قوله عز وجل :{ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب } بمشقة وضر . قرأ أبو جعفر : ( ( بنصب ) ) بضم النون والصاد ، وقرأ يعقوب بفتحهما ، وقرأ الآخرون بضم النون وسكون الصاد ، ومعنى الكل واحد . قال قتادة و مقاتل : بنصب في الجسد ، وعذاب في المال . وقد ذكرنا قصة أيوب ومدة ابتلائه في سورة الأنبياء عليهم السلام .
ثم نمضي مع قصة الابتلاء والصبر ، والإنعام بعد ذلك والإفضال . نمضي في السياق مع قصة أيوب :
( واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب . اركض برجلك . هذا مغتسل بارد وشراب . ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب . وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث ، إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب ) . .
وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة ؛ وهي تضرب مثلاً للابتلاء والصبر . ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها . والحد المأمون في هذه القصة هو أن أيوب - عليه السلام - كان كما جاء في القرآن عبداً صالحاً أوّاباً ؛ وقد ابتلاه الله فصبر صبراً جميلاً ، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعاً ولكنه ظل على صلته بربه ، وثقته به ، ورضاه بما قسم له .
وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له - ومنهم زوجته - بأن الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه . وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر والبلاء . فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربنها عدداً عينه - قيل مائة .
وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان ، ومداخله إلى نفوس خلصائه ، ووقع هذا الإيذاء في نفسه :
( أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) . .
فلما عرف ربه منه صدقه وصبره ، ونفوره من محاولات الشيطان ، وتأذيه بها ، أدركه برحمته . وأنهى ابتلاءه ، ورد عليه عافيته .
{ واذكر عبدنا أيوب } هو ابن عيص بن إسحاق وامرأته ليا بنت يعقوب صلوات الله عليه . { إذ نادى ربه } بدل من { عبدنا } و { أيوب } عطف بيان له . { أني مسني } بأن مسني ، وقرأ حمزة بإسكان الياء وإسقاطها في الوصل . { الشيطان بنصب } بتعب . { وعذاب } ألم وهي حكاية لكلامه الذي ناداه به ولولا هي لقال إنه مسه ، والإسناد إلى { الشيطان } إما لأن الله مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثة مظلوم فلم يغثه ، أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه ، أو لسؤاله امتحانا لصبره فيكون اعترافا بالذنب أو مراعاة للأدب ، أو لأنه وسوس إلى أتباعه حتى رفضوه وأخرجوه من ديارهم ، أو لأن المراد بالنصب والعذاب ما كان يوسوس إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الجزع ، وقرأ يعقوب بفتح النون على المصدر ، وقرئ بفتحتين وهو لغة كالرشد والرشد وبضمتين للتثقيل .
{ أيوب } هو نبي من بني إسرائيل من ذرية يعقوب عليه السلام ، وهو نبي ابتلي في جسده وماله وأهله ، وسلم دينه ومعتقده ، وروي في ذلك أن الله سلط الشيطان عليه ليفتنه عن دينه ، فأصابه في ماله ، وقال له : إن أطعتني رجع مالك ، فلم يطعه ، فأصابه في أهله وولده ، فهلكوا من عند آخرهم ، وقال له : لو أطعتني رجعوا ، فلم يطعه ، فأصابه في جسده ، فثبت أيوب على أمر الله سبع سنين وسبعة أشهر ، قاله قتادة . وروى أنس عن النبي عليه السلام أن أيوب بقي في محنته ثماني عشر سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم ، ولم يصبر عليه إلا امرأته . وروي أن السبب الذي امتحن الله أيوب من أجله هو : أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكراً فلم يغيره . وروي أن السبب : كان أنه ذبح شاة وطبخها وأكلت عنده ، وجار له جائع لم يعطه منها شيئاً . وروي أن أيوب لما تناهى بلاؤه وصبره ، مر به رجلان ممن كان بينه وبينهما معرفة فتقرعاه ، وقالا له : لقد أذنبت ذنباً ما أذنب أحد مثله ، وفهم منهما شماتاً به ، فعند ذلك دعا ونادى ربه .
وقوله عليه السلام : { مسني الشيطان } يحتمل أن يشير إلى مسه حين سلطه الله عليه حسبما ذكرنا ، ويحتمل أن يريد : مسه إياه حين حمله في أول الأمر على أن يواقع الذنب الذي من أجله كانت المحنة ، إما ترك التغيير عند الملك ، وإما ترك مواساة الجار . وقيل أشار إلى مسه إياه في تعرضه لأهله وطلبه منه أن يشرك بالله ، فكان أيوب يتشكى هذا الفعل ، وكان أشد عليه من مرضه .
وقرأ الجمهور : «أني » بفتح الهمزة . وقرأ عيسى بن عمر : «إني » بكسرها .
وقوله : { أني } في موضع نصب بإسقاط حرف الجر .
وقرأ جمهور الناس : «بنُصْب » بضم النون وسكون الصاد . وقرأ هبيرة عن حفص عن عاصم : «بنَصَب » بفتح النون والصاد ، وهي قراءة الجحدري ويعقوب ، ورويت عن الحسن وأبي جعفر . وقرأ أبو عمارة عن حفص عن عاصم : «بنُصُب » بضم النون والصاد ، وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع والحسن بخلاف عنه ، وروى أيضاً هبيرة عن حفص عن عاصم بفتح النون وسكون الصاد ، وذلك كله بمعنى واحد ، معناه المشقة ، وكثيراً ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء ، وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ ، والصواب أنها لغات بمعنى ، من قولهم أنصبني الأمر ونصبني إذا شق علي ، فمن ذلك الشاعر [ الطويل ]
تبغاك نصب من أميمة منصب*** . . . . . . . . . . . . . . .
ومثله قول النابغة : [ الطويل ]
كليني لهمٍّ يا أميمة ناصب . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال القاضي أبو محمد : وقد قيل في هذا البيت إن ناصباً بمعنى منصب ، وأنه على النسب ، أي ذا نصب .
هذا مَثَل ثانٍ ذُكّر به النبي صلى الله عليه وسلم إسوة به في الصبر على أذى قومه والالتجاء إلى الله في كشف الضر ، وهو معطوف على { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } [ ص : 17 ] ولكونه مقصوداً بالمَثل أعيد معه فعل { اذْكُر } كما نبهنا عليه في قوله : { واذكر عبدنا داود } [ ص : 17 ] ، وقد تقدم الكلام على نظير صدر هذه الآية في سورة الأنبياء . وترجمة أيوب عليه السلام تقدمت في سورة الأنعام .
وإذ كانت تعدية فعل { اذكر } إلى اسم أيوب على تقدير مضاف لأن المقصود تذكّر الحالة الخاصة به كان قوله : { إذ نادى ربّه } بدل اشتمال من أيوب لأن زمن ندائه ربَّه مما تشتمل عليه أحوال أيّوب . وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله لأنه مظهر توكّله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه .
والنداء : نداء دُعاء لأن الدعاء يفتتح ب : يا رب ، ونحوه .
و { أنِّي مسَّنِي الشيطانُ } متعلق ب { نادى } بحذف الباء المحذوفة مع ( أن ) ، أي نادى : بأنّي مسني الشيطان ، وهو في الأصل جملة مبيّنة لجملة { نادى ربَّهُ } ولولا وجود ( أن ) المفتوحة التي تصيِّر الجملة في موقع المفرد لكانت جملة مبينة لجملة { نادى } ، ولما احتاجت إلى تقدير حرف الجر ليتعدّى إليها فعل { نادى } وخاصة حيث خَلَت الجملة من حرف نداء . فقولهم : إنها مجرورة بباء مقدرة جرى على اعتبارات الإِعراب تفرقة بين موقع ( أنَّ ) المفتوحة وموقع ( إنَّ ) المكسورة ولهذا الفرق بين الفتححِ والكسرِ اطّرد وجهَا فتححِ الهمزة وكسرِها في نحو « خيرُ القَول أني أحمد » .
وقد ذكرنا في قوله تعالى : { فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين في سورة } [ الأنفال : 9 ] رأينا في كون ( أن ) المفتوحة الهمزة المشددة النون مركبة من ( أَنْ ) التفسيرية ( وأنَّ ) الناسخة . والخبر مستعمل في الدعاء والشكاية ، كقوله : { رب إني وضعتها أنثى } [ آل عمران : 36 ] ، وقد قال في آية سورة [ الأنبياء : 83 ] { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } والنُصْب ، بضم النون وسكون الصاد : المشقة والتعب ، وهي لغة في نَصَب بفتحتين ، وتقدم النَصَب في سورة الكهف . وقرأ أبو جعفر { بِنُصُبٍ } بضم الصاد وهو ضم إتباع لضمّ النون .
والعذاب : الألم . والمراد به المرض يعني : أصابني الشيطان بتعَب وألم . وذلك من ضرّ حل بجسده وحاجة أصابته في ماله كما في الآية الأخرى { أني مسني الضر } [ الأنبياء : 83 ] .
وظاهر إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مسّ أيوب بهما ، أي أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب ، ففي سورةَ [ الأنبياء : 83 ] { أني مسني الضر } فأسند المسّ إلى الضر ، والضرّ هو النصب والعذاب . وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان ، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مُكرر آيات القرآن وليس النُّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها .
وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله : { بِنُصبٍ } على أنها باء التعدية لتعدية فعل { مَسَّنِي } ، أو باء الآلة مثل : ضربه بالعصا ، أو يؤول النُّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى .
والوجه عندي : أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النُّصْب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه ، أي مسنّي بوسواس سببه نُصْب وعذاب ، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النُّصْب والعذاب عنده ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقاً لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك . أو تحمل البَاء على المصاحبة ، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب ، ففي قول أيوب { أني مسَّني الشيطانُ بنُصبٍ وعذابٍ } كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلاً للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه السّلام : { وإلاَّ تصرف عنّي كيدَهن أَصْبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين } [ يوسف : 33 ] .
وتنوين « نصب وعذاب » للتعظيم أو للنوعية ، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله .