قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ } : في العامل في هذا الظرف أوجهٌ :
أحدُها : " اذكر " إنْ كان الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
والثاني : " اذكروا " إن كان خطاباً لأهل الكتاب .
الثالث : " اصطفى " فيكون معطوفاً على " إذ " المقدَّمةِ قبلها . وفيه بُعْدٌ ، بل امتناعٌ لبُعْدِه .
الرابع : أنَّ العامل فيه " قال " من قوله : " قال أأقررتم " وهو واضح جداً .
و { مِيثَاقَ } يجوز أَنْ يكونَ مضافاً لفاعله أو لمفعوله . وفي مصحف أُبي وعبد الله وقراءاتِهما : " ميثاقَ الذين أوتوا الكتاب " مثلَ ما آخر السورة ، وعن مجاهد بن جبر كذلك ، وقال : " أخطأ الكاتب " وهذا خطأٌ من قائله كائناً مَنْ كان ، ولا أظنُّه يصِحُّ عن مجاهد ، فإنه قرأ عليه مثلُ ابنِ كثير وأبي عمرو ابن العلاء ، ولم ينقلْ واحدٌ منهما عنه شيئاً من ذلك .
والمعنى على القراءةِ الشهيرة صحيحٌ ، وقد ذَكَر الناسُ فيها أوجهاً :
أحدُها : أنَّ الكلامَ على ظاهره وأن الله تعالى أخذ الأنبياء مواثيق أنهم يُصَدِّقون بعضَهم بعضاً وينصرُ بعضُهم بعضاً ، بمعنى أنه يوصي قومه أن ينصروا ذلك النبيَّ الذي بعدَه ولا يَخْذُلوه ، وهذا مَرْوِيٌّ عن جماعة .
الثاني : أن الميثاق مضاف لفاعله والموثَقُ عليه غيرُ مذكورٍ لفَهْمِ المعنى ، والتقدير : ميثاقَ النبيين على أممهم ، ويؤيده قراءةُ أُبيّ وعبد الله ، ويؤيدُه أيضاً قولُه : { فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ } .
الثالث : أنه على حذف مضاف تقديرُه : ميثاقُ أمم الأنبياء أو أتباعِ ، ويؤيده ما أيَّد ما قبله أيضاً وقوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } .
الرابع : قال الزمخشري : " أَنْ يُراد أهلُ الكتاب ، وأَنْ يَرُدَّ على زَعْمهم تهكماً بهم لأنهم كانوا يقولون : نحن أَوْلى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنَّا أهل كتاب ومنا كان النبيون " وهذا الذي قاله بعيد جداً ، كيف يُسَمِّيهم أنبياءً تهكماً بهم ، ولم يكن ثَم قرينةٌ تبيِّن ذلك ؟
قوله : { لَمَآ آتَيْتُكُم } العامةُ : " لَما " بفتح اللام وتخفيف الميم ، وحمزةُ وحده على كسر اللام ، وسعيد بن جبير والحسن : لَمَّا بالفتح والتشديد .
فأمَّا قراءة العامة ففيها خمسة أوجه : أحدُها : أن تكون " ما " موصولةً بمعنى الذي وهي مفعولةٌ بفعل محذوف ، وذلك الفعلُ هو جوابُ القسم ، والتقدير : والله لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتابٍ ، قال هذا القائل : لأنَّ لام القسم إنما تقع على الفعل ، فلما دَلَّت هذه اللامُ على الفعل حُذِف ، ثم قال تعالى : " ثم جاءكم رسول وهو محمد صلى الله عليه سلم " قال : " وعلى هذا التقدير يستقيم النظم " . قلت : " وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوزَ البتة ، إذ يمتنع أن تقولَ في نظيرِه من الكلام : " واللهِ لزيداً " تريد : والله لتضرِبَنَّ زيداً .
