الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (157)

قوله سبحانه : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي . . . } [ الأعراف :157 ] .

هذه ألفاظٌ أخرجَت اليهودَ والنصارى مِنَ الاشتراك الذي يظهر في قوله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ }[ الأعراف :156 ] وخلُصَتْ هذه العِدَةُ لأُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس وغيره .

قلْتُ : وهذه الآيةُ الكريمة مُعْلِمَةٌ بشَرَف هذه الأمَّة على العُمُوم في كلِّ مَنْ آمَنَ باللَّه تعالى ، وأقرَّ برسَالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ثم هم يتفاوتون بعدُ في الشرف ، بحَسَب تفاوتهم في حقيقة الاتباعية للنبيِّ صلى الله عليه وسلم .

قال الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه في «الإِحياء » : وإِنما أُمَّتُه صلى الله عليه وسلم مَنِ اتبعه ، وما اتبعه إِلاَّ مَنْ أعرض عن الدنيا ، وأَقْبَلَ على الآخرةِ ، فإِنه عليه السلام ما دَعَا إِلاَّ إِلى اللَّهِ ، واليَوْمِ الآخِرِ ، وما صَرَفَ إِلاَّ عن الدنيا والحظوظِ العاجلةِ ، فبقدْرِ ما تُعْرِضُ عن الدنيا ، وتُقْبِلُ على الآخرة ، تَسْلُكُ سبيله الذي سَلَكَهُ صلى الله عليه وسلم ، وبقَدْرِ ما سَلَكْتَ سبيله ، فقد اتبعته ، وبقَدْر ما اتبعتَهُ ، صِرْتَ من أمته ، وبقَدْرِ ما أَقبلْتَ على الدنيا ، عَدَلْتَ عن سبيله ، ورغبْتَ عَنْ متابعته ، والتحقت بالذين قال اللَّه تعالى فيهم : { فَأَمَّا مَن طغى وَآثَرَ الحياة الدنيا فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى } [ النازعات : 37 ، 38 ، 39 ] ، انتهى .

فإن أردتَّ اتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الحقيقة ، واقتفاء أثره ، فابحث عن سيرته وخُلُقه في كتب الحديث والتفسير .

قال ابنُ القَطَّان في تصنيفه الذي صنَّفه في «الآيات والمعجزات » : والقول الوجيز في زُهْدِهِ وعبادتِهِ وَتَوَاضُعِهِ وسائرِ حُلاَه وَمعَاليه صلى الله عليه وسلم : أنه مَلَكَ مِنْ أقْصَى اليمن إلى صحراء عمان إِلى أقصى الحجاز ، ثم تُوُفِّيَ عليه السلام ، وعليه دَيْنٌ ، ودِرْعُهِ مَرْهونةٌ في طَعَام لأهله ، ولم يتركْ ديناراً ولا درهماً ، ولا شَيَّد قَصْراً ، ولا غَرَس نَخْلاً ، ولا شَقَّقَ نَهْراً ، وكان يأكل على الأرْضِ ، ويجلسُ على الأرض ، ويَلْبَسُ العَبَاءة ، ويجالسُ المَساكين ، ويَمْشِي في الأسواق ، ويتوسَّد يَدُه ، ويلعقُ أصابعه ، ويُرقِّع ثوبه ، ويَخْصِفُ نَعْلَه ، ويُصْلِح خُصَّه ، ويمهنُ لأهله ، ولا يأكل متْكِئاً ، ويقول : ( أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْد ) ، ويقتصُّ من نفْسه ، ولا يرى ضاحكاً مِلْء فِيهِ ، ولو دُعِيَ إِلى ذراعٍ لأجاب ، ولو أُهْدِيَ إِليه كُرَاعٌ لَقِبل ، لا يأكلُ وحده ، ولا يَضْرِبُ عبده ، ولا يمنعُ رفْده ، ولا ضَرَبَ قطُّ بيدِهِ إِلاَّ في سَبِيل اللَّه ، وقام للَّه حتَّى تَوَرَّمَتْ قدماه ، فقيل له : أتَفْعَلُ هذا وقد غَفَرَ اللَّه لك مَا تَقدَّم من ذنبك وما تأخَّرَ ؟ فقال : ( أفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً ) ، وكان يُسْمَعُ لِجَوْفه أَزِيزٌ ، كأزيز المِرْجَلِ من البكاءِ ، إِذا قام بالليل صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأتباعه صلاةً دائمةً إلى يوم القيامة ، انتهى .

وقال الفَخْر : قوله تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول . . . } [ الأعراف :157 ] .

قال بعضهم : الإِشارة بذلك إِلى مَنْ تقدَّم ذكْرُه من بني إِسرائيل ، والمعنى : يتبعونه باعتقاد نبوَّته ، من حيث وَجَدُوا صفتَهُ في التوراة ، وسيجدونه مكتوباً في الإِنجيل ، وقال بعضهم : بل المرادُ مَنْ لحق مِنْ بني إِسرائيل أيام النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فبيَّن تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا تكتب لهم رحمةُ الآخرة إِلاّ إذا اتبعوا النبيَّ الأُميُّ .

قال الفخْر : وهذا القول أقربُ ، وقوله : { يَجِدُونَهُ } ، أي : يجدون صفة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ، ففي «البخاريِّ » وغيره ، عن عبد اللَّه بن عمرو ، أنَّ في التوراة مِنْ صفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " { يَأيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً }[ الأحزاب :45 ] وَحِرْزاً لِلأُمِيِّيِّن ، أنْتَ عَبْدِي وَرَسُولي ، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ ، لَيْسَ بِفَظٍّ ، وَلاَ غَلِيظٍ ، وَلاَ صخَّاب في الأَسْوَاق ، وَلاَ يَجْزي بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ، وَلَكِنْ يَعْفُو ، وَيَصْفَحُ ، وَلَنْ أَقْبِضَهُ حتى أُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاء ، بأنْ يَقُولُوا : لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ ، فَنُقِيمُ بِهِ قُلُوباً غُلْفاً ، وآذَاناً صُمًّا ، وَأَعْيُناً عُمْياً " ، وفي «البخاريِّ » : «فَيَفْتَحُ بِهِ عُيُونَاً عُمْياً ، وآذاناً صُمًّا ، وقُلُوباً غُلْفاً » ، ونصَّ كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إِلاَّ أنه قال : «قُلُوباً غُلُوفاً ، وآذناً صُمُوماً » .

وقوله سبحانه : { يَأْمُرُهُم بالمعروف . . . } [ الأعراف :157 ] .

يحتملُ أن يكون ابتداء كلامٍ وُصِفَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ويحتملُ أن يكون متعلِّقاً ب «يجدونه » في موضع الحال على تجوُّزٍ ، أي : يجدونه في التوراةِ آمراً ، بشرط وجوده ، والمعروف : ما عُرِفَ بالشرع ، وكلُّ معروف من جهة المروءة ، فهو معروفٌ بالشرع ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَحَاسِنَ الأَخْلاَقِ ) و{ المنكر } : مقابله ، وَ{ الطيبات } ، عند مالك : هي المحلَّلات ، و { الخبائث } هي المحرَّمات ، وكذلك قال ابن عباس ، والإِصْرُ الثَّقْل ، وبه فَسَّرَ هنا قتادةُ وغيره ، والإِصْر أيضاً : العَهْد ، وبه فسر ابنُ عباس وغيره ، وقد جَمَعَتْ هذه الآيةُ المعنيين ، فإِن بني إِسرائيل قد كان أخذ عليهم العَهْدُ بأن يقوموا بأعمال ثقال ، فَوَضَعَ عنهم نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن جُبيْر : الإِصْر : شدَّة العبادة ، وقرأ ابن عامر : { آصارَهُمْ } بالجمع ، فمَنْ وحَّد «الإصر » ، فإنما هو اسمُ جنْس عِنده ، يراد به الجمعُ ، { والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } عبارةٌ مستعارَةٌ أيضاً لتلك الأثقال ، كَقَطْعِ الجِلْدِ من أثر البَوْلِ ، وأن لا ديةَ ، ولا بدَّ من قَتْل القاتل ، إلى غير ذلك ، هذا قول جمهور المفسِّرين ، وقالَ ابن زَيْدٍ : إنما المراد هنا ب { الأغلال } قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ في اليهود : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } [ المائدة : 64 ] ، فمنْ آمن بنبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم ، زالَتْ عنه الدعوةُ ، وتغليلها ، ومعنى { عَزَّرُوهُ } : أي : وقَّروه ، فالتعْزيرُ والنصْرُ : مشاهدةٌ خاصَّة للصحابة ، واتباع النور : يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة ، والنُّورُ : كنايةٌ عن جُمْلة الشرع ، وشَبَّه الشرعَ والهدى بالنور ، إِذ القلوبُ تستضيء به ، كما يستضيء البَصَرُ بالنُّور .