{ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى : لما نفى عن أهل الكتاب قبائح أقوالهم وأفعالهم ، وكان مما ذكر أخيراً اشتراءهم بآيات الله ثمناً قليلاً ، وما يؤول أمرهم إليه في الآخرة ، وإن منهم من بدل في كتابه وغير ، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزه رسوله عن الأمر بأن يعبد هو أو غيره ، بل تفرّد بالله تعالى بالعبادة ، أخذ تعالى يقيم الحجة على أهل الكتاب وغيرهم ممن أنكر نبوّته ودينه ، فذكر أخذ الميثاق على أنبيائهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتصديق له ، والقيام بنصرته ، وإقرارهم بذلك ، وشهادتهم على أنفسهم ، وشهادته تعالى عليهم بذلك ، وهذا العهد مذكور في كتبهم وشاهد بذلك أنبياؤهم .
وقرأ أبي ، وعبد الله : ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، بدل : النبيين ، وكذا هو في مصحفيهما .
وروي عن مجاهد أنه قال : هكذا هو القرآن ، وإثبات النبيين خطأ من الكاتب ، وهذا لا يصح عنه لأن الرواة الثقاة نقلوا عنه أنه قرأ : النبيين كعبد الله بن كثير وغيره ، وإن صح ذلك عن غيره فهو خطأ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان .
والخطاب بقوله : وإذ أخذ ، يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمره أن يذكر أهل الكتاب بما هو في كتبهم من أخذ الميثاق على النبيين ، ويجوز أن يتوجه إلى أهل الكتاب أمروا أن يذكروا ذلك ، وعلى هذين التقديرين يكون العامل : أذكر ، أو : أذكروا ، ويجوز أن يكون العامل في : إذ ، قال من قوله : { قال أأقررتم } وهو حسن ، إذ لا تكلف فيه .
قيل : ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم من لفظ إذ ، والعامل فيها : اصطفى ، وهذا بعيد جداً .
وظاهر الكلام يدل على أن الله هو الآخذ ميثاق النبيين فروي عن عليّ ، وابن عباس ، وطاووس ، والحسن ، والسدّي : أن الذين أخذ ميثاقهم هم الأنبياء دون أممهم ، أخذ عليهم أن يصدّق بعضهم بعضاً ، وأن ينصر بعضهم بعضاً ، ونصرة كل نبي لمن بعده توصية من آمن به أن ينصره إذا أدرك زمانه .
وينبو عن هذا المعنى لفظ : { ثم جاءكم رسول } إلى آخر الكلام .
وقال ابن عباس أيضاً فيما روى عنه : أخذ ميثاق النبيين وأممهم على الأيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصره ، واجتزأ بذكر النبيين من ذكر أممها لأن الأمم أتباع للأنبياء ، ويدل عليه قول عليّ كرّم الله وجهه : ما بعث الله نبياً إلاَّ أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمره بأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوا زمانه .
وروي عن ابن عباس أيضاً : أنه تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه أخذ الميثاق على جميع المرسلين أن يقروا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذين القولين يكون قوله : { ثم جاءكم رسول } عني به واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يكون جنساً .
ويبعد قول ابن عباس : أن الميثاق كان حين أخرجهم من ظهر آدم كالذر .
قرأ حمزة : لما آتيناكم ، لأن الظاهر أن ذلك كان بعد إيتاء الكتاب والحكمة .
و : ميثاق ، مضاف إلى النبيين ، فيحتمل أن يكون النبيون هم الموثقون للعهد على أممهم ، ويحتمل أن يكونوا هم الموثق عليهم ، والذي يدل عليه ما قبل الآية من قوله : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله } الآية وما بعدها من قوله : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً } أن المراد بقوله { ثم جاءكم رسول } هو محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك جاء مصدقاً لما معكم .
وكثيراً ما وصف بهذا الوصف في القرآن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ألا ترى إلى قوله { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق } وكذلك وصف كتابه بأنه مصدق لما في كتبهم ، وإذا تقرر هذا كان المجاز في صدر الآية فيكون على حذف مضاف أي : وإذ أخذ الله ميثاق أتباع النبيين من أهل الكتاب ، أو ميثاق أولاد النبيين ، فيوافق صدر الآية ما بعدها ، وجعل ذلك ميثاقاً للنبيين على سبيل التعظيم لهذا الميثاق ، أو يكون المأخوذ عليهم الميثاق مقدّراً بعد النبيين ، التقدير : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم .
ويبين هذا التأويل قراءة أبي ، وعبد الله : ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، ويبين أيضاً أن الميثاق كان على الأمم قوله : { فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } ومحال هذا الفرض في حق النبيين ، وإنما ذلك في حق الأتباع .
وقرأ جمهور السبعة : لما ، بفتح اللام وتخفيف الميم وقرأ حمزة : لما ، بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، بتشديد الميم .
فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال .
أحدها : أن : ما ، شرطية منصوبة على المفعول بالفعل بعدها ، واللام قبلها موطئة لمجيء : ما ، بعدها جواباً للقسم ، وهو أخذ الله ميثاق .
و : من ، في قوله : من كتاب ، كهي ، في قوله : { ما ننسخ من آية } والفعل بعد : ما ، ماضٍ معناه الاستقبال لتقدم ، ما ، الشرطية عليه .
وقوله : ثم جاءكم ، معطوف على الفعل بعد : ما ، فهو في حيز الشرط ، ويلزم أن يكون في قوله : ثم جاءكم ، رابط يربطها بما عطفت عليه ، لأن : جاءكم ، معطوف على الفعل بعد : ما ، و : لتؤمنن به ، جواب لقوله { أخذ الله ميثاق النبيين } ونظيره من الكلام في التركيب : أقسم لأيهم صحبت ، ثم أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه ، تريد لأحسنن إلى الرجل التميمي .
فلأحسنن جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، وكذلك في الآية جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، والضمير في : به ، عائد على : رسول ، وهذا القول ، وهو أن : ما ، شرطية هو قول الكسائي .
وسأل سيبويه الخليل عن هذه الآية فقال ما نصه : ما ، ههنا بمنزلة : الذي ، ودخلت اللام كما دخلت على : إن ، حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن ، فاللام في : ما ، كهذه التي في : أن ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا انتهى ثم قال سيبويه : ومثل ذلك { لمن تبعك منهم لأملأن جهنم } إنما دخلت اللام على نية اليمين انتهى .
وقال أبو علي : لم يرد الخليل بقوله : بمنزلة الذي أنها موصولة ، بل أنها اسم ، كما أن الذي اسم ووفرَّ أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً : { وإن كلا لما ليوفينهم } وفي قوله : { وإن كل ذلك لما متاع } انتهى .
وتحصل من كلام الخليل وسيبويه أن : ما ، في : لما أتيتكم ، شرطية وقد خرجها على الشرطية غير هؤلاء : كالمازني ، والزجاج ، وأبي علي ، والزمخشري ، وابن عطية وفيه خدش لطيف جدّاً ، وهو أنه : إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه ، وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت ، ومتعلقاته متعلقاته ، فإذا قلت : والله لمن جاءني لأكرمنه ، فجواب : مَنْ ، محذوف ، التقدير : من جاءني أكرمه .
وفي الآية اسم الشرط : ما ، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم ، وهو الفعل المقسم عليه ، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بواسطة حرف الجر لا ضمير : ما ، المقدّر ، فجواب : ما ، المقدّر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك ، لأنه تعرٍّ .
والجملة الجوابية إذ ذاك من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كان من غير جنس جواب القسم فيكف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلاَّ إذا كان من جنس جواب القسم ؟ ألا ترى أنك لو قلت : والله لئن ضربني زيد لأضربنه ؟ فكيف تقدره : إن ضربني زيد أضربه ؟ ولا يجوز أن يكون التقدير : والله إن ضربني زيد أشكه لأضربنه ، لأن : لأضربنه ، لا يدل على : أشكه ، فهذا ما يرد على قول من خرج : ما ، على أنها شرطية .
وأما قول الزمخشري : ولتؤمنن ، ساد مسد جواب القسم ، والشرط جميعاً فقول ظاهره مخالف لقول من جعل : ما ، شرطية ، لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، اللهم إن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب يسد مسدهما ، فيمكن أن يقال ؛ وأما من حيث تفسير الإعراب فلا يصح ، لأن كلاًّ منهما ، أعني : الشرط والقسم ، يطلب جواباً على حدة ، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما ، لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل فيه ، فيكون في موضع جزم ، والقسم يطلبه على جهة التعلق المعنوي به بغير عمل فيه ، فلا موضع له من الإعراب .
ومحال أن يكون الشيء الواحد له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب .
والقول الثاني : قاله أبو علي الفارسي وغيره ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مبتدأة ، وصلتها : آتيناكم ، والعائد محذوف تقديره : آتيناكموه ، و : ثم جاءكم ، معطوف على الصلة ، والعائد منها على الموصول محذوف تقديره : ثم جاءكم رسول به ، فحذف لدلالة المعنى عليه ، هكذا خرجوه ، وزعموا أن ذلك على مذهب سيبويه ، وخرجوه على مذهب الأخفش : أن الربط لهذه الجملة العارية عن الضمير حصل بقوله : لما معكم ، لأنه هو الموصول ، فكأنه قيل : ثم جاءكم رسول مصدق له ، وقد جاء الربط في الصلة بغير الضمير ، إلاَّ أنه قليل : روي من كلامهم : أبو سعيد الذي رويت عن الخدري ، يريدون : رويت عنه وقال :
فيا رب ليلى أنت في كل موطن *** وأنت الذي في رحمة الله أطمع
وخبر المبتدأ ، الذي هو : ما ، الجملة من القسم المحذوف وجوابه ، وهو : لتؤمنن به ، والضمير في : به ، عائد على الموصول المبتدأ ، ولا يعود على : رسول ، لئلا تخلو الجملة التي وقعت خبراً عن المبتدأ من رابط يربطها به ، والجملة الابتدائية التي هي : لما آتيناكم ، إلى آخره هي الجملة المتلقى بها ما أجرى مجرى القسم ، وهو قوله : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } .
والقول الثالث : قاله بعض أهل العلم ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مفعولة بفعل جواب القسم ، التقدير : لتبلغن ما آتيناكم من كتاب وحكمة ، قال : إلاَّ أنه حذف : لتبلغن ، للدلالة عليه ، لأن لام القسم إنما تقع على الفعل ، فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل حذف ، ثم قال تعالى : { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { لتؤمنن به ولتنصرنه } وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ، انتهى .
ويعني : يكون : لتؤمنن به ، جواب قسم محذوف ، وهذا بعيد جداً لا يحفظ من كلامهم ، والله لزيداً تريد ليضربن زيداً .
والقول الرابع : قاله ابن أبي إسحاق ، وهو : أن يكون : لما ، تخفيف لما ، والتقدير : حين آتيناكم ، ويأتي توجيه قراءة التشديد .
وأمّا توجيه قراءة حمزة : فاللام هي للتعليل ، و : ما ، موصولة : بآتيناكم ، والعائد محذوف .
و : ثم جاءكم ، معطوف على الصلة ، والرابط لها بالموصول إما إضمار : به ، على ما نسب إلى سيبويه ، وإما هذا الظاهر الذي هو : لما معكم ، لأنه في المعنى هو الموصول على مذهب أبي الحسن .
وقول الزمخشري : فجواب : أخذ الله ميثاق النبيين هو لتؤمنن به ، والضمير في : به ، عائد على رسول ، ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور ، لو قلت : أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمر ولأحسنن إليه ، جاز .
وأجاز الزمخشري ، في قراءة حمزة ، أن تكون : ما ، مصدرية ، وبدأ به في توجيه هذه القراءة ، قال : ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ، على أن : ما ، مصدرية ، والفعلان معها أعني : آتيناكم وجاءكم ، في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل على معنى : أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف .
إلاَّ أن ظاهر هذا التعليل الذي ذكره ، وهذا التقدير الذي قدره ، أنه تعليل للفعل المقسم عليه ، فإن عنى هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية ، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخذ الميثاق لا لمتعلقه ، وهو الإيمان .
فاللام متعلقة بأخذ ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله : لتؤمنن به ، ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها .
تقول : والله لأضربن زيداً ، فلا يجوز : والله زيداً لاضربن ، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في : لما ، بقوله : لتؤمنن به .
وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب ، إذا كان ظرفاً أو مجروراً ، تقدّمه ، وجعل من ذلك عوض لا نتفرق ، وقوله تعالى : { عما قليل ليصبحن نادمين } فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله : لتؤمنن به ، وفي هذه المسألة تفصيل يذكر في علم النحو .
وذكر السجاوندي ، عن صاحب النظم : أن هذه اللام في قراءة حمزة هي بمعنى : بعد ، كقول النابغة :
توهمت آيات لها فعرفتها *** لستة أعوام وذا العام سابع
فعلى ذا لا تكون اللام في : لما ، للتعليل .
وأمّا توجيه قراءة سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، فقال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون : لما ، تؤول إلى الجزاء كما تقول : لما جئتني أكرمتك .
قال ابن عطية : ويظهر أن : لما ، هذه هي الظرفية ، أي : لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة .
وقال الزمخشري : لما ، بالتشديد بمعنى : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق وجب عليكم الإيمان به ونصرته . انتهى .
فاتفق ابن عطية والزمخشري على أن : لما ، ظرفية ، واختلفا في تقدير الجواب العامل في : لما ، على زعمهما .
فقدّره ابن عطية من القسم ، وقدّره الزمخشري من جواب القسم ، وكلا قوليهما مخالف لمذهب سيبويه في : لما ، المقتضية جواباً ، فإنها عند سيبويه حرف وجواب لوجوب ، وليست ظرفية بمعنى : حين ، ولا بمعنى غيره ، وإنما ذهب إلى ظرفيتها أبو علي الفارسي .
وقد تكلمنا على ذلك كلاماً مشبعاً في كتاب ( التكميل لشرح التسهيل ) وبينا أن الصحيح مذهب سيبويه .
وذهب ابن جني في تخريج هذه القراءة إلى أن أصلها : لمن ما ، وزيدت : من ، في الواجب على مذهب الأخفش ، ثم أدغمت كما يجب في مثل هذا ، فجاء : لمما ، فثقل اجتماع ثلاث ميمات ، فحذفت الميم الأولى فبقي : لما .
قال ابن عطية : وتفسير هذه القراءة على هذا التوجيه الملحق تفسير : لما ، بفتح الميم مخففة ، وقد تقدّم . انتهى .
وظاهر كلامه أن : من ، في قوله : لمن ما ، زائدة في الواجب على مذهب الأخفش ، وقد ذكر هذا التقدير في توجيه قراءة : لما ، بالتشديد الزمخشري ولم ينسبه إلى أحد ، فقال : وقيل أصله : لمن مّا ، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي : الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم ، فحذفوا إحداها ، فصارت : لما ، ومعناه : لمن أجل ما آتيناكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى .
وهو مخالف لكلام ابن جني في : من ، المقدّر دخولها على : ما ، فإن ظاهر كلام ابن جني أنها زائدة ، وظاهر كلام الزمخشري أنها ليست بزائدة ، لأنه جعلها للتعليل .
وفي قول الزمخشري : فحذفوا إحداهما ، إبهام في المحذوف ، وقد عينها ابن جني : بأن المحذوفة هي الأولى ، وهذا التوجيه في قراءة التشديد في غاية البعد ، وينزه كلام العرب أن يأتي فيه مثله ، فكيف كلام الله تعالى ؟ وكان ابن جني كثير التحمل في كلام العرب .
ويلزم في : لما ، على ما قرره الزمخشري أن تكون اللام في : لمن ما آتيناكم ، زائدة ، ولا تكون اللام الموطئة ، لأن اللام الموطئة إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر ، لو قلت : أقسم بالله لمن أجلك لأضربن عمراً ، لم يجز ، وإنما سميت موطئة لأنها توطىء ما يصلح أن يكون جواباً للشرط للقسم ، فيصير جواب الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه .
وقرأ نافع : آتيناكم ، على التعظيم وتنزيل الواحد منزلة الجمع ، وقرأ الجمهور : آتيتكم ، على الإفراد وهو الموافق لما قبله وما بعده ، إذ تقدّمه { وإذ أخذ الله } وجاء بعده { إصري } .
وقرأ عبد الله : رسول مصدّقاً ، نصبه على الحال ، وهو جائز من النكرة ، وإن تقدّمت النكرة .
وقد ذكرنا أن سيبويه قاسه ، ويحسن هذه القراءة أنه نكرة في اللفظ معرفة من حيث المعنى ، لأن المعني به محمد صلى الله عليه وسلم على قول الجمهور ، وقوله : لما آتيتكم ، إن أريد جميع الأنبياء ، وهو ظاهر اللفظ ، فإن أريد بالإيتاء الإنزال فليس كلهم أنزل عليهم ، فيكون من خطاب الكل بخطاب أشرف أنواعه ، ويكون التعميم في الأنبياء مجازاً ، وإن أريد بالإيتاء كونه مهتدى به وداعياً إلى العمل به صح ذلك في جميع الأنبياء ، ويكون التعميم حقيقة .
وكذلك إن أريد بالأنبياء المجاز ، وهو : أممهم ، يكون إيتاؤهم الكتاب كونه تعالى جعله هادياً لهم وداعياً .
{ ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم } أي : ثم جاء في زمانكم .
ومعنى التصديق كونه موافقاً في التوحيد والنبوّات وأصول الشرائع ، وجميعهم متفقون على أن الحق في زمان كل نبي شرعه وفي قول : رسول ، دلالة على أن الميثاق المأخوذ هو ما قرر في العقول من الدلائل التي توجب الإنقياد لأمر الله ، وفي قوله : { مصدّق لما معكم } دلالة على أن الميثاق هو شرحه لصفات الرسول في كتب الأنبياء ، فهذان الوجهان محتملان ، وأوجب الإيمان أولاً ، والنصرة ثانياً ، وهو ترتيب ظاهر .
{ قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } ظاهره أن الضمير في : قال ، عائد على الله تعالى ، وفي : أقررتم ، خوطب به الأنبياء المأخوذ عليهم الميثاق على الخلاف ، أهو على ظاهره ؟ أم هو على حذف مضاف ؟ أم هو مما حذف بعد النبيين وتقديره ميثاق النبيين على أممهم ؟ لم يكتف بأخذ الميثاق حتى استنطقه بالإقرار بالإيمان به والنصرة له .
قيل : ويحتمل أن يكون الضمير في : قال ، على كل فرد فرد من النبيين ، أي : قال كل نبي لأمته : أأقررتم ، ومعنى هذا القول على هذا الاحتمال الإثبات والتأكيد ، لم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم ، بل طالبوهم بالإقرار بالقبول .
ويكون : إصري ، على الظاهر مضافاً إلى الله تعالى ، وعلى هذا القول الثاني يكون مضافاً إلى النبي والإصر : العهد لأنه مما يؤصر أي يشدّ ويعقد .
وقرئ بضم الهمزة ، وهي مروية عن أبي بكر عن عاصم ، فيحتمل أن يكون ذلك لغة في : اصر ، كما قالوا : ناقة أسفار عبر ، وعبر أسفار ، وهي المعدّة للأسفار .
ويحتمل أن يكون جمعاً لإصار ، كإزار وأزر ومعنى الأخذ هنا : القبول .
{ قالوا أقررنا } معناه أقررنا بالإيمان به وبنصرته ، وقبلنا ذلك والتزمناه .
وثم جملة محذوفة أي : أقررنا وأخذنا على ذلك الإصر ، وحذفت لدلالة ما تقدم عليها .
{ قال فاشهدوا } الظاهر أنه تعالى قال للنبيين المأخوذ عليهم الميثاق : فاشهدوا ، ومعناه من الشهادة أي : ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأخذ الإصر ، قاله مقاتل .
وقيل : فاشهدوا هو خطاب للملائكة ، قاله ابن المسيب .
وقيل : معنى : فاشهدوا ، بينوا هذا الميثاق للخاص والعام لكيلا يبقى لأحد عذر في الجهل به ، وأصله : أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى ، قاله الزجاج ، ويكون : اشهدوا ، بمعنى : أدّوا ، لا يمعنى : تحملوا .
وقيل : معناه استيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له ، قاله ابن عباس .
وقيل : فاشهدوا ، خطاب للأنبياء إذا قلنا : إن أخذ الميثاق كان على أتباعهم أمروا بأن يكونوا شاهدين على أممهم ، وروي هذا عن عليّ بن أبي طالب .
وعلى القول : بأن المعنى في : قال أأقررتم ، أي : قال كل نبي ، يكون المعنى على بكل نبي لأمّته فاشهدوا ، أي : ليشهد بعضكم على بعض .
وقوله : فاشهدوا ، معطوف على محذوف التقدير ، قال : أأقرتم فاشهدوا ، فالفاء دخلت للعطف .
ونظير ذلك قوله : ألقيت زيداً ؟ قال : لقيته ! قال : فأحسن إليه .
التقدير : لقيت زيداً فاحسن إليه ، فما فيه الفاء بعض المقول ، ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء ، ألا ترى قال : أأقررتم ، وقوله : قالوا أقررنا ؟ لما كان كل المقول لم تدخل بالفاء .
{ وأنا معكم من الشاهدين } يحتمل الاسئناف على سبيل بالتوكيد ، ويحتمل أن يكون جملة حالية .