الوجه الثاني : وهو قول أبي عليّ وغيره أن تكونَ اللامُ في " لَما " جوابَ قوله : { مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ } لأنه جارٍ مَجْرَى القسم ، فهي لامُ الابتداء المُتَلَقَّى بها القسمُ ، و " ما " مبتدأةٌ موصولة و " آتيناكم " صلتُها ، والعائد محذوف تقديره : آتيناكموه ، فَحُذِفَ لاستكمال شروطه ، و " من كتاب " حال : إمَّا من الموصول وإمَّا من عائده ، وقوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } عطفٌ على الصلة ، وحينئذ فلا بُدَّ من رابطٍ يربطُ هذه الجملةَ بما قبلَها فإنَّ المعطوفَ على الصلة صلةٌ ، واختلفوا في ذلك : فذهب بعضهم إلى أنه محذوفٌ تقديره : " ثم جاءكم رسول به " فَحُذِف " به " لطول الكلام ولدلالة المعنى عليه ، وهذا لا يجوزُ ؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَفْ إلا بشروطٍ تقدَّمت ، هي مفقودةٌ هنا ، وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه ، وفيه ما قد عرفته ، ومنهم مَنْ قال : الربطُ حصل هنا بالظاهر ، لأن هذا الظاهر وهو قوله : " لِما معكم " صادقٌ على قوله : " لِما آتيناكم " فهو نظير : " أبو سعيد الذي رَوَيْتُ عن الخِدْريّ ، والحَجَّاج الذي رأيتُ ابنُ يوسف " ، وقال :
فيا رَبَّ ليلى أَنْتَ في كلِّ موطن *** وأنت الذي في رحمةِ اللهِ أَطْمَعُ
يريدون : عنه ورأيته وفي رحمته ، وقد وَقَع ذلك في المبتدأ والخبر نحو قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] وهذا رأي أبي الحسن وتقدَّم فيه بحث . ومنهم مَنْ قال : إنَّ العائدَ يكون ضميرَ الاستقرارِ العامل في " مع " ، و " لتؤمِنُنَّ به " جوابُ قسمٍ مقدرٍ ، وهذا القسمُ المقدَّرُ وجوابهُ خبرٌ للمبتدأ الذي هو " لَما آتيتكم " ، والهاء في به تعود على المبتدأ ولا تعودُ على " رسول " ، لئلا يلزَمَ خُلُوُّ الجملةِ الواقعةِ خبراً من رابطٍ يَرْبِطُها بالمبتدأ .
الثالث : كما تقدم إلا أن اللام في " لما " لامُ التوطئة ، لأنَّ أَخْذَ الميثاق في معنى الاستحلاف ، وفي " لتؤمِنُنَّ به " لامُ جوابِ القسم ، هذا كلام الزمخشري ثم قال : " وما " تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط ، و " لتؤمِنُنَّ " سادٌّ مسدَّ جوابِ القسم والشرط جميعاً ، وأن تكون بمعنى " الذي " . وهذا الذي قاله فيه نظرٌ من حيث إنَّ لام التوطئة إنما تكون مع أدوات الشرط ، وتأتي غالباً مع " إنْ " ، أما مع الموصول فلا ، فلو جَوَّز في اللام أن تكون موطئةً وأن تكونَ للابتداء ، ثم ذكر في " ما " الوجهين لحَمَلْنَا كلَّ واحد على ما يليق به .
الرابع : أن اللامَ هي الموطئة و " ما " بعدَها شرطيةٌ ، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها وهو " آتيتكم " ، وهذا الفعلُ مستقبلٌ معنًى لكونِه في حَيِّز الشرط ، ومَحلُّه الجزم والتقدير : والله لأَيَّ شيء آتيتُكم مِنْ كذا وكذا لتكونن كذا .
وقوله : { مِّن كِتَابٍ } كقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] وقد تقدَّم تقريرُه . وقوله : { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } عطفٌ على الفعلِ قبلَه فيلزُم أَنْ يكون فيه رابطٌ يربطُه بما عُطِف عليه . و " لتؤمِنُنَّ " جوابٌ لقوله : { أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ } ، وجوابُ الشرط محذوفٌ سَدَّ جوابُ القسم مَسَدَّه ، والضميرُ في " به " عائدٌ على " رسول " ، كذا قال الشيخ ، وفيه نظر لأنه عَوْدُه على اسمِ الشرط ، ويَسْتَغني حينئذ عن تقديره رابطاً ، وهذا كما تقدَّم في الوجهِ الثاني ، ونظيرهُ هذا من الكلام أن تقول : " أَحْلِفُ باللهِ لأَيَّهم رأيتُ ثم ذهب إليه رجلٌ قُرَشي لأُحْسِنَنَّ إليه " تريدُ إلى الرجل ، وهذا الوجهُ هو مذهبُ الكسائي .
وقال سأل سيبويه الخليلَ عن هذه الآية فأجابَ بأنَّ " ما " بمنزلة الذي ، ودَخَلَتِ اللامُ على " ما " كما دخلت على " إنْ " حين قلت : واللهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لأفعلنَّ ، فاللامُ التي في " ما " كهذه التي في إنْ ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا " هذا نصٌّ الخليل . قال أبو علي : " لم يُرِد الخليل بقوله " إنها بمنزلة الذي " كونَها موصولةً بل أنها اسمٌ كما أن الذي اسم ، وقرر أن تكونَ حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } [ هود : 111 ] { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ } [ الزخرف : 35 ] وقال سيبويه : " ومثلُ ذلك : { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } [ الأعراف : 18 ] إنما دَخَلَتْ اللامُ على نِيَّة اليمين " .
وإلى كونِها شرطيةً ذهب جماعةٌ كالمازني والزجَّاج والزمخشري والفارسي ، قال الشيخ : " وفيه حَدْسٌ لطيف ، وحاصلُ ما ذكر أنهم إن أرادوا تفسيرَ المعنى فيمكن أن يُقال ، وإنْ أرادوا تفسير الإِعراب فلا يَصِحُّ ؛ لأنَّ كلاً منهما أعني الشرط والقسم يطلُب جواباً على حِدة ، ولا يمكن أن يكونَ هذا محمولاً عليهما ؛ لأنَّ الشرطَ يقتضيه على جهة العملِ فيكونُ في موضع جزم ، والقسمُ يطلبُه من جهة التعلق المعنوي به من غير عمل فلا موضع له من الإِعراب ، ومُحالٌ أن يكونَ الشيء له موضعٌ من الإِعراب ولا موضع له من الإِعراب " قلت : تقدَّم هذا الإِشكالُ والجوابُ عنه .
الخامس : أنَّ أصلَها " لَمَّا " بتشديدِ الميم فخففت ، وهذا قول ابن أبي إسحاق ، وسيأتي توجيهُ قراءة التشديد فَتُعْرَفُ مِنْ ثَمَّة .
