البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (157)

التعزير قال يونس بن حبيب التعزير هو الثناء والمدح .

{ الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذين يجدونه مكتوباً عندهم في التوارة والإنجيل يأمرهم بالمعروف ويناهم عن المنكر } .

هذا من بقية خطابه تعالى لموسى عليه السلام وفيه تبشير له ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وذكر لصفاته وإعلام له أيضاً أنه ينزل كتاباً يسمى الإنجيل ومعنى الاتباع الاقتداء فيما جاء به اعتقاداً وقولاً وفعلاً وجمع هنا بين الرسالة والنبوة لأن الرسالة في بني آدم أعظم شرفاً من النبوة أو لأنها بالنسبة إلى الآدمي والملك أعم فبُدىء به والأميّ الذي هو على صفة أمة العرب إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب فأكثر العرب لا يكتب ولا يقرأ قاله الزجاج ، وكونه أمّياً من جملة المعجز ، وقيل : نسبة إلى أم القرى وهي مكة ، وروي عن يعقوب وغيره أنه قرأ { الأميّ } بفتح الهمزة وخرج على أنه من تغيير النسب والأصل الضّم كما قيل في النسب إلى أميّة أموي بالفتح أو على أنه نسب إلى المصدر من أم ومعناه المقصود أي لأنّ هذا النبي مقصد للناس وموضع أم ، وقال أبو الفضل الرازي : وذلك مكة فهو منسوب إليه لكنها ذكرت إرادة للحرم أو الموضع ومعنى { يجدونه } أي يجدون وصفه ونعته ، قال التبريزي : { في التوراة } أي سأقيم له نبيّاً من إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فيه ويقول لهم كلما أوصيته وفيها وأما النبي فقد باركت عليه جدًّا جدًّا وسأدخره لأمة عظيمة وفي { الإنجيل } يعطيكم الفارقليط آخر يعطيكم معلم الدهر كله ، وقال المسيح : أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه ويمدحني ويشهد لي ويحتمل أن يكون { يأمرهم بالمعروف } إلى آخره متعلقاً بيجدونه فيكون في موضع الحال على سبيل التجوّز فيكون حالاً مقدرة ويحتمل أن يكون من وصف النبي كأنه قيل : الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وكذا وكذا ، وقال أبو عليّ { يأمرهم } : تفسير لما كتب من ذكره كقوله : { خلقه من تراب } ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في يجدونه لأن الضمير للذكر والاسم والاسم والذكر لا يأمران ، قال ابن عباس وعطاء : { يأمرهم بالمعروف } أي بخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام ، وقال مقاتل : الإيمان ، وقيل : الحق ، وقال الزجاج : كل ما عرف بالشّرع والمنكر ، قال ابن عباس : عبادة الأوثان وقطع الأرحام ، وقال مقاتل : الشّرك ، وقيل : الباطل ، وقيل : الفساد ومبادىء الأخلاق ، وقيل : القول في صفات الله بغير علم والكفر بما أنزل وقطع الرحم والعقوق .

{ ويحلّ لكم الطيبات } تقدّم ذكر الخلاف في { الطيّبات } في قوله { كلوا من طيبات } أهي الحلال أو المستلذّ وكلاهما قيل هنا ، وقال الزمخشريّ : ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها أو ما طاب في الشريعة واللحم مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح وما خلا كسبه من السحت انتهى ، وقيل : ما كانت العرب تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام واستبعد أبو عبد الله الرازي قول من قال : إنها المحلّلات لتقديره ويحلّ لهم المحللات قال وهذا محض التكذيب ، ولخروج الكلام عن الفائدة لأنا لا ندري ما أحلّ لنا وكم هو قال : بل الواجب أن يراد المستطابة بحسب الطبع لأن تناولها يفيد اللذة والأصل في المنافع الحلّ فدلت الآية على أن كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع حلال إلا ما خرج بدليل منفصل .

{ ويحرّم عليهم الخبائث } قيل : المحرمات ، وقيل : ما تستخبثه العرب كالعقرب والحية والحشرات ، وقيل : الدم والميتة ولحم الخنزير ، وعن ابن عباس ما في سورة المائدة إلى قوله { ذلكم فسق }

{ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } .

قرأ طلحة ويذهب عنهم { إصرهم } وتقدم تفسير الإصر في آخر سورة البقرة ، وفسره هنا قتادة وابن جبير ومجاهد والضحاك والحسن وغيرهم بالثقل ، وقرأ ابن عامر : آصارهم جمع إصر ، وقرىء أصرهم بفتح الهمزة وبضمها فمن جمع فباعتبار متعلّقات الإصر إذ هي كثيرة ومن وحد فلأنه اسم جنس ، { والأغلال } مثل لما كلفوا من الأمور الصعبة كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم والقصاص حتماً من القاتل عمداً كان أو خطأ وترك الاشتغال يوم السبت وتحريم العروق في اللحم وعن عطاء : أنّ بني إسرائيل كانوا إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة ، وروي أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلاً يحمل قصباً فضرب عنقه وهذا المثل كما قالوا جعلت هذا طوقاً في عنقك وقالوا طوقها طوق الحمامة ، وقال الهذلي :

وليس كهذا الدار يا أمّ مالك *** ولكن أحاطب بالرّقاب السلاسل

فصار الفتى كالكهل ليس بقابل *** سوى العدل شيئاً واستراح العواذل

وليس ثمّ سلاسل وإنما أراد أنّ الإسلام ألزمه أموراً لم يكن ملتزماً لها قبل ذلك كما قال الإيمان قيد الفتك ، وقال ابن زيداً الأغلال يريد في قوله { غلت أيديهم } فمن آمن زالت عنه الدعوة وتغليلها .

{ فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } .

{ وعزّروه } أثنوا عليه ومدحوه .

قال الزمخشري : منعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ ، وقرأ الجحدري وقتادة وسليمان التيمي وعيسى بالتخفيف ، وقرأ جعفر بن محمد وعزّزوه بزايين و { النور } القرآن قاله قتادة ، وقال ابن عطية : هو كناية عن جملة الشريعة .

وقيل مع بمعنى عليه أي الذي أنزل عليه .

وقيل هو على حذف مضاف أي أنزل مع نبوته لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به وعلى هذين القولين يكون العامل في الظرف { أنزل } ويجوز عندي أن كون معه ظرفاً في موضع الحال فالعامل فيه محذوف تقديره أنزل كائناً معه وهي حال مقدّرة كقوله مررت برجل معه صقر صائداً به غدا فحالة الإنزال لم يكن معه لكنه صار معه بعد كما إنّ الصيد لم يكن وقت المرور ، وقال الزمخشر : ويجوز أن يعلّق باتبعوا أي { واتبعوا } القرآن المنزل مع اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته وبما أمر به أي واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه وفي قوله ؟ { فالذين آمنوا به } إلى آخره إشارة إلى من آمن من أعيان بني إسرائيل بالرسول كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين .