فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (157)

ثم بين سبحانه هؤلاء الذين كتب لهم هذه الرحمة ببيان أوضح مما قبله وأصرح فقال : { الذين يتبعون } قال الرازي : هم من بني إسرائيل خاصة وقال الجمهور : هم جميع الأمة سواء كانوا منهم أو من غيرهم { الرسول النبي الأمي } هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع المفسرين فخرجت اليهود والنصارى وسائر الملل ، والأمي إما نسبة إلى الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب ولا تقرأ ، وهم العرب قاله الزجاج أو نسبة إلى الأم والمعنى أنه باق على حالته التي ولد عليها لا يكتب ولا يقرأ المكتوب ، وقيل نسبة إلى الأم والمعنى أنه باق على حالته التي ولد عليها لا يكتب ولا يقرأ المكتوب ، وقيل نسبة إلى أم القرى ، وهي مكة والأول أولى .

وكونه أميا من أكبر معجزاته وأعظمها ، قال السيد الغبريني المقري شارح البردة : إن كونه أميا معجزة له كما قرروه حتى لا يرتاب أحد في كلام الله ، يرد عليه إنه لو ثم قيل عليه لم خلق أفصح الناس ولم يخلق غير فصيح حتى يعلم أن ما يتلوه من الكلام المعجز ببلاغته ليس كلامه .

قال الشهاب في الريحانة قوله هذا ليس بشيء لأن الأمية سابقة في أكثر فصحاء العرب وهم في غناء عن الكتابة ، وأما عدم الفصاحة فلكنة وعيب عظيم منزه عنه عال مقامه ، وطاهر فطرته وجوهر جبلته ، وهذا البحث مما لا تراه في غير كتابنا هذا .

وقال في حاشية البيضاوي قيل إنه منسوب إلى الأم بفتح الهمزة بمعنى القصد لأنه المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب ، ويؤيده قراءة يعقوب بفتح الهمزة انتهى .

قال أبو السعود : أي الذي لم يمارس القراءة والكتابة وقد جمع مع ذلك علوم الأولين والآخرين انتهى ، وهل صدر عنه ذلك في كتابه صلح الحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور أو إنه لم يكتب وإنما أسند إليه مجازا ، وقيل إنه صدر عنه ذلك على سبيل المعجزة وتفصيله في فتح الباري .

{ الذي يجدونه } يعني اليهود والنصارى أي يجدون نعته { مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } وهما مرجعهم في الدين وهذا الكلام منه سبحانه مع موسى هو قبل نزول الإنجيل فهو من باب الإخبار بما سيكون .

قال الرازي : وهذا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب فيهما لأن ذلك لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المفرات ، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله وينفر الناس عن قبول قوله ، فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك النعت كان مذكورا في التوراة والإنجيل ، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته انتهى وسيأتي الكلام على ذلك في آخر هذه الآية إن شاء الله تعالى مستوفى .

أخرج ابن سعد والبخاري وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن عطاء ابن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا .

وروي نحو هذا مع اختلاف في بعض الألفاظ وزيادة ونقص في بعض عن جماعة ، وذكر الخميسي في تاريخه أن لفظ محمد مذكور في التوراة باللغة السريانية بلفظ المنحمنا ، ومعنى هذا اللفظ في تلك اللغة هو معنى لفظ محمد وهو الذي يحمده الناس كثيرا وذكر أن لفظ أحمد مذكور في الإنجيل بهذا اللفظ العربي الذي هو أحمد .

{ يأمرهم بالمعروف } أي بكل ما تعرفه القلوب ولا تنكره من الأشياء التي هي من مكارم الأخلاق { وينهاهم عن المنكر } أي عما تنكره القلوب ولا تعرفه وهو ما كان من مساوئ الأخلاق ، قال عطاء : يأمرهم بخلع الأنداد وصلة الأرحام ، وينهاهم عن عبادة الأصنام وقطع الأرحام .

{ ويحل لهم الطيبات } أي المستلذات التي تستطيبها الأنفس ، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل ، وقيل ما حرم عليهم من الأشياء التي حرمت عليهم بسبب ذنوبهم من لحوم الإبل وشحوم الغنم والمعز والبقر ، وقيل ما كانوا يحرمونه على أنفسهم في الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي .

{ ويحرم عليهم الخبائث } أي المستخبثات كالحشرات والخنازير والربا والرشوة وقال ابن عباس يريد الميتة والدم ولحم الخنزير وقيل هو كل ما يستخبثه الطبع أو تستقذره النفس فإن الأصل في المضار الحرمة إلا ما له دليل متصل بالحل .

{ ويضع عنهم إصرهم } الإصر الثقل أي يضع عنهم التكاليف الشاقة الثقيلة أو العهد الذي أخذ عليهم أن يعملوا بما في التوراة من الأحكام وقد تقدم بيانه في البقرة { والغلال التي كانت عليهم } الأغلال مستعارة للتكاليف الشاقة التي كانوا قد كلفوها ، وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة عن البدن والثوب بالمقراض ، وتعيين القصاص في القتل وتحريم أخذ الدية وترك العمل في السبت ، وإن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس إلى غير ذلك .

{ فالذين آمنوا به } أي بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه فيما جاء به من الشرائع { وعزروه } أي عظموه ووقروه قاله الأخفش وقيل معناه منعوه من عدوه وأصل العزر المنع { ونصوره } أي قاموا بنصره على من يعاديه { واتبعوا النور الذي أنزل معه } أي القرآن الذي أنزل عليه مع نبوته وقيل المعنى واتبعوا القرآن المنزل إليه مع اتباعه بالعمل بسنته مما يأمر به وينهى عنه أو اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه .

