تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (157)

الآية 157 وقوله تعالى : { الذين يتّبعون الرسول النبي الأمّيّ } أي يقتفون{[9014]} أثر الرسول في كل سيرته ، وفي كل أمره ونهيه ، ويطيعونه .

سمّاه رسولا ونبيّا بقوله تعالى : { الرسول النبيّ } . والرسول المبعوث على تبليغ الرسالة ، والمأمور بها على كل حال . والنبي كالمنبئ لهم أشياء عند السؤال والاستخبار . والرسول هو المأمور بالتبليغ سألوه ، أو لم يسألوا ، شاؤوا ، أو أبوا ، وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم ، كلاهما : الإنباء والتبليغ كقوله تعالى : { أنما أنزل إليك من ربك الحق } [ الرعد : 19 ] وقوله تعالى : { إن عليك إلا البلاغ } [ الشورى : 48 ] .

وقوله تعالى : { الأمّيّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم } { الأمّيّ } ما ذكر في آية أخرى ، وهو قوله { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك } الآية [ العنكبوت : 48 ] .

[ وقوله تعالى ]{[9015]} : { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة } أي يجدونه مكتوبا في التوراة أنه رسول نبي ، وأنه أمّيّ .

[ وقوله ]{[9016]} تعالى : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب } لئلا يقولوا إنك أخذت هذا من الكتب المتقدمة ومن علومها وحكمتها { ولا تخطّه بيمينك } لئلا يقولوا : إنه من تأليفك ، ويعلموا أنه من عند الله جاء به لا من ذات نفسه .

وفي قوله تعالى : { يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } إلى آخر ما ذكر دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن أولئك لم يأتوا بالتوراة والإنجيل ، فيقولوا{[9017]} : لا نجد ما تذكر في التوراة والإنجيل .

دل ذلك منهم على أنهم وجدوه كذلك ، والله اعلم .

وقوله تعالى : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } أي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة أنه يأمر بما أمر الله به ، وينهى عما نهى الله عنه { ويحل لهم الطيبات } ما أحل الله لهم { ويحرّم عليهم الخبائث } ما حرّم الله عليهم يجدونه في التوراة انه لا يأمر بشيء ، ولا ينهى عن شيء ، ولا يحل شيئا ، ولا يحرّم إلا بأمر من الله له . لكنهم ينكرونه إنكار عناد ومكابرة كقوله تعالى : { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } [ البقرة : 146 ] وغيره .

ويحتمل قوله تعالى : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } الآية أي يأمر بما هو معروف في العقل وشهادة الخلقة [ وهو التوحيد ، وكذلك ينهاهم عما هو في العقل وشهادة الخلقة ]{[9018]} منكر ، وهو الكفر وجميع المعاصي { ويحل لهم الطيبات } أي يحل ما هو طيّب في العقل والطبع ، ويحرّم ما هو خبيث في العقل والطبع جميعا ؛ لأن من الأشياء ما هو مستخبث في الطبع . لم يجعل غذاء البشر فيه وإنما جعل غذاءهم في ما هو مستطاب في الطبع ، بلغ غايته في الطّيب . ولا كذلك جعل غذاء البهائم والأنعام . هذا يحتمل ، والله أعلم .

ثم المعروف والطيبات لو تركت العقول والطباع على ما هي عليه لكانت لا حاجة تقع إلى رسول يخبر أن [ هذا معروف وأنّ ]{[9019]} هذا طيّب أو خبيث أو منكر . ولكن تعرف العقول والطباع ذلك كله . لكن تعرض العقول عن الشبه ، فتمنعها عن معرفة ذلك ، فاحتاجت إلى رسول الله يخبر عن ذلك .

وقوله تعالى : { ويضع عنهم إصرهم } قيل : ما غلّظوا على أنفسهم من الشدائد ، وقيل { إصرهم } شدة من العبادة والعمل ، وقيل : { إصرهم } عهدهم ، وقيل : { إصرهم } الثقل الذي كان بنو إسرائيل ألزموه .

وقال القتبيّ : { ويضع عنهم إصرهم } أي ذنبهم الذي كانوا يذنبون ، أي عقوبة الذنب الذي أذنبوا في الدنيا .

وقوله تعالى : { والأغلال التي كانت عليهم } قال الحسن : إن اليهود قالوا { يد الله مغلولة } أي محبوسة{[9020]} عن عقوبتنا ، فقال عز وجل : { غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا } [ المائدة : 64 ] أي غلّت أيديهم إلى أعناقهم في النار .

فأخبر أن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم لما آمنوا به ، وصدّقوه ، رفع تلك الأغلال التي كانت عليهم عن هذه الأمّة بطاعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقيل : الأغلال الشدائد التي كانت عليهم من نحو ما لا يجوز لهم : العفو{[9021]} عن الدم العمد وأخذ{[9022]} الدّية وغسل{[9023]} النجاسات إلا القطع وغير ذلك من الأشياء التي لم تحل لهم ، فأحلّت لهذه الأمّة .

ويحتمل أن يكون الإصر والأغلال التي كانت عليهم من نحو ما حرّمت من أشياء بظلم كان منهم وتحريم نحو قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلّت لهم وبصدّهم } [ النساء : 160 ] وقوله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر } إلى قوله تعالى : { ذلك جزيناهم ببغيهم } [ الأنعام : 146 ] حرّمت تلك الأشياء عليهم عقوبة لبغيهم وظلمهم الذي كان منهم .

أخبر أنه وضع عن هؤلاء ذلك ، لم يحرّم ذلك عليهم .

وفي الآية دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر أنه أمّيّ ، والأميّ ما ذكر في قوله تعالى : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك } [ العنكبوت : 48 ] ، ثم أخبر على ما كان في كتبهم من غير أن عرف ما في كتبهم ، أو نظر فيها ، وعرف لسانهم . دل أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى .

وقوله تعالى : { فالذين آمنوا } أي صدّقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، { وعزّروه } قيل : أعانوه بأموالهم ، ونصروه بأيديهم بالسيف .

وقال الحسن : قوله تعالى : { وعزّروه ونصروه } إنما هو كلام مثنّى ، وهو إعانة ، وقيل : { وعزّروه } أي عظّموه .

وقوله تعالى : { واتبعوا النور الذي أنزل معه } يعني القرآن ؛ سماه نورا لما ينير الأشياء عن حقائقها بالعقول ؛ لأن النور في الشاهد هو الذي يكشف عن الأشياء سواترها . فعلى ذلك القرآن ، وهو نور لما يرفع الشبه عن القلوب ، ويكشف عن سواترها .

وقال بعضهم : سمّي نورا لما ينير الأشياء ، ويعرف به ما غاب ، وما شهد ، فيصير الغائب به له كالشاهد .


[9014]:في الأصل وم: يقفون.
[9015]:ساقطة من الأصل وم.
[9016]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[9017]:في الأصل وم: فيقولون.
[9018]:من م، ساقطة من الأصل.
[9019]:من م، ساقطة من الأصل.
[9020]:من م، في الأصل محسوسة.
[9021]:من م، في الأصل: العقول.
[9022]:في الأصل: ولا أخذ.
[9023]:في الأصل وم: وما لا يجوز غسل.