قوله تعالى : { وإذ فرقنا بكم البحر } . قيل : معناه فرقنا لكم وقيل : فرقنا البحر بدخولكم إياه ، وسمي البحر بحراً لاتساعه ، ومنه قيل للفرس : بحر إذا اتسع في جريه ، وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلاً فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح ، وأخرج الله تعالى كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إليهم ، وكل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط حتى رجع كل إلى أبيه ، وألقى الله الموت على القبط فمات كل بكر لهم فاشتغلوا بدفنهم حتى أصبحوا حتى طلعت الشمس ، وخرج موسى عليه السلام في ستمائة ألف وعشرين مقاتل ، لا يعدون ابن العشرين لصغره ، ولا ابن الستين لكبره ، وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنساناً ما بين رجل وامرأة . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كان أصحاب موسى ستمائة ألف وسبعين ألفاً .
وعن عمرو بن ميمون قال : كانوا ستمائة ألف فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبون فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا : إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ على إخوته عهداً أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد علينا الطريق ، فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا فقام موسى ينادي : أنشد الله كل من يعلم أين موضع قبر يوسف عليه السلام إلا أخبرني به ومن لم يعلم به فصمت أذناه عن قولي ، وكان يمر بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته حتى سمعته عجوز لهم فقالت : أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك . فأبى عليها وقال : حتى أسأل ربي فأمره الله تعالى بإيتائها سؤلها . فقالت : إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر ، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة من الجنة إلا نزلتها معك قال : نعم قالت : إنه في جوف الماء في النيل ، فادع الله حتى يحسر عنه الماء ، فدعا الله تعالى فحسر عنه الماء ، ودعا أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف عليه السلام ، فحفر موسى عليه السلام ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من مرمر ، وحمله حتى دفنه بالشام ، ففتح لهم الطريق فساروا وموسى عليه السلام على ساقتهم وهارون على مقدمتهم ، وندر بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الديك ، فوالله ما صاح ديك تلك الليلة ، فخرج فرعون في طلب بني إسرائيل وعلى مقدمة عسكره هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف .
وقال محمد بن كعب رضي الله عنه : كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشيات ، وكان فرعون يكون في الدهم وقيل : كان فرعون في سبعة آلاف ألف ، وكان بين يديه مائة ألف ناشب ، ومائة ألف أصحاب حراب ، ومائة ألف أصحاب الأعمدة ، فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر أو الماء ، في غاية الزيادة ونظروا فإذا هم بفرعون حين أشرقت الشمس فبقوا متحيرين فقالوا : يا موسى كيف نصنع ؟ وأين ما وعدتنا ؟ هذا فرعون خلفنا ، إن أدركنا قتلنا ، والبحر أمامنا ، إن دخلناه غرقنا . قال الله تعالى : ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون . قال كلا إن معي ربي سيهدين ) . فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم يطعه ، فأوحى الله إليه أن كنه فضربه وقال : انفلق يا أبا خالد بإذن الله تعالى ، فانفلق ، فكان كل فرق كالطود العظيم ، وظهر فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق ، وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبساً فخاضت بنو إسرائيل البحر ، كل سبط في طريق ، وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضاً ، فخافوا وقال كل سبط : قد قتل إخواننا فأوحى الله تعالى إلى جبال الماء : أن تشبكي ، فصار الماء شبكات كالطبقات يرى بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين فذلك قوله تعالى( وإذ فرقنا بكم البحر ) .
قوله تعالى : { فأنجيناكم } . من آل فرعون والغرق .
قوله تعالى : { وأغرقنا آل فرعون } . وذلك أن فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منغلقاً قال لقومه : انظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا مني ادخلوا البحر ، فهاب قومه أن يدخلوه وقيل : قالوا له إن كنت رباً فادخل البحر كما دخل موسى ، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون أنثى فجاء جبريل على فرس أنثى وديق فتقدمهم وخاض البحر فلما شم أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر في أثرها وهم لا يرونه ولم يملك فرعون من أمره شيئاً وهو لا يرى فرس جبريل واقتحمت الخيول خلفه في البحر ، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يسوقهم حتى لا يشذ رجل منهم ويقول لهم : الحقوا بأصحابكم حتى خاضوا كلهم البحر ، وخرج جبريل من البحر ، وخرج ميكائيل من البحر وهم أولهم بالخروج فأمر الله تعالى البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم وغرقهم أجمعين . وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ وهو على طرف بحر من بحر فارس ، قال قتادة : بحر من وراء مصر يقال له إساف ، وذلك بمرأى من بني إسرائيل فذلك قوله تعالى : { وأنتم تنظرون } . إلى مصارعهم وقيل : إلى هلاكهم .
فإذا فرغ من التعقيب جاء بمشهد النجاة بعد مشاهد العذاب . .
( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . .
وقد وردت تفصيلات هذه النجاة في السور المكية التي نزلت من قبل . أما هنا فهو مجرد التذكير لقوم يعرفون القصة . سواء من القرآن المكي ، أو من كتبهم وأقاصيصهم المحفوظة . إنما يذكرهم بها في صورة مشهد ، ليستعيدوا تصورها ، ويتأثروا بهذا التصور ، وكأنهم هم الذين كانوا ينظرون إلى فرق البحر ، ونجاة بني إسرائيل بقيادة موسى - عليه السلام - على مشهد منهم ومرأى ! وخاصية الاستحياء هذه من أبرز خصائص التعبير القرآني العجيب .
{ وإذ فرقنا بكم البحر } فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك بسلوككم فيه . أو بسبب إنجائكم ، أو ملتبسا بكم كقوله :
تدوس بنا الجماجم والتريبا *** . . .
وقرئ { فرقنا } على بناء التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر بعدد الأسباط . { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون } أراد به فرعون وقومه ، واقتصر على ذكرهم للعلم بأنه كان أولى به ، وقيل شخصه كما روي أن الحسن رضي الله تعالى عنه كان يقول : اللهم صل على آل محمد أي شخصه واستغني بذكره عن ذكر أتباعه .
{ وأنتم تنظرون } ذلك ، أي غرقهم وإطباق البحر عليهم ، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة ، أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل ، أو ينظر بعضكم بعضا . روي أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل ، فخرج بهم فصبحهم فرعون وجنوده ، وصادفهم على شاطئ البحر ، فأوحى الله تعالى إليه أن أضرب بعصاك البحر ، فضربه فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها فقالوا : يا موسى نخاف أن يغرق بعضنا ولا نعلم ، ففتح الله فيها كوى فتراؤوا وتسامعوا حتى عبروا البحر ، ثم لما وصل إليه فرعون ورآه منفلقا اقتحم فيه هو وجنوده فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين .
واعلم أن هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ، ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه الصلاة والسلام ، ثم إنهم بعد ذلك اتخذوا العجل وقالوا : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } ونحو ذلك ، فهم بمعزل في الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل : القرآن والتحدي به والفضائل المجتمعة فيه الشاهدة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم دقيقة تدركها الأذكياء ، وإخباره عليه الصلاة والسلام عنها من جملة معجزاته على ما مر تقريره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.