" إذْ " في موضع نصب ، و " الفَرْق " [ والفَلْق{[1300]} ] واحد ، وهو الفصل والتمييز ، ومنه : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [ الإسراء : 106 ] أي : فَصّلناه ومَيَّزْنَاه بالقرآن والبيان .
والقرآن فُرْقان لتمييزه بين الحق والباطل .
وقرأ الزُّهْرِي{[1301]} : " فَرَّقْنَا " بتشديد الراء . أي : جعلناه فرقاً .
قوله : " بكم " الظاهر أن الباء على بابها من كونها داخلة على الآلة ، فكأنه فرق بهم كما يفرق بين الشَّيئين بما توسط بينهما .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون المعدية كقولك : " ذهبت بزيد " ، فيكون التقدير : أفرقناكم البَحْر ، ويكون بمعنى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ }
[ الأعراف : 138 ] . وهذا أقرب من الأول .
ويجوز أن تكون الباء للسببية أي : بسببكم ، ويجوز أن تكون للحال من " البحر " أي : فرقناه ملتبساً بكم ، ونظره الزمخشري بقوله : [ الوافر ]
481- . . . *** تَدُوسُ بِنَا [ الجَمَاجِمَ ]{[1302]} والتَّرِيبَا{[1303]}
أي : تَدُوسُهَا ونحن راكبوها .
قال أبو البقاء : أي : فرقنا البحر وأنتم به ، فيكون إما حالاً مقدرة أو مقارنة ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأنه لم يكن مفروقاً إلا بهم حال كونهم سالكين فيه .
وقال أيضاً : و " بكم " في موضع نصب مفعول ثانٍ ل " فَرَقْنَا " و " البحر " مفعول أول ، والباء هنا في معنى اللام .
وفيه نظر ؛ لأنه على تقدير تسليم كون الباء بمعنى اللام ، فتكون لام العلّة ، والمجرور بلام العلة لا يقال : إنه مفعول ثانٍ ، لو قلت : ضربت زيداً لأجلك ، لا يقول النحوي : " ضرب " يتعدّى لاثنين إلى أحدهما بنفسه ، وللآخر بحرف الجر .
و " البَحْر " أصله : الشِّق الواسع ، ومنه " البَحِيْرة " لِشَقِّ أذنها ، وفيه الخلاف المتقدّم في " النهر " في كونه حقيقة في الماء ، أو في الأُخْدُود ؟
ويقال : فرس بَحْر أي : واسع الجَرْي ، ويقال : أبْحَرَ الماء : ملح ؛ قال نُصَيْب : [ الطويل ]
482 وَقَدْ عَادَ مَاءُ الأَرْضِ بَحْراً فَزَادَنِي *** إلَى مَرَضِي أنْ أبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ{[1304]}
والبَحْر يكنى إياه ، وقد يطلق على العَذْب بحراً ، وهو مختص بالماء المَلْح ، وفيه خلاف . و " البَحْر " : البلدة ، يقال : هذه بَحْرتنا ، أي : بلدتنا .
و " البحر " : السُّلال يصيب الإنسان . ويقولون : لقيته صَحْرَةً بَحْرَةً ، أي : بارزاً مكشوفاً .
قوله : " فأنجيناكم " أي : أخرجناكم منه ، يقال : نجوت من كذا نِجَاءً ، ممدوداً ، ونَجَاةً ، مقصوراً ، والصدق مَنْجَاة ، وأَنْجَيْت غيري ونَجَّيته ، وقرئ بهما : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم } [ البقرة : 49 ] " فأنجيناكم " .
قوله : { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } .
" الغَرَق " : الرسوب في الماء ، يقال : غَرِقَ في الماء غَرَقاً ، فهو غَرِقٌ وغَارِقٌ أيضاً ، وأَغْرَقَ غَيْرَهُ وغَرَّقَهُ ، فهو مُغَرَّقٌ وغَرِيقٌ ؛ قال أبو النَّجْمِ : [ الرجز ]
483 مِنْ بَيْن مَقْتُولٍ وطَافٍ غَارِقٍ{[1305]} *** . . .