{ أولئك } إشارة إلى المتصفين بهذه الأوصاف { هم المفلحون } أي الناجون الفائزون بالخير والفلاح والهداية لا غيرهم من الأمم .

وهذه الآية فيها دلالة واضحة وحجة نيرة على كون ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثابتا في الكتب القديمة ، فلنذكر ههنا ما يوافقها منها فأقول .

قال أهل الكتاب يجب على النبي أن يكون منصوصا عليه فيما قبله من الكتب ، ومحمد لم يكن منصوصا عليه فليس بنبي ، أما الصغرى فلأنه لو لم يكن منصوصا عليه لأشكل على الأمة معرفته ، وأما الكبرى فلعدم وجود النص .

والجواب عنه بمنع الصغرى لأنه لا يجب أن يكون منصوصا عليه في سجل من قبله لأن شرط صدق النبوة الاتيان بالخارقة ، ولو كان شرطه النص لامتنع الاستعجاز وعليه أهل التحقيق فيبطل القياس ، وبمنع الكبرى لأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد نص عليه موسى ويوشع وداود وسليمان وأشعيا وارميا وملاخيا وزكريا وعيسى عليهم السلام فيكون نبيا .

ومن البراهين على إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم ما ورد في الأعمال من كتاب الاستثناء " وسيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم نبيا مثلي فاسمعوا جميع ما يأمركم به فإن كل نفس لا تسمع أمر ذلك النبي تستأصل من بين القوم " .

وهذا هو الدليل الذي تمسك به جماعة من المسلمين على نبوته صلى الله عليه وسلم وأثبتوا دلالته على ذلك بعشرة وجوه ذكرت في محلها ، وفسره النصارى في شأن المسيح وزعموا أنه هو الذي وعد به موسى لأنه تولد في دار يوسف بن يعقوب بن متان من زوجته مريم بنت عمران ، وهذا التفسير بديهي البطلان إذ لو كان المراد به نبيا من بني إسرائيل لكان الأولى به يوشع بن نون أو اشمويل أو العزير أو داود أو سليمان أو اشعيا أو غيره من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام ، ولكنه تعالى فرزه عن بين إسرائيل بقوله : " من إخوتكم " نظرا إلى أنهم نفس إسحاق فتكون أخوتهم بنو إسماعيل بلا مناقشة .

وهذا حوار مطرد عند اليهود والعرب كما قال : " سيأتي المنقذ من صهيون ويخرج النفاق من يعقوب " أي من بني يعقوب إلى غير ذلك .

وإلا فأقول إن عيسى ابن مريم بن إسرائيل وإسرائيل أخ لنفسه ينتج أن عيسى بن مريم ابن أخ لنفسه ، وليس الأمر كذلك أما الصغرى فلاعتراف النصارى بأن المسيح من أولاد داود ولا شك أن داود من أولاد إسرائيل وولد الولد ولد ، وأما الكبرى فلما ظهر من هذا النص من أخ الإنسان عبارة عن نفسه .

وأجيب بمنع الصغرى لأن الأخوين لفظان متباينان لا يصدق أحدهما على مفهوم الآخر وإلا يلزم ترادف المتباينين وهو باطل ، ولا يرد عليه مثل البيع لأن العمدة في اللغة السماع ولم ينقل عن أحد فيكون المنصوص عليه محمدا صلى الله عليه وسلم بلا مناقشة بدليل قوله : " فاسمعوا جميع ما يأمركم به " الخ لأن عيسى عليه السلام لم يأت في دعوته بقهر يجبر به القوم لأن دعوته كانت على سبيل الترغيب لا غير .

وإلا فليكن المسيح هو المنصوص عليه ، وحينئذ أقول كل نصراني يسلم أو يتهود يجب عليه القتل وكل نصرانية تزني يجب عليها الرجم لقوله : { كل نفس } الخ لكن النصراني إذا ارتد والنصرانية إذا زنت لا يحدا ، فالمسيح ليس بمنصوص عليه في هذا المقام ، أما المقدم فلوضوح النص في قوله : { كل نفس لا تسمع } الخ لأنه أمر بالاستقامة على الدين والإحصان وإلا فليس بنبي ، وأما التالي فلعدم إجراء الحدود في ملته ألم تر أن النصراني يسلم ويتهود ويتبرهم ولا يجب عليه حد ، وإنه ربما ينقض جميع سنن الإنجيل وأحكامه ويرتكب ما يخالفهما ولا ينكر عليه أحد .

وهذا بخلاف ملة محمد صلى الله عليه وسلم فإن عدم امتثال بعض أوامره يوجب هرق الدم وازهاق الأنفس فيكون هو المنصوص عليه بهذا النص ، هذا هو معنى قوله تعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } .

وفي إنجيل متى وفي كتاب اشعيا هذا هو عبدي الذي انتخبت ومحبوبي الذي رضيت عيه فسأحل روحي عليه وسيظهر للعوام الدينونة ولن يصرخ ولن يصيح ولن يسمع صوته في الأزقة أحد ، ولن يكسر قصبة مرضوضة ولن يطفئ ذبالة مدخنة حتى يخرج الدينونة المنصرة ويتكل على اسمه العوام انتهى ، وهذا نص صريح على إثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم .

وأما استدلال النصارى بهذا على كون المسيح ابن الله وخاتم الأنبياء فلا دلالة لها عليه إذ الجزاء فيه اتكال العوام عليه ، وقد صلب أو رفع ولم يتكل عليه العوام ، وقد مضى من ارتفاعه أو صلبه إلى زمان تحرير هذه السطور 1879 سنة ولم يجتمع عليه من العوام أحد إلا اليونانيون والأرمن والجروج والفرنج وبعض الحبش ، وهذا ليس بإجماع لأن أقل مراتب الإجماع أعظم النصفين ، وقد يظهر لك بالنظر في الجغرافيا أن النصارى أقل من عشر غيرهم فينتقض الإجماع .

وأما حلول الروح عليه وإظهاره الدينونة للعوام واتصافه بهذه الصفات المرضية فلا دلالة لها على كونه ابن الله وخاتم الأنبياء ، لأن نزول الروح مما يختص بالأخيار وإظهار الدينونة مما يختص بالملوك ، ولا شك أن روح القدس قد حلت عليه ، وأنه قد أخبرنا بالدينونة العظمى التي هي محمد صلى الله عليه وسلم ، لكنه يدل على أن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله وهو ممنوع .

وأما إظهار الدينونة واتكال العوام عليه ، فليس كما أوله النصارى ، بل إنما المراد بالإظهار الإخبار ، وباتكال العوام عليه ، اتكالهم على ذلك الأخبار لا غير ، وإلا لفسد المعنى لأن حلول الروح عليه وإظهاره الدينونة للعوام وعدم صراخه وصياحه على آخره مقيد بأخبار الدينونة للنصرة واتكال العوام على اسمه ووقوع المشروط عين إطلاق الشرط فيما يكون بعد ذلك .

فإن قلت سيكون سلطانا شديدا منعته لعدم وقوعه وعدم ادعاء النصارى به ، وإن قلت شيطانا عنيدا منعته لتقدس ذاته وإنكار النصارى له .

ولأني أقول إن عيسى بن مريم هو المخصوص بهذا النص فبعد إخراج الدينونة للنصرة واتكال العوام على اسمه لا بد أن ترفع عنه روح الله التي حلت عليه ، لكن المسيح هو المقصود بهذا النص ينتج أن روح الله قد رفعت عنه ، والتالي باطل فالمقدم مثله .

أما بطلان التالي فلأن روح الله لا ترتفع عن أنبيائه ، وأما بطلان المقدم فلصدق استثناء نقيضه .

إذا علمت ذلك فاعلم أيدك الله بروحه القدسية أن خلاصة هذا النص أنه تعالى قد أخبر بأن عيسى عليه السلام هو نبيه الذي انتخب في ذلك الزمان ومحبوبه الذي رضي عليه في تلك الأيام ، ووعد أنه سيحل عليه روحه ، وسيظهر الدينونة أي القضاء للعوام أي يخبر بها ووصفه بالسكوت وعدم المكابرة ردعا لليهود لأنهم يقولون أن المسيح ملك عظيم الشأن وقيد ذلك بإخراج الدينونة للنصرة التي هي محمد صلى الله عليه وسلم .

وفي بعض التراجم " حتى يخرج الحكم بالغلبة " عوض " يخرج الدينونة للنصرة " وهما مترادفتان لأنه هو الذي نصر دين الله وباتكال العوام على اسمه أي عليه يعني على إخباره يريد بذلك أن العوام سيتكلون على إخباره حين ظهور محمد صلى الله عليه وسلم فيؤمنون به ، فتكون هذه الأمور غاية بعثته عليه السلام وبعد نفوذها يؤوب إلى مآبه الأصلي سواء كان بالصلب ثم الرفع أو بالرفع بغير الصلب ، فتفكر في هذا المقام فإنه دقيق وأمعن نظرك فيه .

وفي كتاب يهودا وكتاب زكريا أن الرب قد جاء أو سيجيء بربوات مقدسة ليقضي على جميع الناس ، ويوبخ المنافقين لجميع أعمال نفاقهم التي نافقوا بها وجميع الأقوال الصعبة التي تكلم بها عليه الخاطئون انتهى .

ودلالة هذا النص على انبعاث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بديهية لا تحتاج إلى نظر لانحصار جميع هذه الصفات في ذاته المقدسة لكونه مبعوثا بالسيف أي بالجهاد ولوثوبه بربوات صناديد العرب ولقضائه على جميع الناس ولتوبيخه أهل النفاق ، ولا تقل أنه لم يقض على جميع الناس لما صرحت لك فيما قبل هذا بأن الإجماع عبارة عن أعظم النصفين .

وأما استدلال النصارى بهذه الدلالة على ربوبية المسيح نقلا عن صحيفة زكريا فلا شك في صحة النقل إلا أنه لا دلالة فيه على ما ادعوه مطلقا ولا على ثبوته بل ولا دلالة له عليه بوجه من الوجوه ، لأن المنصوص عليه بالإتيان بهذه الربوات المقدسة والقضاء على جميع الناس وتوبيخ المنافقين ينبغي أن يقوم بالأمر لجد الحديد الأخضر ، ولا دلالة لشيء من هذه الصفات على المسيح عليه السلام لأنه لم يأت إلا في زي بعض الزهاد المتخلقين بالمسوح والرماد .

