نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

{[2337]}ولما كان ما فعل بهم في البحر إهلاكاً للرجال وإبقاء للنساء طبق ما فعلوا ببني إسرائيل عقبه به فقال { وإذ } أي واذكروا إذ { فرقنا }{[2338]} من الفرق وهو إفراج الواحد لحكمة إظهار التقابل - قاله الحرالي . {[2339]}فصارت لكم مسالك على عدد أسباطكم{[2340]} { بكم } أي بسببكم عقب إخراجنا لكم من أسر القبط { البحر } قال الحرالي : هو المتسع الرحب البراح{[2341]} مما هو ظاهر كالماء ، ومما هو باطن كالعلم الذي منه الحبر ، تشاركا بحروف الاشتقاق في المعنى . { فأنجيناكم } من الإنجاء وهو الإسراع في الرفعة عن الهلاك إلى نجوة الفوز - انتهى . ومن عجائب ذلك أنه كما كان الإنجاء منه كان به . قال الحرالي : وجعل البحر مفروقاً بهم كأنهم سبب فرقة ، فكأن نجاتهم هي السبب وضرب موسى {[2342]}عليه السلام{[2343]} بالعصاة{[2344]} هي الأمارة والعلامة التي انفلق البحر عندها بسببهم ، وجعل النجاة من بلاء فرعون تنجية لما كان على تدريج ، وجعل النجاة من البحر إنجاء لما كان وحياً في سرعة وقت - انتهى . { وأغرقنا آل فرعون } فيه وبه { وأنتم تنظرون } إسراعه إليهم في انطباقه عليهم ، وهذا مثل ما خاض العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه البحر الملح في ناحية البحرين أو انحسر له على اختلاف الروايتين ، ومثل ما قطع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الدجلة في وقائع الفُرس عوماً{[2345]} بالخيول بجميع عساكره وكانوا زيادة على ثلاثين ألفاً لم يُفقد منهم أحد ، وكان الفرس{[2346]} إذا تعب وثب{[2347]} فصار واقفاً على ظهر الماء كأنه على صخر ، فإذا استراح عام .

قال الحرالي : { وأغرقنا } من الغرق وهو البلاغ في الشيء إلى غايته بحسبه ، فإن كان في الهلاك فهو غاية وظهر معناه في الماء والبحر لبُعد قعره ، وهو في الماء بمنزلة الخسف في الأرض ، والنظر التحديق للصورة من غير تحقق ولا بصر - انتهى . فذكرهم{[2348]} سبحانه بنعمة الإنجاء منه بالرحيل عنه أولاً ، ثم بإغراقه الذي هو أكبر من ذلك ثانياً بما كان بعينه سبب سلامتهم واستمر يذكرهم بما تابع لهم من النعم حيث كانوا يستحقون النقم . قال الحرالي : وقررهم على نظرهم إليهم ، وفيه إشعار بفقد بصرهم لضعف بصائرهم من حيث لم يقل : وأنتم تبصرون ، ولذلك عادوا بعدها إلى أمثال ما كانوا فيه من الشك والإباء على أنبيائهم بعد ذلك - انتهى .


[2337]:العبارة من هنا على "فقال" ليست في ظ.
[2338]:فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك لسلوككم فيه أو بسبب إنجائكم أو ملتبسا بكم كقوله شعر: تدوس بنا الجماجم والتريبا وقرئ فرقنا على بناء التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر بعدد الأسباط – تفسير البيضاوي ص 54 وقال المهائمي "و" اذكروا المعرفة عظم نعمة التنجية حتى أفردت بالذكر بعد التعميم "وإذ فرقنا" أي فصلنا "بكم" أي بسبب وصولكم.
[2339]:ليست في ظ.
[2340]:ليست في ظ.
[2341]:البراح المتسع من الأرض لا زرع بها ولا شجر، أو الأرض التي لا بناء فيها ولا عمران – قطر المحيط 1 / 88 وقال أبو حيان: البحر مكان مطمئن من الأرض يجمع المياه، وأصله قيل الشق، وقيل السعة، فمن الأول البحيرة وهي التي شقت أذنها، ومن الثاني البحيرة المدينة المتسعة، البحر قيل بحر القلزم من بحار فارس وكان بين طرفيه أربعة فراسخ، وقيل بحر من بحار مصر يقال له اساف ويعرف الآن ببحر القلزم، قيل هو الصحيح.
[2342]:زيد من م.
[2343]:زيد من م.
[2344]:العصاة، عراقية – قطر المحيط 1378 وفي ظ: العصا وفي م: العصى.
[2345]:في م: غوصا
[2346]:في م: الفارس.
[2347]:في ظ: وتب – كذا.
[2348]:قال أبو حيان: وناسب نجاتهم من فرعون بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح بإلقائه وهو طفل في البحر وخروجه منه سالما، ولكل أمة نصيب من نبيها، وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح، لأن الذبح فيه تعجيل الموت بإنهار الدم، والغرق فيه إبطاء الموت ولا دم خارج، وكان ما به الحياة "وجعلنا من الماء كل شيء حي" سببا لإعدامهم من الوجود، ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة جعله الله تعالى نكالا لمن ادعى الربوبية فقال "أنا ربكم الأعلى" إذ على قدر الذنب يكون العقاب، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدعى وتغيبه في قعر الماء؛ "وأنتم تنظرون" جملة حالية، وهو من النظر بمعنى الإبصار، والمعنى والله أعلم أن هذه الخوارق العظيمة من فرق البحر بكم وإنجائكم من الغرق ومن أعدائكم وإهلاك أعدائكم بالغرق وقع وأنتم تعاينون ذلك وتشاهدونه ولم يصل ذلك إليكم بنقل بل بالمشاهدة التي توجب العلم الضروري بأن ذلك خارق من عند الله تعالى على يد النبي الذي جاءكم – والتفصيل في البحر المحيط 1 / 198.