وقرأ حمزة : " لِما " بكسرِ اللامِ خفيفةَ الميم أيضاً ، وفيها أربعةُ أوجه :
أحدهما : وهو أغربُها أن تكونَ اللام بمعنى " بعد " كقوله النابعة :
تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها *** لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابعُ
يريد : فَعَرَفْتُها بعد ستة أعوام ، وهذا منقولٌ عن صاحب النظم ، ولا أدري ما حَمَله على ذلك ؟ وكيف يَنْتظم هذا كلاماً ، إذ يصير تقديرُه : وإذ أخذ اللهُ ميثاقَ النبيين بعدَما آتيناكم ، ومَنِ المخاطبُ بذلك ؟
الثاني : أن اللامَ للتعليل ، وهذا الذي ينبغي ألاَّ يُحادَ عنه وهي متعلقة ب " لتؤمِنُنَّ " ، و " ما " حينئذٍ مصدريةٌ ، قال الزمخشري : " ومعناه لأجلِ إيتائي إياكم بعضَ الكتابِ والحكمة ، ثم لمجيء رسولٍ مصدِّقٍ لتؤمِنُنَّ به ، على أنَّ " ما " مصدريةٌ ، والفعلان معها أعني : " آتيناكم " و " جاءكم " في معنى المصدرين ، واللامُ داخلةٌ للتعليل ، والمعنى : أخَذَ الله ميثاقَهم لتؤمِنُنَّ بالرسول ولتنصُرُنَّه لأجل أن آتيتكم الحكمة ، وأنَّ الرسول الذي أمركم بالإِيمان ونصرتِه موافقٌ لكم غيرُ مخالِفٍ . قال الشيخ : " ظاهر هذه التعليل الذي ذكره والتقدير الذي قدره أنه تعليلٌ للفعلِ المُقْسَم عليه ، فإنْ عَنَى هذا الظاهرَ فهو مُخالِفٌ لظاهر الآية ، لأنَّ ظاهرَ الآيةِ يقتضي أن يكونَ تعليلاً لأخْذِ الميثاق لا لمتعلَّقه وهو الإِيمان ، فاللامُ متعلقةٌ بأخذ ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقةً بقوله : لتؤمِنُنَّ به " ، ويمتنع ذلك من حيث إنَّ اللام المتلقَّى بها القسمُ لا يعمل ما بعدَها فيما قبلها ، تقول : والله لأضربَنَّ زيداً ، ولا يجوزُ : والله زيداً لأضربنَّ ، فعلى هذا لا يجوزُ أن تتعلق اللام في " لِما " بقوله : " لتؤمِننَّ " . وقد أجاز بعضُ النحويين في معمول الجواب إذا كان ظرفاً أو مجروراً تقدُّمَه ، وجَعَلَ من ذلك :
1350 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** *** . عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ
وقولَه تعالى : { عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [ المؤمنون : 40 ] فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله : " لَتُؤْمِنُنَّ " وفي هذ المسألةِ تفصيلٌ يُذْكَرُ في علم النحو ، قلت : أمَّا تعلُّق اللامِ بلتؤمِنُنَّ من حيث المعنى فإنَّه أظهرُ مِنْ تعلُّقِها بأخذ ، وهو واضحٌ فلم يَبْقَ إلاَّ ما ذَكَر مِنْ مَنْع تقديمِ معمولِ الجواب المقترنِ باللام عليه وقد عُرف ، وقد يكون الزمخشري مِمَّن يرى جوازه .
والثالث : أن تتعلَّقَ اللام بأخذ أي : لأجل إيتائي إياكم كيتَ وكيتَ أخذْتُ عليكم الميثاق ، وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه : لرعاية ما أتيتكم .
الرابع : أن تتعلَّقَ بالميثاق لأنه مصدر ، أي توثَّقْنا عليهم لذلك . هذه الأوجهُ بالنسبة إلى اللام .
وأمَّا [ ما ] ففيها ثلاثةُ أوجه :
أحدُها : أَنْ تكونَ مصدرية وقد تقدَّم تحريرُه عند الزمخشري .
والثاني : أنها موصولة بمعنى الذي وعائدُها محذوفٌ و " ثم جاءكم " عطف على الصلة ، والرابط لها بالموصول : إمَّا محذوفٌ تقديره : " به " وهو رأيُ سيبويه ، وإمَّا لقيامِ الظاهر مقامَ المضمرِ وهو رأيُ الأخفش ، وإِمَّا ضميرُ الاستقرار الذي تضمَّنه " معكم " وقد تقدَّم تحقيق ذلك .
والثالث : أنها نكرةٌ موصوفة ، والجملة بعدها صفتُها وعائدُها محذوف ، و " ثم جاءكم " عطفٌ على الصفة ، والكلامُ في الرابطِ كما تقدَّم فيها وهي صلة ، إلا أنَّ إقامة الظاهر مُقام الضمير في الصفة ممتنع ، لو قلت : " مررت برجلٍ قام أبو عبد الله " على أن يكون " قام أبو عبد الله " صفة لرجل ، والرابطُ أبو عبد الله ، إذ هو الرجل في المعنى لم يَجُز ذلك ، وإن جاز في الصلة والخبر عند مَنْ يرى ذلك ، فيتعيَّن عَوْدُ ضمير محذوف .