وإلا فإن كان المسيح هو المقصود بهذا النص فلا شك أنه قد قهر اليهود وصلب بيلاطوس النبتي لكن المسيح هو المقصود بهذا النص فيكون كذلك وبالتالي باطل فالمقدم مثله ، أما بطلان التالي فلعدم وقوع ذلك ولإنكار النصارى إياه ، وأما بطلان المقدم فلصدق استثناء نقيضه ، وكيف يجوز العقل احتياج الإله في الانتقام من العداء إلى الجند والسلاح .

فإن قيل إنه ليس بإله لكنه ابن الله ، قلت لا أسلم عدم الألوهية لأن جميع النصارى قد اتفقوا في تفسير لهذا النص بالألوهية وقوله من الأعمال " فاحتاطوا على أنفسكم وعلى الرعية التي أقامكم الروح القدس عليها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بخالص دمه " مع أن الضمير يرجع إلى عيسى المذكور باللفظ وإلى الروح القدس الذي هو عبارة عن نفس المسيح ، فتأمل فيه .

ومع قطع النظر عن هذا كله إذا كان ابن الله يجب على أبيه أن يذب عنه .

وفي مرقص وفي متى ثم طفق يضرب لهم الأمثال ويقول اغترس رجل كرما وحوطه بحائط وبحث فيه معصرة وبنى برجا وآجره للفلاحين وسافر ، ولما جاء الموسم أرسل إلى الفلاحين خادما لينال من ثمرة الكرم شيئا فأخذوه وضربوه وردوه خائبا فأرسل إليهم خادما ثانيا فرجموه وشجوه وردوه محقرا ثم أرسل ثالثا فقتلوه وكثيرين آخرين ضربوا بعضهم وقتلوا بعضا وكان قد بقي له ابن وحيد هو محبوبه فأرسله إليهم آخر الأمر وقال إنهم سيكرمون ابني فقال الفلاحون فيما بينهم إن هذا هو الوارث فهلموا بنا نقتله فيصير الميراث لنا فأخذوه وقتلوه وأخرجوه خارج الكرم فماذا يفعل رب الكرم ، نعم إنه سيأتي ويهلك الفلاحين ويسلم الكرم إلى آخرين ألم تقرأوا هذا المرقوم قوله إن الحجرة التي رفض البناؤون صارت رأس الزاوية هذا هو ما وقع عند الرب وهو في نظركم عجيب انتهى .

وهذا من أعظم الدلائل الواردة في الإنجيل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد تغافل عنه النصارى وأولوه بتأويل باطل .

وتقرير ذلك أن هذا أول الفصل وهو جملة استئنافية ، فالغارس فيه هو الباري تعالى شأنه ، والمغرسة الدنيا ، والكرم بنو آدم ، والحائط الناموس ، والمعصرة الأحكام الناموسية ، والبرج الأنبياء ، والفلاحون الذين بلغتهم الدعوة ، فأول الرسل موسى بن عمران عليه السلام ، وثانيهم يوشع بن نون ، وثالثهم يحيى بن زكريا ، والمجهولون المتوسطون ، من موسى إلى زمان عيسى عليهما السلام ، والولد الوحيد عيسى عليه السلام .

وناهيك به من مثل لطيف نبه وأنبأ فيه عيسى على نفسه أيضا والآخرون الذين يسلم إليهم الكرم هم العرب .

فإن قلت لم كنى في الأول بالأنبياء وههنا بالأمة ، قلت تبجيلا له صلى الله عليه وسلم وإكراما لأمته إذ هم أفضل الأمم وتصديقا لقوله سبحانه : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } الآية وقوله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم : ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ) على كلام فيه ، وفيه من عظمة شأنه وسمو مكانه ما لا يخفى بل ما يفوق على شأن جميع الأنبياء فتأمله .

ثم انظر إلى حسن أداء المثل فكأنه عليه السلام قد سئل عن ذلك فقال إنه من أولاد إسماعيل ، فأجيب بأنه هل يبعث من أولاد الفتاة نبي ، فقال عليه السلام ألم تقرأوا ما قال أشعياء في قوله إن الحجرة التي رفض الخ فإن كذبتموني فما تفعلون بقول نبيكم أشعياء " فهذا الذي أنتم تستحقرونه يكون في الدرجة العليا لأنه هو قضاء الرب وهو الوفاء لعهده الذي عاهد به إبراهيم عليه السلام في بابت إسماعيل حيث قال في التكوين قوله : " وأما إسماعيل فإني قد سمعت دعاءك له وها أنذا قد باركت فيه وجعلته مثمرا وسأكثره تكثيرا وسيلد اثني عشر ملكا وسأصيرهم أمة عظيمة " .

وأما ما ذهب إليه اليهود والنصارى من أن المراد بالملوك الإثني عشر أولاد إسماعيل الإثنا عشر فهو باطل لأنهم لم يتملكوا ، ولم يدعوا الملكية ، والحق أنه في شأن الأئمة الإثني عشر من قريش كما ورد في ذلك الحديث وعهده الذي عاهد به هاجر في كتاب الخليفة حيث قال فقال لها أي هاجر ملك الرب إنك حاملة وستلدين إبنا تسميه إسماعيل لأن الله قد سمع اضطرابك وسيكون بدويا وتكون يده معارضة لجميع الناس ويد جميع الناس معارضة له .

وهذا في غاية اللطافة والعموم ، وفي كتاب متى وكتاب أشعيا وفي المزامير أن تلك الحجرة التي رفض البناؤون صارت رأس الزاوية هذا هو عمل الرب وهو في أعيننا عجيب اه .

ولا شك أن هذا النص يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من لد إسماعيل وهو المرفوض قبل وجود موسى ورأس الزاوية هو ملتقى الخطين فيكون هو الخاتم لأن طرفي الخطين يذهبان إلى حيث ما يذهبان إليه ، ولا حاجة لتعيين ابتدائها فيكون ملتقى الخطين هو منتهاهما وهذا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي ختم الله به فيلق رسله .

وقوله هذا هو عمل الرب الخ جواب سؤال مقدر تقديره هل يمكن أن تستقر الحجرة المرفوضة رأس الزاوية وهل يجوز أن يقوم من أولاد الجارية المصرية هاجر نبي ، فيكون الجواب هذا هو عمل الرب الخ وسياقه في أشعياء قوله : " هذا ما يقول الرب الإله ها أنا ذا قد ألقيت في صهيون حجرة أساس الإبل زاوية وأساس محقق لا يخجل من يعتقد بها .

فقوله : " هذا " للتحضيض والترغيب في الاستماع ، وما مفرد في معنى الكل ويقول في معنى القول ، فيكون المعنى هذا كل قول الرب الإله وصفة الرب للتعظيم والتخويف ، ها أنا ذا إلى قوله حجرة أساس الإضافة بمعنى اللام الإبل زاوية بدل من الأساس ، وأساس محقق بدل من البدل ، لا يخجل من يعتقد بها غاية إلقائها ، فيكون معنى قول أشعياء إن هذا هو قول الرب فمن يعتقد به وينتظر وقوعه ويؤمن به لن يخجلن والمراد به نفس النص .

ومعنى قول متى أن تلك الحجرة يعني إسماعيل التي رفض البناؤون إبراهيم وسارة والجمع للحوار العبراني أو للتفخيم ، والمضي في رفض لغبور الفعل فيه صارت للتأكيد رأسا للزاوية خاتما للرسل .

ووجه المطابقة إن كلام أشعياء يدل على الإخبار ، وكلام متى يدل على التحقيق ، جعلني الله ممن يسلك سواء الطريق .

وذهب النصارى إلى تأويل هذا النص في شأن عيسى عليه السلام على عادتهم وقالوا إن اليهود كانوا يحتقرونه فيكون النص في شأنه وهو باطل لأن تأكيد التعريف يفيد العهد الذهني وليس في بني إسرائيل محتقر و لا مرفوض من حيث إنه من بني إسرائيل ، وعيسى ابن مريم من بني إسرائيل فلا دلالة للنص عليه مع أن العهد الخارجي المشار إليه في أيام موسى يجب أن يكون غابرا ، والفعل ماض فيجب مضي العهد ، وإن كان المسيح بن مريم قد رفضه اليهود في أيام موسى أو قبل أيامه فهو المنصوص عليه لكنه لم يكن كذلك فلن يكون كذلك .

ولا شك أن النص دال على ما ذكرناه من نبوة محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم برمته .

وفي رومية ويوشع سأدعوا الذين ليسوا من شيعتي لي شيعة والتي ليست بمحبوبتي لي محبوبة اه .

واختلس النصارى هذا النص على عادتهم وأولوه في شأن اتباع المسيح وقالوا إنه لم يأت إلا لاستدعاء العوام مع أنه خلاف لما تواتر عليه النص ، فمنه ما ورد في متى " إني لم أرسل إلا لغنم بيت إسرائيل الضالة فجاءت الامرأة وسجدت له وقالت أعني يا رب فقال لها وهو يحاورها إنه لا يجوز أن يؤخذ خبز الأولاد ويلقى للكلاب " .

وما ورد في متى لما أرسل الحواريين للدعوة حيث قال : " بل سيروا إلى غنم بيت إسرائيل الضالة " إلى غير ذلك .

وتقرير الأول أن امرأة سريانية أتت إليه تلتمسه أن يبرئ بنتها فقال لها : إني لم أرسل إلا لأبرئ بني إسرائيل الذين هم أحباء الله ، ولا يجوز لأحد أن يأخذ خبز الأولاد ويلقى أمام الكلاب ، فإذا كان بمحض الإبراء والوعظ ليس بمأمور أن يبرئ أو يعظ غير اليهود فكيف تكون نبوته عامة .

وأما استدلالهم بما ذكره في رومية فلا دلالة له أيضا على الخصوصية لأن موضوع هذا الفصل ممانعة اليهود لليونانيين عن التنصر ، فاستدل بولوس على جواز ذلك بإضافة الاختيار إلى المختار الحقيقي حيث قال : " فمن أنت أيها الإنسان حتى تجيب الله تعالى لعل الجبلة تقول لجابلها لم صنعتني هكذا أو لعل الفخار لا سلطان له على الطين حتى يعمل من كتلة واحدة إناء للكرامة وإناء للإهانة الخ .

فذكر ذلك استدلالا على جواز اضطباع العوام استحسانا لأن الجواز غير الوجوب بخلاف نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قد أوجب عليه دعوة الثقلين وعليه الإجماع ، ولو كانت علة مجيئ عيسى دعوة العوام لما احتاج إلى الاستدلال فينتقض .

