الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ } . . . . . . . { الْبَحْرَ } : وذلك إنّه لما دنا هلاك فرعون أمر الله عزّ وجلّ موسى أن يسري ببني إسرائيل ، وأمرهم أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح ، وأخرج الله عزّ وجلّ كل ولد زنا في القبط من بني اسرائيل إليهم وأخرج [ من بني إسرائيل كل ولد زنا منهم ] إلى القبط حتى رجع كل واحد منهم الى أبيه ، وألقى الله عزّ وجلّ على القبط الموت فمات كل بكراً ، فاشتغلوا بدفنهم [ عن طلبهم حتى ] طلعت الشمس وخرج موسى عليه السلام في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يتعدّون ابن العشرين أصغرهم ، ولا ابن الستين أكبرهم ، سوى الذرية .

فلما أرادوا السير ضُرب عليهم التّيه فلم يدروا أين يذهبون ، فدعا موسى عليه السلام مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك . فقالوا : إنّ يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة أخذ على إخوته عهداً أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم ؛ فلذلك أنسدّ علينا الطريق ، فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا .

فقام موسى يُنادي : أنشد الله كل من يعلم أين موضع قبر يوسف إلاّ أخبرني به ، ومن لم يعلم فصمّت أذناه عن قولي . فكان يمرّ بين الرّجلين ينادي فلا يسمعان صوته حتى سمعتهُ عجوز لهم فقالت : أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كلّما سألتك ، فأبى عليها وقال : حتى أسأل ربّي ، فأمره الله عزّ وجلّ بايتاء سؤلها ، فقالت : إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر هذا في الدُّنيا ، وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل بغرفة من الجنة إلاّ نزلتها معك ، قال : نعم ، قالت : إنّه في جوف الماء في النيل ، فادعُ الله حتى يحبس عنه الماء . فدعا الله فحبس عنه الماء ، ودعا أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف ، فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من المرمر فحمله حتى دفنه بالشام ، ففتح لهم الطريق .

فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدّمتهم ، وعلم بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الدّيك . فوالله ما صاح ديك في تلك الليلة . فخرج فرعون في طلب بني اسرائيل وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف ، وكان فيهم سبعون ألف من دهم الخيل سوى سائر الشّيات ، وسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر ، والماء في غاية الزيادة .

نظروا فإذا هم بفرعون وذلك حين أشرقت الشمس ، فبقوا متحيرين وقالوا : يا موسى كيف نصنع ؟ وما الحيلة ؟ فرعون خلفنا والبحر أمامنا . قال موسى : { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] فأوحى إليه : { أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ } [ الشعراء : 63 ] فضربه فلم يُطعه ، فأوحى الله إليه أن كنّه ، فضربه موسى بعصاه وقال : انفلق أبا خالد بإذن الله ، { فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] وظهر فيها اثنا عشر طريقاً لكلّ سبط طريق ، وأرسل الله عزّ وجلّ الريح والشمس على مقر البحر حتى صار يبساً .

وقال سعيد بن جبير : أرسل معاوية الى ابن عباس فسأله عن مكان لم تطلع فيه الشمس إلاّ مرة واحدة ؟ فكتب إليه : إنه المكان الذي انفلق منه البحر لبني إسرائيل .

فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق وعن جانبه الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضاً ، فخافوا وقال كل سبط قد غرق كل إخواننا . فأوحى الله إلى حال الماء أن تشبّكي ، فصار الماء شبكات يرى بعضهم بعضا ، ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين .

ذلك قوله تعالى { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } أي فلقنا وميّزنا الماء يميناً وشمالا . { فَأَنجَيْنَاكُمْ } من آل فرعون والغرق . { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } وذلك إنّ فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منغلقاً ، قال لقومه : انظروا إلى البحر انفلق لهيبتي حتى أدرك أعدائي وعبيدي الذين أبقوا وأقتلهم ، أدخلوا البحر ، فهاب قومه أن يدخلوه ولم يكن في خيل فرعون أنثى ، وإنما كانت كلها ذكور ، فجاء جبرائيل عليه السلام على فرس أنثى وديق فتقدّمهم فخاض البحر ، فلما شمّت الخيول ريحها اقتحمت البحر في أثرها حتى خاضوا كلهم في البحر ، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يستحثهم ويقول لهم : إلحقوا بأصحابكم ، حتى إذا خرج جبرائيل من البحر وهمَّ أولهم أن يخرج ، أمر الله تعالى البحر أن يأخذهم والتطم عليهم فأغرقهم أجمعين ؛ وذلك بمرأى من بني إسرائيل ، وذلك قوله : { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } . { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } إلى مصارعهم .