قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة } . قرأ حمزة " لما " بكسر اللازم ، وقرأ الآخرون بفتحها ، فمن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما الموصولة ، ومعناه الذي يريد للذي آتيتكم ، أي أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي آتاهم من الكتاب والحكمة ، وأنهم أصحاب الشرائع ، ومن فتح اللام فمعناه للذي آتيتكم ، بمعنى الخبر ، وقيل : بمعنى الجزاء ، أي " لئن آتيتكم " ومهما آتيتكم . وجواب الجزاء قوله
قوله ( لما آتيتكم ) قرأ نافع وأهل المدينة " آتيناكم " على التعظيم ، كما قال ( وآتينا داود زبورا ) ( وآتيناه الحكم صبياً ) وقرأ الآخرون بالتاء لموافقة الخط ، ولقوله( وأنا معكم ) . واختلفوا في المعني بهذه الآية . فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين خاصة أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده ، وأن يصدق بعضهم بعضاً ، وأخذ العهود على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء ، وينصره إن أدركه ، فإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه . فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال الآخرون : بما أخذ الله الميثاق منهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا اختلفوا فمنهم من قال : إنما أخذ الميثاق على أ هل الكتاب الذين أرسل منهم النبيين ، وهذا قول مجاهد والربيع ، ألا ترى إلى قوله ( ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ) ، وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى أهل الكتاب دون النبيين يدل عليه : أن في قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب . وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، وإنما القراءة المعروفة ( وإذ اخذ الله ميثاق النبيين ) فأراد أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق إلى أممهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه ، وينصروه ، إن أدركوه . وقال بعضهم : أراد اخذ الله الميثاق على النبيين وأممهم جميعاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد على المتبوع عهد على الأتباع ، وهذا معنى قول ابن عباس ، وقال علي بن أبي طالب : لم يبعث الله نبياً ، آدم ومن بعده ، إلا أخذ عليه الميثاق والعهد في أمر محمد ، وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به ، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه .
قوله تعالى : { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { لتؤمنن به ولتنصرنه قال } يقول الله تعالى للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم عليه السلام والأنبياء فيهم كالمصابيح والسرج ، وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } أي قبلتم على ذلكم عهدي ؟ والإصر : العهد الثقيل .
قوله تعالى : { قالوا أقررنا قال } الله تعالى .
قوله تعالى : { فاشهدوا } أي فاشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم .
قوله تعالى : { وأنا معكم من الشاهدين } عليكم وعليهم ، وقال ابن عباس : ( فاشهدوا ) أي فاعلموا ، وقال سعيد بن المسيب قال الله تعالى للملائكة فاشهدوا عليهم ، كناية عن غير مذكور .
بعد ذلك يصور حقيقة الترابط بين موكب الرسل والرسالات ، على عهد من الله وميثاق ، ينبني عليه فسوق من يتولى عن اتباع آخر الرسالات ، وشذوذه عن عهد الله وناموس الكون كله على الإطلاق :
( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين : لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه . قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا : أقررنا . قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين . فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، وإليه يرجعون ؟ ) . .
لقد أخذ الله - سبحانه - موثقا رهيبا جليلا كان هو شاهده وأشهد عليه رسله . موثقا على كل رسول . أنه مهما آتاه من كتاب وحكمة ، ثم جاء رسول بعده مصدقا لما معه ، أن يؤمن به وينصره ، ويتبع دينه . وجعل هذا عهدا بينه وبين كل رسول .
والتعبير القرآني يطوي الأزمنة المتتابعة بين الرسل ؛ ويجمعهم كلهم في مشهد . والله الجليل الكبير يخاطبهم جملة : هل أقروا هذا الميثاق وأخذوا عليه عهد الله الثقيل :
( قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ ) . .
فيشهد الجليل على هذا الميثاق ويشهدهم عليه :
( قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) :
هذا المشهد الهائل الجليل ، يرسمه التعبير ، فيجف له القلب ويجب ؛ وهو يتمثل المشهد بحضرة البارىء الجليل ، والرسل مجتمعين . .
وفي ظل هذا المشهد يبدو الموكب الكريم متصلا متساندا مستسلما للتوجيه العلوي ، ممثلا للحقيقة الواحدة التي شاء الله - سبحانه - أن تقوم عليها الحياة البشرية ، ولا تنحرف ، ولا تتعدد ، ولا تتعارض ، ولا تتصادم . . إنما ينتدب لها المختار من عباد الله ؛ ثم يسلمها إلى المختار بعده ، ويسلم نفسه معها لأخيه اللاحق به . فما للنبي في نفسه من شيء ؛ وما له في هذه المهمة من أرب شخصي ، ولا مجد ذاتي . إنما هو عبد مصطفىومبلغ مختار . والله - سبحانه - هو الذي ينقل خطى هذه الدعوة بين أجيال البشر ؛ ويقود هذا الموكب ويصرفه كيف يشاء .
ويخلص دين الله - بهذا العهد وبهذا التصور - من العصبية الذاتية . عصبية الرسول لشخصه . وعصبيته لقومه . وعصبية أتباعه لنحلتهم . وعصبيتهم لأنفسهم . وعصبيتهم لقوميتهم . . ويخلص الأمر كله لله في هذا الدين الواحد ، الذي تتابع به وتوإلى ذلك الموكب السني الكريم .
{ وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } قيل إنه على ظاهره ، وإذا كان هذا حكم الأنبياء كان الأمم به أولى . وقيل معناه أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم . وقيل إضافة الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الفاعل ، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم . وقيل المراد أولاد النبيين على حذف المضاف ، وهم بنو إسرائيل ، أو سماهم نبيين تهكما لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا ، واللام في { لما } موطئه للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف ، وما تحتمل الشرطية ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية . وقرأ حمزة { لما } بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ، ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه ، أو موصولة والمعنى أخذه للذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له . وقرئ { لما } بمعنى حين آتيتكم ، أو لمن أجل ما آتيتكم على أن أصله لمن ما بالإدغام فحذف إحدى الميمات الثلاث استثقالا . وقرأ نافع " آتيناكم " بالنون والألف جميعا . { قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } أي عهدي ، سمي به لأنه يؤصر أي يشد . وقرئ بالضم وهو إما لغة فيه كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به . { قالوا أقررنا قال فاشهدوا } أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار . وقيل الخطاب فيه للملائكة . { وأنا معكم من الشاهدين } وأنا أيضا على إقراركم وتشاهدكم شاهد ، وهو توكيد وتحذير عظيم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.