ويدل على محمد نفسه صلى الله عليه وسلم بالضرورة لأنه لم يكن من بني إسرائيل فلم يكن من شيعة الرب الخاصة ولما لم يكن من شيعته الخاصة فلم يكن له محبوبا فيكون الباري تعالى قد تبرع بإرساله وهو أبلغ وأظهر للقدرة لأن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب لما ورد في متى من سفر الخروج لأنهم من أولاد إسحاق وهو ابن سارة ومحمد صلى الله عليه وسلم من أولاد إسماعيل وهو ابن هاجر جارية سارة لكن الواجب تعالى رغم أنفهم به وصره له محبوبا وشيعته له شيعة .

وإن لم يكن كذلك فنقول إن كان اليونانيون هم الذي رفضتهم سارة لما حكمت على إبراهيم عليه السلام أن يخرجهم إلى البر وطردتهم من بيتها لما حملت جاريتها المصرية هاجر من إبراهيم ، فهذا النص صادق عليهم لكن اليونانيين ليسوا بالذين طردتهم سارة فلا يصدق عليهم النص . أما المقدم فلا دعاء اليهود بأن بني إسماعيل ليسوا من شيعة الرب وهم المرفوضون ، ولا وجه للعموم لأن غير استيلاء الخصم لا يشق مشقة استيلاء الخصم ، وأما التالي فلأن هذا النص لا يصدق إلا على من يصدق عليه المقدم لأن التعريف يفيد العهد الذهني .

وفي رومية والاستثناء إني سأعيركم بأمة أخرى وأغيظكم بأمة لا فهم لها انتهى .

استدل النصارى بهذا النص على عموم نبوة المسيح وقالوا إنه خاص في شأن اليونانيين والرومانيين وهو باطل لأنهم كانوا أعلم من اليهود في جميع الفنون .

وتقريره في هذا الفصل أن بولس كان يعظ اليهود ويعترض عليهم لما تنفروا من تنصر اليونانيين والرومانيين ويقول إنهم لم يميزوا الكتب ولم يمعنوا النظر في النواميس حيث قال الله تعالى على لسان موسى : " إني سأعيركم " الخ فهذا لا دلالة له على عمومية نبوته البتة إذ لا دلالة له على دعوة كلا الفريقين ، لكنه تنبيه لليهود حتى يرتدعوا عما كانوا عليه من الغرور ويذكروا هذا النص ويحذروا يوم يعيرهم الله بأمة أخرى ويغيظهم بأمة لا فهم لها والمراد بهم العرب أولاد هاجر .

والبرهان على ذلك أنهم كانوا أميين لأنهم هم الذين لا فهم لهم ولا علم ، وسياق النص في الاستثناء قوله : " إنهم قد عيروني بلا إله وأغاظوني بعبثهم فسأعيرهم بلا فئة وسأغيظهم بأمة لا فهم لها " قوله : " عيروني بلا إله أي بعبادة الأوثان لما اتخذوا العجل ، وأغاظوني بعبثهم أي العبث الصادر منهم لما قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فأنا سأعيرهم بلا فئة يريد بها أولاد هاجر المصرية يعني بني إسرائيل ، وأغيظهم بأمة لا فهم لها لأنهم كانوا في تلك الأيام لا يتعاطون شيئا من العلوم العقلية و لا النقلية ما سوى علم الشعر والمنازل وليسا بشيء " .

وإلا فأقول إن كان اليونانيون في زمان موسى جهالا لا دخل لهم في شيء من العلوم بحيث إن اليهود كانوا يستحقرونهم بالنظر إلى جهالتهم فهذا النص صادق عليهم لكن اليونانيين في زمان موسى كانوا أعلم من اليهود في جميع الأحوال ، فلا يكون هذا النص صادقا عليهم ، أما المقدم فلأن النصارى يدعون ذلك وأما التالي فلأنه لا شك في أن اليونانيين كانوا أعلم من اليهود في جميع العلوم سيما الإلهيات إلا علم فقه اليهود وليس بشيء .

والدليل على ذلك ما حققه داود جانز في كتابه الذي سماه صحيح داود قوله : شرع سطريوس الحكيم في تعليم المساحة في مصر أيام مطيطوس أول ملوك بابل سنة 28 ومن تاريخ الخليقة ولاطينوس اللاطيني علم الطبيعيات وبحث عن كائنات الجو زمان سقزينس 15 من ملوك بابل سنة2365 وأرقيلوس الحكيم اليوناني بحث عن حركات الأفلاك هو وولداه سردينوس وقرسيقوس عهد أمينوس 19 من ملوك بابل سنة 2475 وكانت ولادة موسى سنة 2368 ولم يزل اليونانيون يزدادون بسطة في الملك والعلم حتى ظهور رب الجنود صلى الله عليه وسلم ، ومن الذين ظهروا أيام بني إسرائيل مرقورياس علم الموسيقى سنة 2626 ولوسيوس قيصرا بحث في حركة الشمس مع فيلقوس الحكيم سنة 2925 وكان فيلقوس فاضلا مرتاضا في علم النجوم وأبقراط أو بقراط الطبيب الحاذق وإبنه أوقليدس المهندس ، وأفلاطون الحكيم بحثوا عن أكثر فنون الحكمة النظرية عهد مردخان واستير سنة 341{[787]} واسكندر ابن قبلقوس أو داراب وأستاذه لقوما خشيوس بحثا عن أكثر فنون الحكمة سنة 2442 أيام العزير عليه السلام إلى غير ذلك .

فعلى هذا يكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو المكنى عنه به وأمته المهدية هي المشار إليها .

وفي رومية وأشعياء قوله : إني قد وجدت عند من لم يطلبني وظهرت عند من لم يسأل عني انتهى .

