُنَّ الحرائِر لا ربّاتُ أخمرَة *** سُودُ المحاجِر لا يقْرأن بالسّوَرِ

أما الرجال ففيهم من يقرأ ويكتب .

وقيل : منسوب إلى الأمّة أي الذي حاله حال معظم الأمة ، أي الأمة المعهودة عندهم وهي العربية ، وكانوا في الجاهلية لا يعرف منهم القراءة والكتابة إلاّ النادر منهم ، ولذلك يصفهم أهلُ الكتاب بالأُمييّن ، لما حكى الله تعالى عنهم في قوله : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأُميين سبيل } في آل عمران ( 75 ) .

والأميّة وصف خص الله به من رسله محمداً ، إتماماً للإعجاز العلمي العقلي الذي أيده الله به ، فجعل الأمية وصفاً ذاتياً له ، ليتم بها وصفه الذاتي وهو الرسالة ، ليظهر أن كماله النفساني كمالٌ لدُنّي إلهي ، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات ، وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه ، مع أنها في غيره وصف نقصان ، لأنه لمّا حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق ، وكان على يقين من علمه ، وبينة من أمره ، ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين ، صارت أميته آية على كون ما حصل له إنّما هو من فيوضات إلهية .

ومعنى : { يجدونه مكتوباً } وجدان صفاته ونعوته ، التي لا يشبهه فيها غيره ، فجعلت خاصته بمنزلة ذاته . وأطلق عليها ضمير الرسول النبي الأمي مجازاً بالاستخدام ، وإنما الموجود نعته ووصفه ، والقرينة قوله : { مكتوباً } فإن الذات لا تكتب ، وعُدل عن التعبير بالوصف للدلالة على أنهم يجدون وصفاً لا يقبل الالتباس ، وهو : كونه أمياً ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويُحل الطيبات ، ويحرم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم ، وشدة شريعتهم .

وذكرالإنجيل هنا لأنه منزل لِبني إسرائيل ، وقد آمن به جمع منهم ومن جاء بعدهم من خلفهم ، وقد أعلم الله موسى بهذا .

والمكتوب في التوراة هو ما ذكرناه آنفاً ، والمكتوب في الإنجيل بشارات جمة بمحمد صلى الله عليه وسلم وفي بعضها التصريح بأنه يبعث بعثة عامة ، ففي إنجيل متّى في الإصحاح الرابع والعشرين « ويقوم أنبياء كذَبةٌ كثيرون ويُضلون كثيرون ، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى ( أي يدوم شرعه إلى نهاية العالم ) فهذا يخلص ويكرز{[241]} ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى » ( أي منتهى الدنيا ) ، وفي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر « وإما المُعزّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلتُه لكم » ( ومعنى باسمي أي بمماثلتي وهو كونه رسولاً مشرعاً لا نبيّاً موكداً ) .

وتقدم ذكر التوراة والإنجيل في أول سورة آل عمران .

وجملة : { يأمرهم بالمعروف } قال أبو علي الفارسي : « هي بيان للمكتوب عندهم ولا يجوز أن تكون حالاً من ضمير { يجدونه } لأن الضمير راجع للذكر والاسم . والذكر والاسم لا يأمران » أي فتعين كون الضمير مجازاً ، وكون الآمر بالمعروف هو ذات الرسول لا وصفه وذِكرُه ، ولا شك أن المقصود من هذه الصفات تعريفهم بها ؛ لتدلهم على تعيين الرسول الأمي عند مجيئه بشريعة هذه صفاتها .

وقد جعل الله المعروف والمنكر ، والطيبات ، والخبائث ، والإصر والأغلال متعلقات لتشريع النبي الأمي وعلامات ، فوجب أن يكون المراد منها ما يتبادر من معاني ألفاظها للأفهام المستقيمة .

فالمعروفُ شامل لكل ما تقبلُه العقول والفطر السليمة ، والمنكر ضده ، وقد تقدم بيانهما عند قوله تعالى : { ولتْكُن منكم أمة يَدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } في سورة آل عمران ( 104 ) .

ويجمعها معنى : الفطرة ، التي هي قوام الشريعة المحمدية كما قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها } [ الروم : 30 ] ، وهذه أوضح علامة لتعرف أحكام الشريعة المحمدية .