وجوابُ قوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ } قوله : { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } كما تقدم ، والضمير فيه " به " عائدٌ على " رسول " ، ويجوز الفصلُ بين القسم والمقسم عليه بمثلِ هذا الجار والمجرور لو قلت " أقسمتُ للخير الذي بلغني عن عمرٍو لأحْسِنَنَّ إليه " جاز .
وقوله : { مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } : إمَّا حالٌ من الموصول أو من عائده ، وإمَّا بيانٌ له فامتنع في قراءةِ حمزة أن تكونَ " ما " شرطيةً كما امتنع في قراءة الجمهورِ أن تكونَ مصدريةً .
وأمَّا قراءةُ سعيد والحسن ففيها أوجه :
أحدها : أَنَّ " لَمَّا " هنا ظرفيةٌ بمعنى حين فتكونُ ظرفية . ثم القائلُ بظرفيتها اختلف تقديرُه في جوابها ، فذهب الزمخشري إلى أن الجوابَ مقدرٌ من جنس جواب القسم فقال : " لَمَّا " بالتشديد بمعنى حين ، أي : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسولٌ مصدِّق وَجَبَ عليكم الإِيمانُ به ونصرتُه " . وقال ابن عطية : " ويظهر أن " لمَّا " هذه الظرفيةُ أي : لَمَّا كنتم بهذه الحالِ رؤساءَ الناس وأماثِلَهم أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يُؤْخَذ ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة " فقدَّر ابن عطية جوابَها من جنس ما سبقها ، وهذا الذي ذهبا إليه مذهب مرجوح قال به الفارسي ، والجمهور : سيبويه وأتباعُه على خلافه ، وقد تقدم تحقيق هذا الخلاف فلا حاجة لذكره . وقال الزجاج : " أي لَمَّا آتاكم الكتاب والحكمة أخذ عليكم الميثاق ، وتكون " لمَّا " تَؤُول إلى الجزاء كما تقول : لَمّا جِئْتني أكرمتُك " وهذه العبارةُ لا يؤخذ منها كونُ " لَمّا " ظرفيةً ولا غير ذلك ، إلا أن فيها عاضداً لتقدير ابن عطية جوابَها من جنس ما تقدمها بخلاف تقدير الزمخشري .
الثاني : أن " لَمَّا " حرفُ وجوبٍ لوجوبٍ ، وقد تقدَّم دليله وأنه مذهب سيبويه ، وجوابُها كما تقدَّم مِنْ تقديري ابن عطية والزمخشري . وفي قول ابن عطية : " فيجيء على المعنى كالمعنى في قراءة حمزة " نظر ؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل وهذه القراءةُ لا تعليل فيها ، اللهم إلا أن يقال : لَمَّا كانت " لَمَّا " تحتاجُ إلى جوابٍ أشبه ذلك العلةَ ومعلولَها ، لأنك إذا قلت : " لَمَّا جِئْتَني أكرمتُك " في قوةِ : أكرمتُك لأجلِ مجيئي إليك ، فهي من هذه الجهةِ كقراءة حمزة .
والثالث : أنَّ الأصلَ : لَمِنْ ما فأدغمت النون في الميم لأنها تقاربُها ، والإِدغامُ هنا واجب ، ولما اجتمع ثلاثُ ميمات ، ميمِ مِنْ ، وميمِ " ما " والميمِ التي انقلبت من نون " من " لأجل الإِدغام فحصل ثقل في اللفظ .
قال الزمخشري : " فحذفوا إحداها " . قال الشيخ : " وفيه إبهامٌ " ، وقد عَيَّنها ابن عطية بأن المحذوفة هي الأولى ، قلت : وفيه نظر ، لأنَّ الثقلَ إنما حصل بما بعد الأولى ، ولذلك كان الصحيح في نظائره إنما هو حَذْفُ الثواني نحو : " تَنَزَّل " و " تَذَكَّرون " ، وقد ذكر أبو البقاء أنّ المحذوفة هي الثانية ، قال : " لضَعْفها بكونِها بدلاً وحصولِ التكرير بها " .