أول النصارى هذا النص الصريح في حق اليونايين الذي اتبعوا عيسى عليه السلام في زمان الفترة وقالوا إنهم لم يطلبوا معرفة الله تعالى قبل المسيح فيختص النص بهم وسياقه في رومية يظهر لك مما قبله ولا دلالة له عليهم لأنه لا يصدق إلا على مفهوم ما قبله ، ومع تسليمه كيف يجوز العقل أن اليونانيين لم يطلبوا معرفة الواجب تعالى مع أنهم هم أول من دون الإلهيات وبحث في وحدة الواجب تعالى .

إذا تحقق ذلك فاعلم أن هذا النص يخص العرب فقط ولا يدخل فيه ولا فيما قبله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحد لأنهم هم الأميون البله الذين لم يكونوا يفهمون ما الواجب بل ولا الممكن قبل بعثته عليه السلام ، وأما قول لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل

فلمداخلة اليهود والنصارى أو بالنظر إلى الناموس الطبيعي لأن جميع الأمم الذين لم تبلغ إليهم دعوة الأنبياء لا بد لهم من ناموس يتمسكون به .

ومن المعلوم أن الأبكم مع عدم اطلاعه على شيء من هذه الأشياء إذا اشتبه أو اضطر ينظر إلى السماء وكذلك البهائم الوحشية إذا أصابها الجدب ، وساقه في أشعياء قوله : إني قد أصبت عند من لم يسأل عني ووجدت عند من لم يطلبني وقلت لأمة لم تدع باسمي أنظري إلي أنظري إلي لأني قد أظهرت يدي طوال النهار إلى فئة طاغية سالكة في سبيل سيء ممتثلة لأهوائها وفئة أي فئة تغيظني أمام وجهي وتقرب قرابينها في البساتين وتبخر في مباخر الشياطين التي تسكن المقابر وتأكل لحم الخنازير ومرق النجاسة في أوانيها .

فمن قوله أصبت قوله أنظري إلي ، إشارة إلى انحراف الناموس إلى العرب واصطفائه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ومن قوله لأني على قوله ممتثلة لأهوائها إشارة إلى اليهود ، ومن قوله وفئة إلى قوله في أوانيه إشارة ظاهرة في حق النصارى .

إذا فهمت فاعلم أن هذا النص لا يمكن أن يستدل به على غير ما ذكرته لك لأنه هو موضوعه ولا يجوز الاستدلال بالتأويلات التضمينية أو الاستلزامية فيما لم تكن قرينتهما موجودة سيما إذا كانت قرينة المطابقة فيه ظاهرة ، وفقني الله وإياك لاقتفاء سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير .

وفي لوقا وأشعياء صوت صارخ في البرية أعدوا طرق الرب وهيئوا سبله فإن كل واد سيمتلئ وكل جبل وأكمة ستضع وتعتدل المعوجات وتلين الصعبات ويشاهد خلاص الله كل ذي جسد انتهى .

وهذا من أوضح البراهين الواردة في شأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد تغافل اليهود والنصارى عنه فأوله اليهود في شأن مسيحهم الموهوم ، وأوله النصارى في حق إلههم المعلوم ، والحق أنه لا يدل على ذلك .

أما إنه لا يدل على المسيح الموهوم فلأن سياقه في أشعياء قوله سلوا شيعتي سلوهم قال إلهكم سلوا أورشليم وقولوا لها إن تعبها قد تم وخطيئتها قد غفرت لأنه قد وقع عليها من يد الرب لخطيئتها ضعفان من العذاب ، وهذا صوت صارخ يقول في الهدية هيئوا طريق الرب ووطئوا لأجل إلهنا في البادية سبيلا مرتفعا فإن كل واد سيرتفع ، وكل جبل وأكمة ستتضع وسيعتدل المعوج وستلين الصعوبات وسيظهر مجد الله وشاهده كل ذي جسم لأن فم الله نطق به ، فقال الصوت اصرخ فقال بماذا أصرخ فإن جميع الأجسام كلأ وكل مجدها كزهر الحقل فالكلأ يذبل والزهر يسقط لأن روح الرب يرف عليه ، ولا شك أن الملأ كلأ فيجف الكلأ ويسقط الزهر وكلمة الله تمكث إلى الأبد .

فمن قوله : " سلوا إلى من العذاب " ظاهر الدلالة على أن الواجب تعالى يقول لنبيه أن يسلى ويخبر أمته بما هو مزمع الوقوع وباستقامة دعائم أورشليم في آخر الزمان ، وفي قوله ضعفان من العذاب إشارة على أنها كانت قد أخطأت فانتقم الله منها بما حدث عليها من الذل بعد المسيح عليه السلام في أيام تسلط الروم والنصارى عليها إلى زمان محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد محمد صلى الله عليه وسلم أيام تسلط العرب عليها وهي أيامنا هذه إلى زمان ظهور القائم إن شاء الله تعالى ، وبعد ذلك تستقيم دعائمها وتعمر رسومها .

