البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

الفرق : الفصل ، فرق بين كذا وكذا : فصل ، وفرق كذا : فصل بعضه من بعض ، ومنه : الفرق في شعر الرأس ، والفريق ، والفرقان ، والتفرق ، والفرق ، المفروق ، كالطحن .

والفرق ضده : الجمع ، ونظائره : الفصل ، وضده : الوصل ، والشق والصدع : وضدهما اللأم ، والتمييز : وضده الاختلاط .

وقيل : يقال فرق في المعانى ، وفرق في الأجسام ، وليس بصحيح .

البحر : مكان مطمئن من الأرض يجمع المياه ، ويجمع في القلة على أبحر ، وفي الكثرة على بحور وبحار ، وأصله قيل : الشق ، وقيل : السعة .

فمن الأول : البحيرة ، وهي التي شقت أذنها ، ومن الثاني : البحيرة ، المدينة المتسعة ، وفرس بحر : واسع العدو ، وتبحر في العلم : أي اتسع ، وقال :

انعق بضأنك في بقل تبحره *** من الأباطح وأحبسها بخلدان

وجاء استعماله في الماء الحلو والماء الملح ، قال تعالى : { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } وجاء استعماله للملح ، ويقال : هو الأصل ، فيه أنشد أحمد بن يحيى :

وقد عاد عذب الماء بحراً فزادني *** على مرض أن أبحر المشرب العذب

أي صار ملحاً .

الغرق : معروف ، والفعل منه فعل بكسر العين يفعل بالفتح ، قال :

وتارات يجمّ فيغرق***

والتغريق ، والتعويص ، والترسيب ، والتغييب ، بمعنى واحد .

النظر : تصويب المقلة إلى المرئيّ ، ويطلق على الرؤية ، وتعديته بإلى ، ويعلق ، وإن لم يكن من أفعال القلوب ، فلينظر أيها أزكى طعاماً ، ونظره وانتظره وانظره : أخره ، والنظرة : التأخير .

{ وإذا فرّقنا بكم البحر } : معطوف على : وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل في إذ تلك بواسطة الحرف .

وقرأ الزهري : فرّقنا بالتشديد ، ويفيد التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر مسلكاً على عدد أسباط بني إسرائيل .

ومن قرأ : فرقنا مجرداً ، اكتفى بالمطلق ، وفهم التكثير من تعداد الأسباط .

بكم : متعلق بفرّقنا ، والباء معناها : السبب ، أي بسبب دخولكم ، أو المصاحبة : أي ملتبساً ، كما قال :

تدوس بنا الجماجم والتريبا***

أي ملتبسة بنا ، أو : أي جعلناه فرقاً بكم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما ، وهو قريب من معنى الاستعانة ، أو معناها اللام ، أي فرّقنا لكم البحر ، أي لأجلكم ، ومعناها راجع للسبب .

ويحتمل الفرق أن يكون عرضاً من ضفة إلى ضفة ، ويحتمل أن يكون طولاً ، ونقل كل : وعلى هذا الثاني قالوا : كان ذلك بقرب من موضع النجاة ، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة .

وذكر العامري : أن موضع خروجهم من البحر كان قريباً من برية فلسطين ، وهي كانت طريقهم .

البحر : قيل هو بحر القلزم من بحار فارس ، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ ، وقيل : بحر من بحار مصر يقال له أساف ، ويعرف الآن ببحر القلزم ، قيل : وهو الصحيح ، ولم يختلفوا في أن فرق البحر كان بعدد الأسباط ، اثنى عشر مسلكاً .

واختلفوا في عدد المفروق بهم ، وعدد آل فرعون ، على أقوال يضاد بعضها بعضاً ، وحكوا في كيفية خروج بني إسرائيل ، وتعنتهم وهم في البحر مقتحمون ، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده ، حكايات مطوّلة جداً لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها ، فالله أعلم بالصحيح منها .

{ فأنجيناكم } : يعني من الغرق ، ومن إدراك فرعون لكم واليوم الذي وقع فيه الفرق والنجاة والغرق كان يوم عاشوراء ؟ واستطردوا إلى الكلام في يوم عاشوراء ، وفي صومه ، وهي مسألة تذكر في الفقه .

وبين قوله : { فرّقنا بكم البحر } ، وبين قوله : { فأنجيناكم } محذوف يدلّ عليه المعنى تقديره : وإذ فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم .

{ وأغرقنا آل فرعون } والهمزة في أغرقنا للتعدية ، ويعدى أيضاً بالتضعيف .

ولم يذكر فرعون فيمن غرق ، لأن وجوده معهم مستقرّ ، فاكتفى بذكر الآل هنا ، لأنهم هم الذين ذكروا في الآية قبل هذه ، ونسب تلك الصفة القبيحة إليهم من سومهم بني إسرائيل العذاب ، وذبحهم أبناءهم ، واستحيائهم نساءهم ، فناسب هذا إفرادهم بالغرق .

وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر ، منها : { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ } { حتى إذا أدركه الغرق } { فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم } وناسب نجاتهم من فرعون بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين ، نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح ، بإلقائه وهو طفل في البحر ، وخروجه منه سالماً .

ولكل أمّة نصيب من نبيها .

وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق ، هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح ، لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم ، والغرق فيه إبطاء الموت ، ولا دم خارج ، وكان ما به الحياة { وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ } سبباً لإعدامهم من الوجود .

ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدّة ، جعله الله تعالى نكالاً لمن ادّعى الربوبية ، فقال : { أنا ربكم الأعلى } إذ على قدر الذنب يكون العقاب ، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدّعى وتغييبه في قعر الماء .

{ وأنتم تنظرون } : جملة حالية ، وهو من النظر : بمعنى الإبصار .

والمعنى ، والله أعلم : أن هذه الخوارق العظيمية من فرق البحر بكم ، وإنجائكم من الغرق ، ومن أعدائكم ، وإهلاك أعدائكم بالغرق ، وقع وأنتم تعاينون ذلك وتشاهدونه ، لم يصل ذلك إليكم بنقل ، بل بالمشاهدة التي توجب العلم الضروري بأن ذلك خارق من عند الله تعالى على يد النبي الذي جاءكم .

وقيل : وأنتم تنظرون إليهم لقرب بعض من بعض ، وقيل : إلى طفوهم على وجه الماء غرقى .

وقيل : إليهم وقد لفظهم البحر وهم العدد الذي لا يكاد ينحصر ، لم يترك البحر في جوفه منهم واحداً .

وقيل : تنظرون أي بعضكم إلى بعض وأنتم سائرون في البحر ، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له : أين أصحابنا ؟ فقال : سيروا ، فإنهم على طريق مثل طريقكم ، قالوا : لا نرضى حتى نراهم ، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على الحيطان ، فصار بها كوى ، فتراءوا وتسامعوا كلام بعضهم بعضاً .

وهذه الأقوال الخمسة النظر فيها بمعنى الرؤية ، وقيل : النظر تجوز به عن القرب ، أي وأنتم بالقرب منهم ، أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم : أنت مني بمرأى ومسمع ، أي قريب بحيث أراك وأسمعك ، قاله ابن الأنباري .

وقيل : هو من نظر البصيرة والعقل ، ومعناه : وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت إليهم .

وقيل : النظر هنا بمعنى العلم ، لأن العلم يحصل عن النظر ، فكنى به عنه ، قاله الفراء ، وهو معنى قول ابن عباس .

/خ53