والطيبات : جمع طيبة ، وقد روعي في التأنيث معنى الأكِيلة ، أو معنى الطُّعمة ، تنبيهاً على أن المراد الطيبات من المأكولات ، كما دل عليه قوله في نظائِرها نحو : { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } في البقرة ( 168 ) وقوله : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } في سورة المائدة ( 4 ) ، وليس المراد الأفعال الحسنة ؛ لأن الأفعال عُرّفت بوصف المعروف والمنكر . والمأكولات لا تدخل في المعروف والمنكر ، إذ ليس للعقل حظ في التمييز بين مقبُولها ومرفوضها ، وإنما تمتلك الناسَ فيها عوائِدُهم ، ولما كان الإسلام دينَ الفطرة ولا اعتداد بالعوائد فيه ، ناط حال المأكولات بالطّيب وحرمتها بالخُبث ، فالطّيب ما لا ضُر فيه ولا وخامَة ولا قذارة ، والخبيثُ ما أضر ، أوْ كان وَخيم العاقبة ، أو كان مستقذراً لا يقبله العقلاء ، كالنجاسة ، وهذا ملاك المُباح والمحرم من المآكل ، فلا تدخل العادات إلاّ في اختيار أهلها ما شاءوا من المباح ، فقد كانت قريش لا تأكل الضب ، وقد وُضع على مَائدة رسول الله فكره أن يأكل منه ، وقال : ما هو بحرام ولكنه لم يكن من طعام قومي فأجدني أعافُه ولهذا فالوجه : إن كل ما لا ضر فيه ولا فساد ولا قذارة فهو مباح ، وقد يكون مكروهاً اعتباراً بمضرة خفيفة ، فلذلك ورد النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ومحمله عند مالك في أشهر الروايات عنه ، على الكراهة ، وهو الذي لا ينبغي التردد فيه ، وأي ضُر في أكل لحم الأسد ، وكذلك إباحة أكل الخشاش والحشرات والزواحف البرية والبحرية ، لاختلاف عوائِد الناس في أكلها وعدمه ، فقد كانت جَرْم لا يأكلون الدجاج ، وَفقعس يأكلون الكلب ، فلا يحجر على قوم لأجل كراهية غيرهم مما كرهه ذوقه أو عادة قومه ، وقد تقدم شيء من هذا في آية سورة المائِدة ، فعلى الفقيه أن يقصر النظر على طبائِع المأكولات وصفاتها ، وما جهلت بعض صفاته وحرمته الشريعة مثل تحريم الخنزير .

وَوْضع الإصر إبطال تشريعه ، أي بنسخ ما كان فيه شدة من الشرايع الإلهية السابقة ، وحقيقة الوضع الحط من علو إلى سفل ، وهو هنا مجاز في إبطال التكليف بالأعمال الشاقة .

وحقه التعدية إلى المفعول الثاني بحرف ( في ) الظرفية ، فإذا عُدي إليْه ب ( عن ) دل على نقل المفعول الأول من مدخول ( عن ) وإذا عدي إلى المفعول الثاني ب ( على ) كان دالاً على حط المفعول الأول في مدخول ( على ) حطا متمكناً ، فاستعير يضعُ عنهم } هنا إلى إزالة التكليفات التي هي كالإصر والأغلال فيشمل الوضْعُ معنى النسخ وغيره ، كما سيأتي .

و« الإصر » ظاهر كلام الزمخشري في « الكشاف » و« الأساس » إنه حقيقة في الثّقل ، ( بكسر الثاءِ ) الحسيّ بحيث يَصعب معه التحرك ، ولم يقيده غيره من أصحاب دواوين اللغة ، وهذا القيد من تحقيقاته ، وَهو الذي جرى عليه ظاهر كلام ابن العربي في « الأحكام » ، والمراد به هنا التكاليف الشاقة والحرج في الدين ، فإن كان كما قيده الزمخشري يكن { ويضع عنهم أصرهم } تمثيلية بتشبيه حال المزال عنه ما يحْرجه من التكاليف بحال مَن كان محمّلاً بثقل فأزيل عن ظهره ثَقله ، كما في قوله تعالى : { يحملون أوزارهم على ظهورهم } [ الأنعام : 31 ] وإن لم يكن كذلك كان « الإصر » استعارة مكنية { ويضع } تخييلاً ، وهو أيضاً استعارة تبعية للإزالة .

وقد كانت شريعة التوراة مشتملة على أحكام كثيرة شاقة مثل العقوبة بالقتل على معاص كثيرة ، منها العمل يومَ السبتِ ، ومثلُ تحريم مأكولات كثيرة طيبة وتغليظ التحريم في أمور هينة ، كالعمل يوم السبت ، وأشد ما في شريعة التوراة من الإصر أنها لم تشرع فيها التوبة من الذنوب ، ولا استتابة المُجرم ، والإصر قد تقدم في قوله تعالى : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } في سورة البقرة ( 286 ) وقرأ ابن عامر وحده في القراءات المشهورة ، ( آصارهم ) بلفظ الجمع ، والجمع والإفراد في الأجناس سواء .

و{ الأغلالُ } جمع غُل بضم الغين وهو إطار من حديد يجعل في رقبة الأسير والجاني ويمسك بسير من جلد ، أو سلسلة من حديد بيد المُوكّل بحراسة الأسير ، قال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } [ غافر : 71 ] ويستعار الغُل للتكليف والعمل الذي يؤلم ولا يطاق فهوَ استعارة فإن بنيْنا على كلام الزَمخشري كان { الأغلال } تمثيلية بتشبيه حال المحرر من الذل والإهانة بحال من أطلق من الأسر ، فتعيّن أن وضع الأغلال استعارة لما يعانيه اليهود من المذلة بين الأمم الذين نزلوا في ديارهم بعد تخريب بيت المقدس ، وزوال ملك يهوذا ، فإن الإسلام جاء بتسوية أتباعه في حقوقهم في الجامعة الإسلامية ، فلا يبقى فيه مَيز بين أصيل ودخيل ، وصميم ولصيق ، كما كان الأمر في الجاهلية ، ومناسبة استعارة الأغلال للذلة أوضح ، لأن الأغلال من شعار الإذلال في الأسر والقود ونحوهما .