وقد ذكر بعض أهل العلم أن المهدي سينطلق إلى أورشليم ويصلي فيها ويجتمع هنا بالمسيح عليه السلام عند نزوله ، ومن قوله : " هذا صارخ إلى قوله نطق به " إشارة إلى يحيى بن زكريا عليه السلام لما كان يعظ بهذه الجملة على شاطئ شط الأردن وقوله : " وطئوا له في البادية سبيلا مرتفعا لا يدل على غير السبيل المستقيم من مكة إلى أورشليم البتة لأن أورشليم ليست في البادية وقوله فإن كل واد يريد به الجهال كأهل السواحل والارتفاع عبارة عن الصعود على ذروة طود الإيمان ، وكل جبل وأكمة يشير به إلى الجبابرة من الفرس والروم ، والاتضاع الانقياد إلى أوامر الدين الحنيف وسيعتدل المعوج إشارة إلى اليونانيين وحكماء الهند بقبول الشريعة الغراء لانحراف طبائعهم عن الانعطاف إلى اتباع النواميس الإلهية .

وقوله تلين الصعاب ، كناية عن العرب لأنهم هم أقوى الناس جنانا ، وأبعدهم إيمانا ، وإلى ذلك أشار بقوله : { ولو نزلناه على بعض الأعجمين } الخ وقوله : " وسيشاهد مجد الله " أي المهدي والسين للاستقبال البعيد ، والمعنى أنه إذا كملت جميع هذه الأمور ، وبعث محمد صلى الله عليه وسلم يظهر المهدي .

وقوله لأن فم الرب قد نطق به إشارة إلى وجوب وقوعه ، ومن قوله : فقال الصوت اصرخ الخ ضرب من شديد التأكيد لوجوب وقوعه ، فلا دلالة لشيء منه على مسيح اليهود الموهوب ، اللهم إلا أن يريدوا بالمسيح نفس المهدي ، فحينئذ يلزمهم الإعتراف بنبوة عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم .

وأما إنه لا يدل على عيسى بن مريم فلأن سياقه في أشعياء قد مر بيانه ولا محتمل له غيره ، ولأن لوقا لم يذكره مستدلا به عليه ، ولا قرينة هناك يؤول إليها الضمير ، بل إنه جملة مستأنفة في أول الاصحاح ، ومضمون الاصحاح على الإجمال أن لوقا أخبر أنه في زمان كذا جاء يحيى بن زكريا إلى البرية يصرخ ويقول كذا .

وهذا لا يدل على المسيح بن مريم بوجه من الوجوه ، ولكنه يدل على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وقيام المهدي لأن الجملة مستأنفة والقاعدة في المستأنفات أن تحمل على ما يناسبها فيكون ما ذكره لوقا ضربا من التأكيد لكلام أشعياء عليه السلام لا غير .

فعليك أن تتأمل في هذا البرهان فإنه في غاية اللطافة .

وفي متى ثم ضرب لهم مثلا آخر وقال إن ملكوت الله تماثل حبة خردل أخذها رجل وزرعها في مزرعته وهي أصغر جميع الحبوب ، فلما نمت صارت أعظم النباتات وأصبحت شجرة تأتي إليها طيور الجو ، وتسكن في أغصانها انتهى .

وسياق هذا المثل أن المسيح كان جالسا على ساحل البحر فاجتمع عنده القوم فأخذ يضرب لهم الأمثال ومن جملتها هذا المثل ، وقد أوله النصارى في حق من يكون محبا للمسيح مواظبا على عمل الخير ، وهل فيه يا للرجال على هذا المعنى الضعيف دلالة ولا شك أنه من الأمثال التي كان يضربها المسيح عليه السلام في شأن محمد صلى الله عليه وسلم .

وتأويل المثل أن الزارع هو الواجب تعالى والمزرعة الدنيا وحبة خردل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أصغر جميع الحبوب على بادئ الرأي لأن جميع الأمم كانوا يستهزئون بالعرب لكونهم من أهل البادية وعدم رواج العلم في أماكنهم وعدم تنعمهم باللذات الجسمانية ، واليهود كانوا يستحقرونهم لكونهم من أولاد هاجر ، فقوله : " هي أغر الحبوب " جملة حالية فلما نمت أي بلغ إلى رشده واستوفى من درجة الرسالة العامة أشده صارت أعظم النبات أي صار أشرف الرسل وأكملهم لبقاء ملته إلى قيام القيامة ، ولأنه لم يقلد ما قبله من الرسل الرسالة العامة أصبحت أي صارت شجرة تأتي إليها طيور الجو جملة حالية وقعت صفة الشجرة والمراد بطيور الجو الأمم الذين لم يقلدوا بغير الناموس وتسكن في أغصانها أي تطمئن تحت أحكام شريعته صلى الله عليه وآله وسلم .

وهذه أحد عشر نصا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ولا يقدر أحد من أهل الكتاب على إنكار وجوده فيهما ، والبراهين على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب القديمة السماوية من التوراة والإنجيل والزبور كثيرة جدا لا يسع بسطها هذا المقام ، فإن شئت الاطلاع فارجع إليها وإلى ما نقله الإسلاميون عنها في كتب الرد على النصارى .

وهذه الأدلة لها دلالة صريحة على ما نطق به القرآن الكريم في هذه الآية أعني يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وفي أمثالها وهذا مع تحريف تلك الكتب لفظا أو معنى أو بكليهما .

وأما البشارات التي وردت في حقه صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه وتعالى مشيرا إلى ذلك في قوله نقلا عن عيسى بن مريم عليه السلام : { ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } فهي كثيرة جدا أيضا سنذكر بعضه تحت الآية الكريمة المذكورة إن شاء الله .


[787]:- قوله سنة 341 كذا بالأصل، وكذا جميع الأعداد في هذه الصحيفة هي كذلك في الأصل وحرر إ هـ. مصححه.