السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (157)

فأخرجهما الله تعالى بقوله :

{ الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ } وإنما سماه رسولاً بإضافته إلى الله عز وجل لأنه الواسطة بين الله تعالى وبين خلقه لرسالته وأوامره ونواهيه وشرائعه إليهم ونبياً لأنه رفيع الدرجة عند الله ثم وصفه بالأميّ وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ وهي صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » والعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون أي : الخط والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان كذلك ، قال أهل التحقيق : وكونه أمياً بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه :

الأوّل : أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوماً مرّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فلا بدّ وأن يزيد فيها أو أن ينقص عنها بالقليل والكثير ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب ولا يقرأ يتلو كتاب الله تعالى من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك معجزة وإليه الإشارة بقوله تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } ( الأعلى ، 6 ) .

الثاني : أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لكان متهماً في أنه ربما طالع كتب الأوّلين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون } ( العنكبوت ، 48 ) .

الثالث : تعلم الخط شيء سهل فإن أقلّ الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم ثم إنه تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من الخلق ومع تلك القوّة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات وهذا الاتباع تارة يكون بالقوّة فقط لمن تقدم موته على زمانه صلى الله عليه وسلم وتارة يخرج من القوّة إلى الفعل كمن لحق زمان دعوته فمن علم الله تعالى منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ولو عمل جميع الطاعات غير ذلك وعرّفه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق إليه عند مجيئه ريب ولا يتعلل في أمره بعلة ولذلك اتبعه :

{ الذي يجدونه } أي : علماء بني إسرائيل { مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } باسمه ونعته ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسداً منهم له وخوفاً على زوال رياستهم وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه فقد زالت رياستهم ووقعوا في الذل والهوان وعن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال : أجل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبيّ إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاء ، انتهى .

شرح غريب ألفاظه : الفظ : السيئ الخلق ، والغليظ : الجافي القاسي ، والسخاب بالسين والصاد : الكثير الصياح ، والاعوجاج : ضدّ الاستقامة والملة العوجاء : الكفر ، والقلب الأغلف : الذي لا يصل إليه شيء ينفعه كأنه في غلاف .

وقوله تعالى : { يأمرهم بالمعروف } قال الزجاج : يجوز أن يكون استئنافاً ويجوز أن يكون المعنى : يجدونه مكتوباً عندهم إنه يأمرهم بالمعروف قال الرازي : ومجامع المعروف في قوله عليه الصلاة والسلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) وذلك لأنّ الموجود إمّا واجب الوجود لذاته وإمّا ممكن لذاته ، أما الواجب لذاته فهو الله تعالى ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته وإظهار الخشوع والخضوع على باب عزته والاعتراف بكونه موصوفاً بصفات الكمال مبرأ عن النقائص والآفات منزهاً عن الأضداد والأنداد ، وأما الممكن لذاته فإن لم يكن حيواناً فلا سبيل إلى إيصال الخير إليه لأنّ الانتفاع مشروط بالحياة ومع ذلك فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله ومن حيث إنّ كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاً ظاهراً وبرهاناً باهراً على توحيده وتنزيهه فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام ومن حيث إنّ لله سبحانه وتعالى في كل ذرة من ذرات المخلوقات أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيجب النظر إليها بعين الاحترام ، وأما إن كان ذلك المخلوق من جنس الحيوان فإنه يجب الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه ويدخل فيه برّ الوالدين وصلة الأرحام وبث المعروف فثبت أنّ قوله صلى الله عليه وسلم : ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف { وينهاهم عن المنكر } وهو ضد الأمور المذكورة ، وقال عطاء : يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد وبمكارم الأخلاق وبصلة الأرحام وينهاهم عن المنكر أي : عبادة الأوثان وقطع الأرحام { ويحل لهم الطيبات } أي : ما حرم عليهم في شرعهم كالشحوم { ويحرم عليهم الخبائث } كالدم ولحم الخنزير والربا والرشوة { ويضع عنهم إصرهم } أي : ثقلهم الذي كان يحمل عليهم ، وقرأ ابن عامر بفتح الهمزة الممدودة والصاد وألف بعد الصاد على الجمع والباقون بكسر الهمزة وسكون الصاد ولا ألف بعدها على التوحيد { والأغلال التي كانت عليهم } أي : ويضع الأثقال والشدائد التي كانت عليهم من الدين والشريعة وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة من البدن والثوب بالمقراض وغير ذلك من الشدائد التي كانت على بني إسرائيل شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق كما أنّ اليد لا تمتدّ مع وجود الغل فكذلك لا تمتدّ إلى الحرام الذي نهيت عنه وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم نسخ ذلك كله ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) { فالذين آمنوا به } أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم { وعزروه } أي : وقروه وعظموه وأصل التعزير المنع والنصرة وتعزير النبيّ صلى الله عليه وسلم تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه { ونصروه } على أعدائه { واتبعوا النور الذي أنزل معه } أي : القرآن سمي نوراً لأن به يستنير قلب المؤمن فيخرج من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم ، وقيل : الهدى والبيان والرسالة ، وقيل : الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور .

فإن قيل : كيف يمكن حمل النور هنا على القرآن والقرآن ما أنزل مع محمد صلى الله عليه وسلم وإنما أنزل مع جبريل عليه السلام ؟ أجيب : بأنّ معناه أنه أنزل مع نبوّته لأنّ نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات قال : { أولئك هم المفلحون } أي : الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة .