قوله سبحانه وتعالى :{ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام } الآية . قال المفسرون : " نزلت بمكة ، قوله سبحانه وتعالى : { ويسألونك عن الروح } إلى قوله : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا : يا محمد ، بلغنا عنك أنك تقول : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } أفعنيتنا أم قومك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : كلا قد عنيت ، قالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم ، قالوا : يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول : { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } فكيف يجتمع هذا علم قليل وخير كثير ؟ فأنزل الله هذه الآية " . قال قتادة : إن المشركين قالوا : إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع ، فنزلت : { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام } أي : بريت أقلاماً ، { والبحر يمده } قرأ أبو عمرو ويعقوب : والبحر بالنصب عطفاً على ما ، والباقون بالرفع على الاستئناف { يمده } أي : يزيده ، وينصب فيه { من بعده } من خلفه ، { سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } وفي الآية اختصار تقديره : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر يكتب بها كلام الله ما نفدت كلمات الله . { إن الله عزيز حكيم } وهذه الآية على قول عطاء بن يسار مدنية ، وعلى قول غيره مكية ، وقالوا : إنما أمر اليهود وفد قريش أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكة ، والله أعلم .
والآن تختم هذه الجولة بمشهد كوني يرمز إلى غنى الله الذي لا ينفد ، وعلمه الذي لا يحد ، وقدرته على الخلق والتكوين المتجددين بغير ما نهاية ، ومشيئته المطلقة التي لا نهاية لما تريد :
ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ، ما نفدت كلمات الله . إن الله عزيز حكيم . ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة . إن الله سميع بصير . .
إنه مشهد منتزع من معلومات البشر ومشاهداتهم المحدودة ، ليقرب إلى تصورهم معنى تجدد المشيئة الذي ليس له حدود ؛ والذي لا يكاد تصورهم البشري يدركه بغير هذا التجسيم والتمثيل .
إن البشر يكتبون علمهم ، ويسجلون قولهم ، ويمضون أوامرهم ، عن طريق كتابتها بأقلام - كانت تتخذ من الغاب والبوص - يمدونها بمداد من الحبر ونحوه . لا يزيد هذا الحبر على ملء دواة أو ملء زجاجة ! فها هو ذا يمثل لهم أن جميع ما في الأرض من شجر تحول أقلاما . و جميع ما في الأرض من بحر تحول مدادا . بل إن هذا البحر أمدته سبعة أبحر كذلك . . وجلس الكتاب يسجلون كلمات الله المتجددة ، الدالة على علمه ، المعبرة عن مشيئته . . فماذا ? لقد نفدت الأقلام ونفد المداد . نفدت الأشجار ونفدت البحار . . و كلمات الله باقية لم تنفد ، ولم تأت لها نهاية . . إنه المحدود يواجه غير المحدود . ومهما يبلغ المحدود فسينتهي ؛ ويبقى غير المحدود لم ينقص شيئا على الإطلاق . . إن كلمات الله لا تنفد ، لأن علمه لا يحد ، ولأن إرادته لا تكف ، ولأن مشيئته - سبحانه - ماضية ليس لها حدود ولا قيود .
وتتوارى الأشجار والبحار ، وتنزوي الأحياء والأشياء ؛ وتتوارى الأشكال والأحوال . ويقف القلب البشري خاشعا أمام جلال الخالق الباقي الذي لا يتحول ولا يتبدل ولا يغيب ؛ وأمام قدرة الخالق القوي المدبر الحكيم : إن الله عزيز حكيم . .
{ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } ولو ثبت كون الأشجار أقلاما ، وتوحيد { شجرة } لأن المراد تفصيل الآحاد . { والبحر يمده من بعده سبعة أبحر } والبحر المحيط بسعته مدادا ممدودا بسبعة أبحر ، فأغنى عن ذكر المداد بمده لأنه من مد الدواة وأمدها ، ورفعه للعطف على محل أن ومعموليها وبمده حال أو للابتداء على أنه مستأنف أو الواو للحال ، ونصبه البصريان بالعطف على اسم { أن } أو إضمار فعل يفسره { يمده } ، وقرئ " تمده " " ويمده " بالياء والتاء . { ما نفذت من كلمات الله } بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد وإيثار جمع القلة للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير . { إن الله عزيز } لا يعجزه شيء . { حكيم } لا يخرج عن علمه وحكمته أمر ، والآية جواب لليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } وقد أنزل التوراة وفيها علم كل شيء .
روي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن اليهود قالت يا محمد كيف عنينا بهذا القول { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً }{[9382]} [ الإسراء : 85 ] ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله تعالى وأحكامه وعندك أنها تبيان كل شيء ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «التوراة قليل من كثير » ونزلت هذه الآية{[9383]} ، وهذا هو القول الصحيح ، والآية مدنية وقال قوم : سبب الآية أن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينجسر فنزلت هذه الآية ، وقال السدي : قالت قريش ما أكثر كلام محمد فنزلت .
قال الفقيه الإمام القاضي : والغرض منها الإعلام بكثرة كلمات الله تعالى وهي في نفسها غير متناهية وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى ، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة ، وأيضاً فإن الآية إنما تضمنت أن { كلمات الله } لم تكن لتنفد ، وليس تقتضي الآية أنها تنفد بأكثر من هذه «الأقلام » والبحور ، قال أبو علي : المراد ب «الكلمات » والله أعلم ما في المقدور دون ما أخرج منه إلى الوجود ، وذهبت فرقة إلى أن «الكلمات » هنا إشارة إلى المعلومات .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول ينحو إلى الاعتزال من حيث يرون في الكلام أنه مخلوق وهذه الآية بحر نظر ، نور الله تعالى قلوبنا بهداه ، وقرأ أبو عمرو وحده من السبعة وابن أبي إسحاق وعيسى «والبحرَ » بالنصب عطفاً على «ما » التي هي اسم «أن » ، وقرأ جمهور الناس و «البحرُ » بالرفع على أنه ابتداء وخبره في الجملة التي بعده لأن تقديرها هذه ، حاله كذا ، قدرها سيبويه وقال بعض النحويين هو عطف على «أن » لأنها في موضع رفع بالابتداء{[9384]} ، وقرأ جمهور الناس «يَمده » من مد وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يُمده » من أمد ، وقالت فرقة هما بمعنى واحد ، وقالت فرقة مد الشيء بعضه بعضاً وأمد الشيء ما ليس منه{[9385]} ، فكأن «الأبحر السبعة » المتوهمة ليست من { البحر } الموجود ، وقرأ جعفر بن محمد «والبحر مداده » وهو مصدر ، وقرأ ابن مسعود «وبحر يمده » ، وقرأ الحسن «ما نفد كلام الله » .