وهذان الوصفان لهما مزيد اختصاص باليهود ، المتحدث عنهم في خطاب الله تعالى لموسى ، ولا يتحققان في غيرهم ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن اليهود قد كان لهم شرع ، وكان فيه تكاليف شاقة ، بخلاف غير اليهود من العرب والفرس وغيرهم ، ولذلك أضاف الله الإصر إلى ضميرهم ، ووَصف الأغلال بما فيه ضميرهم ، على أنك إذا تأملت في حال الأمم كلهم قبل الإسلام لا تجد شرائعهم وقوانينهم وأحوالهم خالية من إصر عليهم ، مثل تحريم بعض الطيبات في الجاهلية ، ومثل تكاليف شاقة عند النصارى والمجوس لا تتلاقى مع السماحة الفطرية ، وكذلك لا تجدها خالية من رهق الجبابرة ، وإذلال الرؤساء ، وشدة الأقوياء على الضعفاء ، وما كان يحدث بينهم من التقاتل والغارات ، والتكايُل في الدماء ، وأكلهم أموالهم بالباطل ، فأرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بدينِ من شأنه أن يخلص البشر من تلك الشدائِد ، كما قال تعالى : { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ولذلك فسرنا الوضع بما يَعم النسخ وغيره ، وفسرنا الأغلال بما يخالف المراد من الأصر ، ولا يناكد هذا ما في أديان الجاهلية والمجوسية وغيرها من التحلل في أحكام كثيرة ، فإنه فساد عظيم لا يخفف وطأة ما فيها من الإصر ، وهو التحلل الذي نظر إليه أبو خِراش الهُذلي في قوله ، يَعْني شريعة الإسلام :

فليس كعهد الدار يا أم مالك *** ولكن أحَاطت بالرقاب السلاسل

والفاء في قوله : { فالذين آمنوا به } فاء الفصيحة ، والمعنى : إذا كان هذا النبي كما علمتم من شهادة التوراة والإنجيل بنبوءته ، ومن اتصاف شرعه بالصفة التي سمعتم ، علمتم أن الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا هديه ، هم المفلحون .

والقصر المستفاد من تعريف المسند ومن ضمير الفصل قصر إضافي ، أي هم الذين أفلحوا أي دون من كفر به بقرينة المقام ، لأن مقام دعاء موسى يقتضي أنه أراد المغفرة والرحمة وكتابة الحسنة في الدنيا والآخرة لكل من اتبع دينه ، ولا يريد موسى شمول ذلك لمن لا يتبع الإسلام بعد مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ولكن جرى القصر على معنى الاحتراس من الإيهام ، ويجوز أن يكون القصر ادعائياً ، دالاً على معنى كمال صفة الفلاح للذين يتبعون النبي الأمي ، ففلاح غيرهم من الأمم المفلحين الذين سبقوهم كلاَ فلاح ، إذا نُسب إلى فلاحهم ، أي إن الأمة المحمدية أفضل الأمم على الجملة ، وإنهم الذين تنالهم الرحمة الإلهية التي تسع كل شيء من شؤونهم قال تعالى : { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] .

ومعنى { عزروه } أيدوه وقّووْه ، وذلك بإظهار ما تضمنته كتبهم من البشارة بصفاته ، وصفات شريعته ، وإعلان ذلك بين الناس ، وذلك شيء زائِد على الإيمان به ، كما فعل عبد الله بن سَلاَم ، وكقول ورقة بن نوفل : « هذا الناموس الذي أنزل على موسى » ، وهو أيضاً مغاير للنصر ، لأن النصر هو الإعانة في الحرب بالسلاح ، ومن أجل ذلك عطف عليه { ونصروه } .

واتّباع النور تمثيل للاقتداء بما جاء به القرآن : شبه حال المقتدي بهدي القرآن ، بحال الساري في الليل إذا رأى نوراً يلوح له اتّبعه ، لعلمه بأنه يجد عنده منجاة من المخاوف وأضرار السير ، وأجزاءُ هذا التمثيل استعارات ، فالإتباع يصلح مستعاراً للاقتداء ، وهو مجاز شائِع فيه ، والنور يصلح مستعاراً للقرآن ؛ لأن الشيء الذي يعلّم الحقّ والرشد يشبّه بالنور ، وأحسن التمثيل ما كان صالحاً لاعتبار التشبيهات المفردة في أجزائه .

والإشارة في قوله : { أولئك هم المفلحون } للتنويه بشأنهَم ، وللدلالة على أن المشار إليهم بتلك الأوصاف صاروا أحرياء بما يخبر به عنهم بعد اسم الإشارة كقوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .

وفي هذه الآية تنويه بعظيم فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم ، ويُلحق بهم من نصر دينه بعدهم .


[241]:وقعت كلمة يكرز في ترجمة الإنجيل للآباء اليسوعيين وأريد بها يتنبأ ولا يعرف لها أصلا في العربية. -