ويطلق على القتل بأي نوع كان ؛ قال الأعشى : [ الطويل ]
484 . . . *** ألاَ لَيْتَ قَيْساً غَرَّقَتْهُ القَوابِلُ{[1306]}
وذلك أن القَابِلَةَ كانت تغرق المولود في دم السَّلَى عام القَحْطِ ، ذكراً كان أو أنثى حتى يموت ، فهذا الأصل ، ثم جعل كل قتل تغريقاً ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
485 إذَا غَرَّقَتْ أرْبَاضُهَا ثِنْيَ بَكْرةٍ *** بِتَيْهَاءَ لَمْ تُصْبِحْ رَءُوماً سَلُوبُهَا{[1307]}
والأَرْبَاض : الحِبَال . والبَكْرَة : النَّاقة . وثِنْيُهَا : بطنها الثَّاني ، وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب .
قوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من " آل فرعون " أي : وأنتم تنظرون إغْرَاقَكُم ، والعامل " أغرقنا " ، ويجوز أن يكون حالاً من مفعول " أنجيناكم " .
والنَّظر يحتمل أن يكون بالبَصَرِ ؛ لأنهم كانوا يبصرون بعضهم بعضاً لقربهم ؛ وقيل : إن آل فرعون طغوا على الماء ، فنظروا إليهم . وأن يكون بالبصيرة والاعتبار .
وقيل المعنى : وأنتم بحال من ينظر لو نظرتم ، ولذلك لم يُذْكر له مفعول .
فصل في البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه
قال بعض المفسرين : والبَحْرُ الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه هو " نيل مصر " ، وقيل : بحر " قلزم " طرف من بحر " فارس " .
وقال قتادة : بحر من وراء " مصر " يقال له " إسَافَة " واختلفوا هل تفرق البحر عرضاً أو طولاً ؟
فقيل : إنه [ تفرق ]{[1308]} عرضاً وأن بني إسرائيل خرجوا إلى البَرِّ الذي كانوا فيه أولاً . وهذا هو الظاهر وفيه جمع بين القولين ، فإنهم دخلوا فيه أولاً عرضاً ، ثم مشوا فيه طولاً ، وخرجوا من بَرْ الطول ، وتبعهم فرعون فالْتَطَم عليه البحر ، فغرق هو وجنوده ، وصار بنو إسرائيل في بَرّ الطول ، وإلا فأي من يقابل بر " القلزم " خرجوا إليه حتى ذهبوا إلى " الطُّور " .
ومن قال : إن البحر هو النيل فلا إشْكال ؛ لأنهم كانوا في " مصر القديمة " ، وجاءوا إلى شاطئ النيل ، فانفرق لهم ، وخرجوا إلى بَرّ الشرق ، وذهبوا إلى " برية الطور " .
فصل في نعم الله على موسى وقومه في تلك الواقعة
اعلم أن هذه الواقعة تضمّنت نعماً كثيرة في الدنيا والدين في حَقّ موسى عليه الصلاة والسلام وبني إسرائيل .
أما نعم الدنيا فهي أنهم لما وقعوا إلى ذلك المَضِيقِ ، ومن ورائهم فرعون وجنوده ، وقُدَّامهم البحر ، فإن توقّفوا أدركهم فرعون وأهلكهم ، وإن ساروا أغرقوا ، فلا خوف أعظم من ذلك ، ثم إن الله تعالى نَجّاهم بغرق البحر ، فلا نِعْمَةَ أعظم من ذلك ، وأيضاً فإنهم شاهدوا هَلاَكَ أعدائهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم ، وأموالهم ، وخلّصهم من أيديهم ، ولو أنه تعالى خلّص موسى وقومه من تلك الحالة ، وما أهلك فرعون لكان الخوف باقياً ؛ لأنهم رُبّما اجتمعوا واحتالوا على من أذاهم بحيلة ، ولكن الله تعالى حَسَمَ عنهم مادة الخوف .
وأما نعم الدِّين فهي أن قوم موسى لما شَاهَدُوا تلك المُعْجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشُّكُوك والشُّبُهَات ، فإنّ دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصَّانع الحكيم ، وعلى صدق موسى تُقَرِّب من العلم الضروري ، فكأنه تعالى رفع عنهم تحمُّل النظر الدقيق ، والاستدلال ، وأيضاً لما عاينوا ذلك صار داعياً لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى ، والإقدام على تكذيب فرعون ، وأيضاً أنهم عرفوا أنّ الأمور بيد الله ، وأنه لم يكن في الدنيا أكمل ما كان لفرعون ، ولا شدّة أكثر مما كانت لبني إسرائيل ، ثم إنّ الله تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلاً ، والذليل عزيزاً ، وذلك يوجب انقطاع القَلْب عن عَلاَئق الدُّنيا ، والإقبال بالكليّة على خدمة الخالق ، والتوكُّل عليه في كل الأمور .
فإن قيل : إن فرعون لما شاهد فَلْقَ البحر وكان عاقلاً فلا بد وأن يعلم أن ذلك من فعل قادرٍ عالمٍ مخالفٍ لسائر القادرين ، فكيف بقي على الفكر ؟
والجواب : لعلّه اعتقد أن ذلك أيضاً السحر ، كما قال حين ألقى موسى عصاه ، وأخرج يده .
يروى أن فرعون كان راكباً حصاناً ، فلما أراد العُبُور في البحر خلف بني إسرائيل جَفل الحصان ، فجاء جبريل على فَرَسٍ أنثى فتقدّمهم فتبعه الحصان ، فلمّا اقتحموا البحر ، وميكائيل خلفهم يَسُوقهم حتى لم يَبْقَ منهم أحد ، وخرج جبريل وهم أولهم بالخروج أمر الله البحر فالْتَطَمَ عليهم .
أولها : أن كل نبي لأمّته نصيب مما أعطي نبيهم ، فموسى عليه الصَّلاة السلام لما نُجِّي من الغَرَقِ حين ألقي في اليَمِّ ، كذلك [ نُجّيت ] أمته من الغَرَقِ .
ثانيها : أن فرعون ادَّعى العلو والربوبية ، فأغرق ونزل إلى الدَّرْك الأسفل .
ثالثها : أنه لما ذبح أبناءهم ، والذبح هو إنْهَار الدم ، أغرقه الله في النَّهر .
روى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم " المدينة " ، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا هَذا اليوم الذي تَصُومُونَهُ " فقالوا : هذا يوم عَظِيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فنحن أَحَقّ وأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ " ، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه . وأخرجه البخاري أيضاً عن ابن عباس ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " أَنْتُمْ أَحَقّ بموسى منهم فَصُومُوا " .
فظاهر هذا أنه صلى الله عليه وسلم إنما صامه اقتداءً بموسى عليه السَّلام على ما أخبره اليَهُود ، وليس كذلك ، لما روته عائشة قالت : " كان يوم عَاشُورَاء تصومه قُرَيْشٌ في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية ، فلما قدم " المدينة " صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك صِيَامَ يوم عَاشُورَاء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تَرَكَه " . مُتَّفق عليه .
فإن قيل : يحتمل أن تكون قريش إنما صامته ؛ لأن اليهود أخبروهم ، وكانوا عندهم أصحاب عِلْمٍ ، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك في الجاهلية ، أي ب " بمكة " ، فلما قدم " المدينة " ، ووجد اليهود يصومونه قال : " نَحْنُ أَحَقّ وأولى بموسى منكم " ، فصامه اتِّبَاعاً لموسى .
فالجواب : أن هذا مبني على أنه عليه الصلاة والسَّلام كان متعبداً بشريعة{[1309]} موسى عليه الصلاة والسلام ، وليس كذلك .