و " مِنْ " هذه التي في " لَمِنْ ما " زائدة في الواجب على رأي أبي الحسن الأخفش . وهذا تخريج أبي الفتح ، وفيه نظرٌ بالنسبة إلى ادعائه زيادة
" مِنْ " فإن التركيب يقلق على ذلك ، ويبقى المعنى غيرَ ظاهر .
الرابع : أنَّ الأصل أيضاً : لَمِنْ ما ، فَفُعِل به ما تقدم من القلب والإِدغام ثم الحذفِ ، إلا أن " مِنْ " ليست زائدةً بل هي تعليليَّةٌ ، قال الزمخشري :
" ومعناه لمِنْ أجل ما أتيتكم لتؤمنُنَّ به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى " قلت : وهذا الوجه أوجهُ ممَّا تقدَّمه لسلامته من ادِّعاء زيادة " مِنْ " ولوضوح معناه . قال الشيخ : " وهذا التوجيهُ في غاية البُعْد ويُنَزَّه كلامُ العرب أن يَأْتيَ فيه مثلُه فكيف في كتاب اللهِ عز وجل ! وكان ابن جني كثيرَ التمحُّلِ في كلام العرب ، ويلزم في " لَمّا " هذه على ما قرره الزمخشري أن تكونَ اللامُ في " لِمنْ ما آتيناكم " زائدةً ، ولا تكونُ اللامَ الموطئة ، لأنَّ الموطئةَ إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر ، لو قلت : " أٌقسم بالله لمِنْ أجلك لأضربن زيداً " لم يَجُزْ ، وإنما سُمِّيت موطئةً لأنها تُوَطِّىء ما يَصْلُح أن يكونَ جواباً للشرط للقسم ، فيصيرُ جوابُ الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالةِ جواب القسم عليه " قلت : قد تقدَّم له هو أنَّ " ما " في هذه القراءة يجوز أن تكونَ موصولة بمعنى الذي ، وأن اللام معها موطئةٌ للقسمِ ، وقد حصر هنا أنها لا تدخل إلا على أدوات الشرط فأحدُ الأمرين لازمٌ له ، وقد قَدَّمْتُ أنَّ هذه هو الإِشكالُ على مَنْ جَعَلَ " ما " موصولةً وجَعَلَ اللامَ موطئةً .
وقرأ نافع : " آتيناكم " بضميرِ المعظِّم نفسَه ، والباقون : " آتيتكم " بضميرِ المتكلم وحدَه ، وهو موافقٌ لما قبله وما بعده من صيغة الإِفراد في قولِه : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ } ، وجاء بعده " إصري " .
وفي قوله " آتيتكم " أو " آتيناكم " على كلا القراءتين التفاتان أحدُهما : الخروجُ من الغيبة إلى التكلم في قوله آتينا أو آتيتُ ، لأنَّ قبله ذِكْرَ الجلالة المعظمة في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ } ، والثاني : الخروجُ من الغَيْبَة إلى الخطاب في قوله : " آتيناكم " لأنه قد تقدَّمه اسم ظاهر وهو " النبيين " ، إذ لو جرى على مقتضى تقدُّم الجلالة والنبيين لكان التركيب : وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين لما آتاهم من كتاب كذا ، قال بعضهم : " وفيهِ نظرٌ لأنَّ مثلَ هذا لا يسمى التفاتاً في اصطلاحِهم ، وإنما يسمى حكاية الحال ، ونظيرُه قولُك : حلف زيد ليفعلنَّ ولأفعلن ، فالغَيْبَةُ مراعاةً لتقدُّم الاسم الظاهر ، والتكلُم حكايةً لكلامِ الحالفِ ، والآية الكريمة من هذا " .
وأصل لتؤمِنُنَّ به ولتنصُرُنَّه : لتؤمنونَنّ ولتنصرونَنّ ، فالنون الأولى علامة الرفع ، والمشددة بعدها للتوكيد ، فاستُثْقِلَ توالي ثلاثةِ أمثال فحذفوا نونَ الرفع لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد ، فالتقى بحذفها ساكنان ، فَحُذِفَت الواوُ لالتقاء الساكنين .
وقرأ عبد الله : " مُصَدِّقاً " نصبٌ على الحال من النكرة ، وقد قاسه سيبويه وإنْ كان المشهورُ عنه خلاَفهُ ، وحَسَّن ذلك هنا كونُ النكرةِ في قوة المعرفة من حيث إنه أُريد بها شخصٌ معين وهو محمد صلى الله عليه وسلم . واللام في " لَما " زائدةٌ لأنَّ العاملَ فرع وهو مُصَدِّق والأصل : مُصَدِّقٌ ما معكم .
قوله : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ } : فاعلٌ " قال " يجوز أن يكونَ ضميرَ الله تعالى وهو الظاهر ، وأن يكون ضَميرَ النبي الذي هو واحد النبيين ، خاطب بذلك أمته ، ومتعلِّقٌ الإِقرارِ محذوفٌ ، أي : أأقرتم بذلك كله ، والاستفهامُ على الأولِ مجازٌ ، إذ المرادُ به التقريرُ والتوكيدُ عليهم لاستحالتِهِ في حق الباري تعالى ، وعلى الثاني هو استفهامٌ حقيقةً ، و " إصْري " على الأول الياء لله تعالى وعلى الثاني للنبي .
وقرأ العامة " إصري " بكسر الهمزة وهي الفصحى ، وقرأ أبو بكر عن عاصم في رواية : " أُصْري " بضمها ، ثم المضمومُ يُحتمل أن يكون لغةً في المكسور وهو الظاهر ، ويحتمل أن يكونَ جمع إصار ، ومثله أُزُر في جمع إزار ، وقد تَقَدَّم في أواخر البقرة الكلامُ عليه مشبعاً .
وقوله : { أَقْرَرْنَا } أي : بالإِيمان به وتبصرتِه . وفي الكلام حذفُ جملةٍ أيضاً ، حُذِفَتْ لدلالةِ ما تقدَّم عليها ، إذا التقديرُ : قالوا : أقررنا وأخذنا إصْرَكَ على ذلك كله .
وقوله : { فَاشْهَدُواْ } هذه الفاءُ عاطفة على جملة مقدرةٍ تقديره : قال : أأقررتم فاشهدوا ، ونظيرُ ذلك : " أَلقِيتَ زيداً " ؟ قال : " لَقِيتُه " ، قال :
" فَأَحسِنْ إِليه " ، والتقدير : أَلَقِيتَ زيداً فأحسن إليه ، فما فيه الفاءُ بعضُ المقول ، ولا جائز أن يكونَ كلَّ المقولِ لأجل الفاء ، ألا ترى قولَه :
" قال : أأقررتم " وقوله : " قالوا : أقررنا " لَمَّا كان كلَّ المقول لم يُدْخِلِ الفاء ، قاله الشيخ ، والمعنى واضح بدونه .
قوله : { مِّنَ الشَّاهِدِينَ } هذا هو الخبرُ لأنَّه مَحَطُّ الفائدة ، وأمَّا قوله : " معكم " فيجوزُ أن يكون حالاً أي : وأنا من الشاهدين مصاحباً لكم ، ويجوز أن يكونَ منصوباً بالشاهدين ظرفاً له عند مَنْ يرى تجويز ذلك ، ويمتنع أن يكونَ هو الخبرَ إذ الفائدةُ به غيرُ تامة في هذا المقام ، والجملةُ من قوله : { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ } يجوز ألاَّ يكونَ لها محلٌّ لاستئنافِها ، ويجوز أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " فاشْهدوا " .